إن تفسير أي معضلة سياسية أو اقتصادية أو إدارية يعاني منها بلد ما بالظروف السياسية والاقتصادية والإدارية التي يتخبط فيها صحيح إلى حد ما، لكنه معلول بنواقصَ من أوجه كثيرة.
الجذور الروحية
أجل، إن بذل الجهود وصرف الهمم وإنتاج المعرفة وابتكار ألوان وبدائل من المشاريع والبرامج في كل مجال في غاية الأهمية، لكن هناك أمر أهمّ من ذلك ينبغي بذل الهمم من أجله والعناية به، هو ثقافة الأمة وجذورها الروحية. فإذا ما قررت أمة مبارزة تحديات عصرها، فعليها ألا تغفل جذورها الروحية في جميع فعالياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولا تنسى البتة الدور الحاسم والحيوي لثقافتها الذاتية.
صحيح أنه كلما دار الحديث عن التغيير والتطور في بلادنا تم التركيز على “ثقافتنا الذاتية”، ولكن لا يمكننا الحديث عن مبادرة تتصف بالديمومة والمنهجية في هذا المجال. فالمدارس (التقليدية) والزوايا والتكايا التي كانت تربي مهندسِي رؤانا وعمالَ روحنا في الماضي، لم تنجح في إنتاج مشاريعَ تأخذ بأيدينا إلى المستقبل، بل انسحقت تحت ركام أنقاضها. وإذ نقول ذلك يعترضنا مبدأ يضرب على أفواهنا ويمنعُنا من أن نتفوه بشيء هو: “اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساوئهم” (سنن الترمذي).
جاء أوان ترويض ما ألهمته المدارسُ من علوم وتجارب من خلال عجنها في معجنة أرواحنا نحن، وتغذيتها بأسس ثقافتنا نحن.
نقد الذات
ونحن بدورنا نقول: “إن حوادث التاريخ لا تعيد نفسها مهما تشابهت فيما بينها. فالأصل أن نعتبر بعبرها، لا أن نتلقى دروسًا منها”. ومن ثم نعدل عن الانتقادات والتساؤلات التي نريد طرحها عليهم ونوجهها إلى أنفسنا، فنقول إن الذين سبقونا قد انقرضوا لما انحرفوا عن الغاية من وجودهم، ونحن اليوم في الموقف عينه. فالأصوب إذن أن ننتقد أخطاءنا بدلاً من الانشغال بأخطائهم، وإن سلّمنا بوقوعها.
لنفترض بأنهم أهملوا المنابع التي ينهلون منها، فكانوا سببا في تصحر أمتنا. لكن قولوا لي -أرجوكم- ما الذي صنعناه نحن؟ هل نستطيع أن ندَّعي بأننا -كشعوب- وفَّيْنَا مسؤولياتنا حقها؟ أو هل نزعم بأننا قمنا بإدارةِ مؤسسات الدولة كما يتطلبه العصر؟ رجاءً أفيدوني! من يستطيع أن يقول إن المدارس في كل هذه المدة المديدة قد أثمرت المرتجى؟ صحيح أن كثيرا من الشباب حصّلوا تعليمًا عاليا في باريس ولندن وميونيخ ونيويورك، لكن هل صاروا أعضاء نافعين لمجتمعهم؟ بل رجع أكثرهم إلى بلادهم بأحلام (فانتازيات) مختلفة، وجلبوا للوطن معضلات عويصة بتأثيرِ تياراتٍ مثل الأنكلوسكسونية والنازية والسلافية، أو الرأسمالية والليبرالية والشيوعية؟ فزادوا الاضطراب اضطرابا، وزادوا القطيعة مع الذات شدة. ولا زلنا نرجو ونأمل ألا يدوم الحال على هذا المنوال.
قولوا لي -أرجوكم- ما الذي صنعناه نحن؟ هل نستطيع أن ندَّعي بأننا وفَّيْنَا مسؤولياتنا حقها؟
بوادر إيجابية
والحقيقة أن ثمة أسبابا كثيرة تبعث على الرجاء والتفاؤل؛ فقبل كل شيء، أصبحنا نعي إبان هذه المدة ما أصابنا من الغدر والظلم. ويمكن لألبوم الصور المريرة هذه أن تلهمنا صورا مختلفة منذ الآن. إنَّ تَعَلُّقَنا بمد جسور الصداقة مع فرنسا وألمانيا وإنكلترا وأمريكا، وخيبةَ آمالنا، وقلةَ حيلتنا، والتجاربَ التي اكتسبناها في خضم محاربة المئات من السلبيات، قد تحولت إلى توتر روحي جاد يمكن أن يولد انفتاحًا على غرار “قوة الطرد المركزي”. لكن استثمار هذا التوتر استثمارًا جيدًا واجب يقع على عاتقنا نحن.
إذا قررت أمة ما بمبارزة عصرها، فعليها ألا تغفل جذورها الروحية، ولا تنسى الدور الحاسم والحيوي لثقافتها الذاتية.
إن المدرسة قد أعطت ثمارها في إطار حدودها. والآن جاء أوان ترويض ما ألهمته المدارسُ من علوم وتجارب من خلال عجنها في معجنة أرواحنا نحن، وتغذيتها بأسس ثقافتنا نحن. ذلك بأننا إن كنا عازمين على المضيّ قدما نحو المستقبل، فلا مناص من أن نكون ذاتيين في المنطق والمحاكمة العقلية والأسلوب، باستثمار تراكمنا العلمي والتجريبي في مواقعه المناسِبة. فقد تُكسب المدرسةُ الإنسانَ خبرات وتجارب علميةً واجتماعية واقتصادية وسياسية؛ لكنَّ تقبُّلها من قِبل فئات المجتمع كافة ودوامَها مرتبط بامتزاجها وتكاملها مع الجذور المعنوية للمجتمع وبنيانه الفكري.
ولهذا فإن معضلة أمثالنا من الدول المتخلفة إنما هي عجزها عن اكتشاف حقيقة المدرسة بروحها ومعناها، بل -وبالأحرى- إنها معضلة ثقافية في أصلها. ومن الضروري واللازم أن تُحَلَّ هذه المشكلة في الأرضية التي نشأت فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص: ٢٥-٢٧، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١١، الطبعة الثانية، القاهرة
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.