إن السخرية والاستهزاء أمران لا يليقان بنا، وليسا من شِيَم المؤمنين، بل إنهما من صفات الكافرين منذ فجر التاريخ، وكثيرًا ما وصفهم القرآن الكريم بهذه الصفات في العديد من آياته الكريمة، ومن ذلك قوله تعالى:
﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ $ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾(سُورَةُ هُودٍ: 11/38-39).
وقوله تعالى:﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ $ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ $ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ $ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ $ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾(سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 23/107-111).
من يَسْتَهْزِئْ بالمسلمين اليوم سيكون موضعَ استهزاءٍ غدًا، ومَن يُسخَرْ منه اليوم سيكون موضعَ عزةٍ وكرامةٍ غدًا.
وقوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ $ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ $ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴾(سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ: 83/29-31).
المؤمن لا يسخر من أحد
وكما رأينا قيّد الحقّ تبارك وتعالى صفة الاستهزاء والسخرية بالكافرين، فالمسلمون لا يسخرون ولا يستهزئون، وأما الكافرون فسيُستهزَأُ بهم في الآخرة كما استهزؤوا بغيرهم في الدنيا، إلى أن تنبعِثَ في أعماقهم مشاعرُ كُرهِ الذات واستحقارُها.
فإذا كان الوضع هكذا فلا منفعةَ ولا معنى مطلقًا من معاملة هؤلاء بالمثل في هذه الحياة الدنيا القصيرة، بل إن الضرر العائد أشدّ، من أجل ذلك علينا ألا نعاملهم بمعاملاتهم؛ لأن إيماننا يحظر هذا، ونحن سعداء وراضون بهذا الحظر والمنع الذي فرضه إيماننا.
السخرية من عبادة المؤمنين
والآن لِنَعُدْ إلى الشِّقِّ الثاني من السؤال:
إن الإيمان بالله تعالى والإعلان والاعتراف بعبوديته بين يديه لهو أعلى وِسام شرف بالنسبة للعبد، بل هو دائمًا مصدر فَخْرٍ وعِزَّةٍ لنا، ولو كانَ لنا أن نفتخر بشيءٍ لافتخرنا بهذا.
إنهم يهزؤون بصلاتنا؛ يعني بمعراجنا، وبالوسيلةِ التي تُقرِّبنا إلى ربِّنا.
ويسخرون من وُضُوئِنَا؛ يعني من أطيافِ الضوءِ المبهِرَةِ التي تكونُ وسيلةً لأن يتعرَّفَ علينا رسولنا ﷺ عند حوض الكوثر كما قال ﷺ:” إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَونَ يَومَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ ([1]).
السخرية والاستهزاء أمران لا يليقان بنا، وليسا من شِيَم المؤمنين، بل إنهما من صفات الكافرين منذ فجر التاريخ.
إنهم يستهزئون بالعمامة التي يضعها بعض المسلمين على رؤوسهم في الصلاة اقتداءً بأشرف المخلوقات ﷺ، فهو القائل: “رَكْعَتَانِ بعمامة أفضل من سبعين رَكْعَة بِغَير عِمَامَة”([2])، و “عليكم بِالْعَمَائِمِ فَإِنَّهَا سِيمَا الْمَلَائِكَةِ وَأَرْخُوا لَهَا خَلْفَ ظُهُورِكُمْ ([3])، و “فَرْقُ مَا بَينَنَا وَبَينَ الْمُشْرِكِينَ، الْعَمَائِمُ عَلَى الْقَلَانِسِ”([4]).
وإنّ هذه الأمورَ ليست مناطَ استهزاءٍ على التحقيق، بل إنّ لها قيمةً أخرويةً يُغبط أصحابُها عليها.
وإن كان لا بدّ للاستهزاءِ من متعلَّقٍ يُناطُ به فهو بمن تردّى إلى دركةٍ أدنى من دركة الحيوان بجحوده لله تعالى.
إن السكارى والمدمنين هم وصمة عارٍ على جبين المجتمع، فليُسخَرْ منهم إن كان لا بدّ من السخرية.
وإن الربويين والمهرّبين والمحتكرين هم أعتى اللصوص في الحياة التجارية، فليُسْخرْ منهم إن كان لا بدّ من السخرية، وليُسخر
من الذين ينغمسون في الخلاعة والمجون، ويتاجرون بعفتهم وشرفهم؛ إن كان لا بدّ من السخرية.
وإن من جعلوا من البجاحة عادةً ووجّهوا إنساننا إليها يسخرون من الشباب المتديّنين لأنهم لا يعلمون مِمّ يخجلون ومِمّ لا يخجلون، ولكن على من يتعرّض لكل هذا أن يراعي الأساس القرآني:﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾(سُورَةُ الفُرْقَانِ: 25/72).
أجل، على هؤلاء الشباب المتديّنين؛ -تيك الزمرة التي بجّلها القرآن وقدّرها-أن يكونوا باسمين وهم يمرّون مرور الكرام الشرفاء على هؤلاء الجهلاء مجهولي الهوية غير المتّزِنين، وأن يكشفوا عن الأفق الحقيقي للمسلم الحقيقي.
عاقبة المستهزئين
إن المستهزِئَ يكشِفُ عن صِغَرِهِ وحَقَارَتِهِ، أما الشاب المسلم الذي ما زال يُفَكّر في هداية هؤلاء دون أن يخلّ مطلقًا بوقاره واتِّزانه وجدّيّته؛ فعليه أن يقوم بمهامه بما يُوَضِّحُ سَيره على نهج ﷺ؛ لأن الجميع في النهاية سيُبعث على ما ماتَ عليه، فمن يَسْتَهْزِئْ بالمسلمين اليوم سيكون موضعَ استهزاءٍ غدًا، ومَن يُسخَرْ منه اليوم سيكون موضعَ عزةٍ وكرامةٍ غدًا، يمرّ يوم القيامة على الصراط كالبَرْقِ الخاطف، ويبلغ جنّات الفردوس الأبديّة.
اللهم ثبت أقدام شبابنا الذي يتعرّض للسخرية والاستهزاء، اللهمّ ثبّت أقدامهم على دينك الحقّ، اللهم لا تجعل الملَلَ والضجَرَ والضيق يتسرّب إلى نفوسهم، وأَمِدَّهُم بالحَولِ والقُوَّةِ حتى ينشروا دينَكَ في كلِّ ربوع الأرض… آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1] ) صحيح البخاري، الوضوء، 3.
([2] ) الديلميّ، الفردوس بمأثور الخطاب، 2/ 265.
([3] ) الطبراني، المعجم الكبير،12/ 383؛ البيهقي: شعب الإيمان، 8/ 295.
([4] ) سنن أبي داود، اللباس، 22؛ سنن الترمذي، اللباس، 42.
المصدر: فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ255/ 256/ 257/ 258.
ملحوظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.