شهر رمضان أنسب موسم للدعاء والمناجاة والتوجه إلى الله وأفضل منبع لتداعي الأفكار والمشاعر. ففي جوه الجميل الملون بألوان قوس قزح تتماوج القلوب كتماوج رائحة البخور من المباخر، وتحتفل به الأرواح في سحر كل يوم، وتغرد في بساتينها وخلجانها مئات البلابل.
وفي الجو المضيء لشهر رمضان لا نسمع في كل حال من أحوالنا، وفي كل طـور منها وفي كل عاطفة من عواطفنا، وفي كل عبادة من عباداتنا بعض الأصوات وبعض الكلمات وبعض الأفكار والملاحظات من ماضينا المجيد، بل كم من نداء آت من وراء الأفق نحسها ونسمعها، ولا سيما إن كان شهر رمضان مثل شهر رمضان عامنا هذا الذي جاء بعد عهد طويل من الإمساك، والذي مزق السكون المخيم علينا منذ قرون!..
في كل ليلة من ليالي رمضان نهبّ من فراشنا وكأننا مقبلون على سفر بعيد، ونضع حظراً على النوازع الجسدية.
أما نحن الذين نؤمن بأن شهر رمضان منبع لمثل هذا النور، فإننا نصل إلى مثل هذا التناغم لا بنسبة ضآلتنا وقلة قيمتنا، بل بنسبة عظمة شهر رمضان وبركته، وبنسبة وسعة رحمة ربنا، ويأخذ كل شيء مكانه الطبيعي، حتى نصل إلى عمق أفقي وتبلغ قلوبنا سعادة الشعور بالقرب من الحق تعالى، وترتعش جوانحنا أمام تجليات رحمته، ونشعر بنسائم الأنس به وهي تحيط بنا من كل جانب، فنقول كما قال الشاعر:
يا رب!.. عدمُ معرفتك حسرة،
والقرب منك جمرة نار،
جمرة في صدورنا،
تفوق جمرات نار المواقد…
أما عشقك… آه من عشقك…
إنه الجنة الحقيقية…
ماذا لو أحييتني وبعثتني،
بعشقك يا رب!..
نكرر مثل هذه الأبيـات ونعيد النظر في توحدنا وتكاملنا مع أفقنا ومبدئنا، ونتلاءم مع هذا الجو إلى درجة أننا نفرح فرح الأطفال الأبرياء من جهة، ومن جهة أخرى يستطيع روحنا الحساس سماع ألف آهة في مركز عالم ذي قطبين، والعيش في ثنائية تعادل فيها آلام روحنا أفراحها، وقلقها بهجتها، وآمالها -المستندة دوما إلى الحيطة والحذر- صامدة وقوية، ومخاوفها في يد الرجاء. ولكننا نتوجه دائما وأبدا بمشاعر عميقة تستهدف التوحيد من أفق إلى أفق بروح مرتجف تكاد قبته تتفجر من حمل مشاعره وتتفتت.
أحياناً تقوم العين في الساعات والدقائـق التي نعيشها في هذه الأيام المباركة بإفشاء أسرار عالمنا الداخلي بذرفها الدموع، فتعبر عن أفكار ما كنا نستطيع التعبير عنها بكل هذا الوضوح، فنفرح بهذا، ولكننا في الوقت نفسه نرجع إلى أنفسنا عندما نـرى أن العين -بدموعها- قد تقدمت على الأذن والقلب، فيظهر أمامنا هاجس ألا تكون هذه الدموع خالصة له.
أحياناً تكون نسائم شـهر رمضان من الرقـة والأنس فوق كل توقع، فتمتلئ قلوبنا بأحاسيس لا نستطيع وصفها أو تقييمها، ونحسب وكأننا قد استسلمنا إلى تيار سري غامض أو أننا فوق جسر ينقلنا إلى الجنة. ولكن عندما ينقطع هذا التيار، وتنتهي سياحتنا هذه التي أوصلتنا حتى حافة شاطئ الميناء دون أن ندري، نحس بأننا نكاد نخرج ونُحرَم من طريق الجنة هذا، فنشعر برجفة تنتشر في أوصالنا. ولكن سرعان ما تتلقفنا تداعيات أعمق، وموجات أخرى أكبر وأقوى على غير توقع منا، فنجد أنفسنا وقد تجاوزنا حدودنا، ودخلنا بلطفه في شلالاته، ونستمر في هـذه السياحة الأنفسية وكأن شيئا لم يحدث.
شهر رمضان أنسب موسم للدعاء والمناجاة والتوجه إلى الله وأفضل منبع لتداعي الأفكار والمشاعر.
في كل ليلة من ليالي رمضان نهبّ من فراشنا وكأننا مقبلون على سفر بعيد، ونضع حظراً على النوازع الجسدية. وبمشاعر خفية ومقفلة على الدنيا ومفتوحة على “الحبيب” نتوجه إليه وحده، ونكاد نعدو من لهفتنا وفرحنا وشوقنا. وبالنسائم السحرية التي تهبّ علينا من حولنا وتحتضن كياننا وتلفه، نبتعد عن المشاغل اليومية وندخل في جو الآخـرة. في مثل هذه الأحوال تنفث ساعات الإشراق هذه سحرها في أرواحنا، وتشعل في قلوبنا شرارة الخلود والأبدية. تحمل مثل هذه اللحظات من الأنس واللطف والحلاوة والصدق بحيث أن كل ثانية منها بل كل ثالثة كلما توزعت وانتشرت وتعمقت في حنايا ضلوعنا، نحس وكأننا دخلنا إلى عالم الوصال، إلى درجة نتخيل فيها أن قبة وجودنا تكاد تنشق وننتقل إلى العالم في الطرف الآخر. وهذه وتيرة طبيعية كما قال الشاعر:
يا قلب!.. صاحبُ النفس هو الذي طلبها…
لم الحزن؟ هي ليست لي وليست لك…
كم تكون حلاوة هذه الدقائق وهـذه اللحظات في العمر ضمن هذه المشاعر اللدنية، حتى إننا قد نشعر بالامتعاض من مرورها السريع، ونتمنى دوامها ونقول: “ليت مثل هذه اللحظات الحلوة من شلال الزمن لا تسيل بمثل هذه السرعة، ويا ليتنا كنا نملك الإحساس بها بكل ثانية أو ثالثة أو عاشرة، مثلما يحس الإنسان بحلاوة شراب بارد في كل نقطة من النقاط التي يمر عليها”.
أحياناً تكون نسائم شـهر رمضان من الرقـة والأنس فوق كل توقع، فتمتلئ قلوبنا بأحاسيس لا نستطيع وصفها أو تقييمها، ونحسب وكأننا قد استسلمنا إلى تيار سري غامض أو أننا فوق جسر ينقلنا إلى الجنة.
تشرق الشمس في كل يـوم على مشاعرنا هذه. وعندما يرتفع الأذان فوق المآذن في الظهر تتداعى هذه المشاعر مرة أخرى. وكل غروب يهب لأرواحنا أقداح الفرح والحزن. وتلفنا كل ليلة بسحر الخلوة، وتفتح مغاليق ألسنتنا لنبثّ لواعجنا، فيسرع كلّ منا إلى سجادة الصلاة لينفس عن حسرته وعن لواعجه وعن فرحه… يئن أحياناً، ويصرخ من الفرحة أحياناً أخرى.
وهكذا يمر شـهر كامل في أفق فكرنا بنفس الروح وبنفس المعاني التي تبحث عن طرق الارتباط به تعالى… يمر الشـهر ويمضي على الرغم من توسلاتنا وضراعاتنا بألا يتركنا. ولكن ما أن يغيب هلاله حتى تهل علينا شموس العيد التي تنير آفاقنا وتملأها نورا وضياء.
المصدر: موقع حراء