لقد ظل رجال العزم والإرادة هؤلاء صامدين وثابتين حيال تلك الجموع التي تردَّت وهبطت إلى منتهى الطيش والصلف والهوان والغرور والأنانية والحقد والكره والغضب، تلك الجموع التي اعتَبرت مروءة الأنبياء وشجاعتهم ضلالةً وسفاهة، وخوَّفتهم بالطرد والتهجير من مساكنهم وديارهم، أو هدَّدت أتباعهم بقطع أرجلهم وأيديهم، أو استخفت بهم واحتقرتهم، أو أساءت الظن بمواقفهم النبوية بأن بعض آلهتهم اعترتهم بسوء، أو أوعدت هؤلاء المرشدين بالرجم، أو هوَّنت من شأنهم دائمًا بقولهم: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾(إبراهيم:10) ، لكن الأنبياء ردوا عليهم ، فكان: ﴿إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾(إبراهيم:11-12)
صدح أصوات الأنبياء
وتنوعت أصوات الأنبياء في الرد على هؤلاء المعرضين ، فهذا نبي الطوفان (عليه السلام) يقول بصوت جهوري هادر : ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ﴾(يونس:71) ، ويقول أيضا : ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾(الأعراف:89) ، وهذا تحد من سيدنا هود (عليه السلام) : ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ _ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(هود:54-56) ، وهذا تحذير بليغ من النبي شعيب (عليه السلام) : ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾(هود:88) .
إن من أبرز خصائص الأنبياء أنهم في كل أفعالهم لم يطلبوا إلا مرضاة الله تعالى، ولم يستعينوا في جهادهم إلا بقدرته وعنايته، ولم يلتجئوا إلا إلى حفظه وكلاءته، ولم يتحركوا إلا باسمه.
وهذه وقفة من وقفات أولى العزم للأنبياء نوح وهود وصالح وغيرهم من الأنبياء العظام عليهم السلام… فحينما وصل الأمر إلى حد لا يطاق، توجهوا إلى الله تعالى بكل كيانهم، وقالوا: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(الممتحنة:4-5) فكانت تلك الآيات باقةَ رسائلَ حول التوكل من أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) إلى السائرين في الطريق.
والملحوظ أن أبطالَ القلوبِ هؤلاء، الذين تمتعوا بإرادة صلبةٍ ومواقفَ حكيمةٍ، حافَظوا جميعًا على مقصودٍ بعينه وساروا على خط واحد والتزموا قِيَما بعينها. فإنَّ ما كان ينعكس على أحاسيسهم وأفكارهم وسلوكياتهم هي أمور بعينها، ووحدةُ القضية والدعوة تَظهر جليا في رسالاتهم وتبليغاتهم. وإن تمثيلهم للمهمةِ نفسِها لَجَلِيٌّ وواضح مهما اختلفت بلادهم وأزمانهم. وإن أبرز خصائصهم أنهم في كل أفعالهم لم يطلبوا إلا مرضاة الله تعالى، ولم يستعينوا في جهادهم إلا بقدرته وعنايته، ولم يلتجئوا إلا إلى حفظه وكلاءته، ولم يتحركوا إلا باسمه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الثانية، ٢٠١2، ص: 115 بتصرف.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر .