إن سر الحيوية الدائمة في الصحابة (رضي الله عنهم) كامن في الجو الذي كانوا يعيشونه؛ فأولئك كانوا يستمعون إلى القرآن بقلوبهم ومن غير حكم مسبق، ويؤمنون به بإخلاص تام، ويتوجهون إلى الله في نور هذا الكتاب الجليل، ويحبونه من أعماق قلوبهم.. وكانوا لا يتوقفون عند حدود الحب، بل كانوا يسعون -بكل شوق عميق- في سبيل تحبيبه إلى كل الناس وجعله مقبولا لديهم. يعتنون أشد الاعتناء لئلا تتلطخ مشاعرهم وأفكارهم الإسلامية بألوان نزواتهم، ويسعون إلى الترنم بالإسلام وتمثله بذات لونه ونقوشه وبهائه، فلذلك كانوا يتلقون من المخاطَبين “الجواب الصواب”.
إن من أهم جوانب العمق في التصور الإسلامي هو دعوته إلى إعمار الحياة الدنيا التي قد تبدو مستحقرة لدى البعض، وذلك بربط كل شيء برضا الحق تعالى
ففي هذا الجو المضيء النيِّر كان الإسلام والقرآنُ يُفهَمان على حقيقتهما؛ فيَصِل إليه الجميع بلا عنت ولا رهق ولا عائق، ويفهمونه، ويرون فيه بعين القلب عظمةَ الحق تعالى، ويقيِّمون كل شيء تقييما صحيحا بعقولهم ومنطقهم ومحاكمتهم التي لم تفسد بالدرن والحكم المسبق. ولم يكونوا يَجمُدون عند العلم المجرد مطلقا، بل يُردِفون العمل بالعلم من فورهم، ويضعون “التمثل” قبل العلم، ويُحوِّلون المعلومات وما حصَّلوه من معارف إلى قوة محرِّكة، فيحوِّلون علومهم النظرية إلى واقع عملي بيسر وسهولة. فهؤلاء أدركوا في وجدانهم الرحيب الغاية من خلق الإنسان وخلق الوجود، فتذوَّقوا في التوجه إلى الله ومعيتِه تعالى ما يجده غيرهم في المادة والحظوظ الجسمانية والرغبات النفسانية، وتخلصوا من كل ضيق يتعلق بالجسمانية وانفسحوا كل يوم في إقليم القلب الواسع الرحب إلى عمق جديد.
لقد تكررت الحياة -ولو بفواصل زمنية- في ظل تفسيرٍ قرآنيٍّ سليم، وتصوُّرٍ إسلاميٍّ مستقيم، وبالأحرى في نظامِ حياةٍ نابع من التمثل بالإسلام، ذي الأفق السماوي المذهل للعقل، بحيث لم يبلغ الخيالُ شأوَه حتى في تصورات المدن الفاضلة المثالية. ومَن يدري لعل تلك الحياة القرآنية ستتكرر مرات عديدة فيما يأتي من الزمان! فما من عائق يحُول دون الحياة الروحانية بهذه الدرجة مهما تغير الزمان وتحولت العصور.
لم يكن الصحابة الكرام يَجمُدون عند العلم المجرد، بل يَردِفون العمل بالعلم من فورهم، ويُحوِّلون ما حصَّلوه من معارف إلى قوة محرِّكة.
وإن مثل هذه الحظوة يمكن أن تتحقق في الحاضر أيضًا، إذا تشبَّع المسلمون بروح كفاحٍ مكين، ولم ينقادوا للفتور مهما كانت الظروف، وتصرفوا دائما بوعي وانتباه، وتعالوا على النفس والجسمانية فأداموا حياتهم حسب أفق القلب والروح، وظلوا يقظِين ومنتبهين حيالَ أيِّ مساوئ قد تصدر منهم بمقتضى طبائعهم وماهيتهم البشرية، ولم يتركوا مجالا لظهور أي فكرٍ سلبي في عوالمهم الداخلية.
وإن من أهم جوانب العمق في التصور الإسلامي هو دعوته إلى إعمار الحياة الدنيا التي قد تبدو مستحقرة لدى البعض، وذلك بربط كل شيء برضا الحق تعالى، وإلى جعْلِ الدنيا مكانا مغبوطا ومحبوبا بترتيبها وتجهيزها على اعتبار أنها غرفةُ انتظارٍ ومَمَرٌّ إلى الآخرة، فيمكن في إطار هذه الفكرة النظرُ إلى الدنيا على أنها مزرعةٌ ومَعْبَرٌ وميناءٌ ومنطلَق للوصول إلى الآخرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الثانية، ٢٠١2، ص: 108
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.