ينبغي للقلب المؤمن أن يشعر في وجدانه بثقل الذنب الذي ارتكبه قبل سبعين سنة، وحتى وإن كان قد استغفر الله عليه سبعين ألف مرة في حياته؛ فينبغي له أن يتلوّى وكأنه قد اقترفه أمس، وأن يتضعضع خجلًا وانكسارًا، ويواظبَ على استغفاره لله جل جلاله.. وربما تنتاب الإنسانَ بعضُ الأفكار التعقلية والتصورية والتخيلية التي لا تُقيَّد في دفتر أعماله، ولكن مع ذلك يجب على الإنسان أن يتلوّى دائمًا بسبب هذه الأفكار السلبية ويقول في نفسه: “ربي، كيف يليق بي أن أفكر هكذا إزاءك؟ كيف أقوم بهذه الوقاحة والصفاقة في عالمي التخيلي، كم أنا إنسانٌ وقح عديم الاحترام!”، فإن فعل الإنسان هذا ما خسر شيئًا ألبتة، بالعكس إن من يقضي حياته سائرًا على هذا المنهج سينال جزاءَ كثرة توبته واستغفاره، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرً([1])ا“، كما ورد في حديث آخر أن الرسول الأكمل صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، قال صلوات الله عليه: “وَالله إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً“([2])، وفي رواية مائة مرة، قال عليه أكمل التحايا والسلام: “إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ“([3])، وهذا كلُّه يحدث مع أنه لا يعزب عن علمنا أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ارتكب ذنبًا في حياته قط، فلقد وُلد معصومًا وعاش معصومًا. أجل، ظل طوال حياته مؤيدًا بالوحي، ورغم هذا كله كان يستغفر الله بهذا القدر كل يوم.
خلاصة القول: إنه لمكسبٌ كبيرٌ أن ينهض الإنسانُ ليلًا بسبب ذنبٍ اقترفه، ويفترش سجادةَ الصلاة، وتسيل عبراته، ويستغفر الله ألف ألف مرة.. أما الذي يعتبر نفسه وكأنه ما أخطأ في شيء، ويعيش في إقليم فضائله الساحر، مغمورًا بنجاحاته، مَعْمِيًّا بإنجازاته، فمن الصعب للغاية أن يتوجّه إلى ربه بمثل هذا المحو والخجل، أما مَن يتعامل مع أي ذنب ولو كان صغيرًا وكأنه ارتكب جرمًا عظيمًا فمن شأنه أن يتوجه إلى الله تعالى بصدق وإخلاص، ويبثه همومه، ويتوسل إليه ويتضرع بالدعاء.. وعلى ذلك فإذا كانت رغبة الإنسان في امتداح الآخرين له أمرًا مذمومًا، فإن محاسبة الإنسان نفسه على ما اقترفت يداه لهو أمر محمود، اللهم اجعلنا من عبادك المحظوظين بمحاسبة أنفسهم بحق! آمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1] ) سنن ابن ماجه، الأدب، 57؛ النسائي: السنن الكبرى، 6/118.
([2] ) صحيح البخاري، الدعوات، 3؛ سنن الترمذي، تفسير السورة، 47.