عايشتُ كثيرًا من الانقلابات في تركيا، وعندما وقع انقلاب السابع والعشرين من مايو عام (1960م) كنت أبلغ من العمر ما بين عشرين إلى اثنين وعشرين عامًا، وعانيتُ حينها في مدينة “أَدِرْنَه” أصنافا من الضغوط والتضييق عليّ.
المعاناة والمقاومة
منذ ذلك الوقت بدأت أتعوّد شيئًا فشيئًا على مثل هذا التضييق والضغوط، وفي انقلاب الثاني عشر من مارس (1971م) زجّوا بي في السجن، فلبثت في غياهب السجون العسكريّة ما بين ستة إلى سبعة أشهر، فشدّ هذا من عزيمتي، وعوّدني على ما هو أشدّ.
ولما حدث انقلاب الثاني عشر من سبتمبر/أيلول (1980م) فررت لمدة ست سنوات أتنقل من مكان إلى آخر داخل تركيا ولم يستقر بي مقام، حتى جاء عهد “تُورْغُوتْ أُوزَالْ” ورئاستِه للوزراء، فقبضوا عليّ، إلا أن “تورغوت أوزال” تدخّل في الأمر بكل قوته، وجمع مجلس الوزراء، ثم تبيّن أن الملف فارغ من أي مضمون ومن أي أدلة ملموسة فأغلقت القضية، وتم إطلاق سراحي.
لا داعي لأن أسرد عليكم أسباب اعتقالي ومقاضاتي، فقد كانت أسبابًا تافهة، مثل نشر القيم الإسلامية، والدعوة إلى الإسلام، ومحاولة جعل الشباب متديّنين، والحديث عن تجليات اسم الله القدوس، وما يحمله هذا الاسم من النزاهة والطهر والتقديس… إلخ.
نحن بشر، لدينا مشاعر وكرامة، لذلك نتألم مما يقع، فلا يمكن لأحد أن يقول إنه لا يتأذّى إذا ما جُرحت كرامته.
أجل، لقد رفعتْ المعاناةُ في كل تلك الانقلابات من درجة مقاومتي، إلا أن الانقلاب الأخير (15 يوليو/تموز 2016م) كان أشدَّها، وأكثرها تجاوزًا ووقاحة؛ حيث إنني لم أشهد عُشْرَ هذه الإساءة والوقاحة وقلة الحياء حتى عندما قبض عليّ العسكر قديمًا. لم نتعرض أنا وأصدقائي من قبلُ لمثل هذه الصفاقة وقلة الحياء، إنما كانوا يُعاملوننا معاملة إنسانية، بل إن العسكر كانوا ينظرون إلى وجوهنا أحيانًا ويقولون: “لا يمكن لهذه الوجوه المشرقة أن تأتي بأي فعلٍ قبيح”.
مسرحية الانقلاب والمضايقات
ولكن كما رأيتم منذ بضع سنوات عمومًا، وفي السنتين الأخيرتين خصوصًا، وبعد مسرحية الانقلاب هذه أخذوا يعاملونني معاملة السفاحين من أمثال “ماكسميليان روبسبيار”[1].
في الحقبة الأخيرة كانوا يتفنّنون في التضييق علينا وإثارة المتاعب حولنا وافتعال المشاكل معنا اعتمادًا على مبدإ “الاتهام الظنّي”، مثل قولهم: لِمَ تنظرون إلينا شزرًا هكذا؟ إن نبرة صوتكم تثير اشمئزازًا وحساسيةً لدينا… إلخ. ولكن كل هذه الانقلابات كانت -ولله الحمد- تأهيلًا من الله تعالى لنا، ولذا استطعنا أن نتحمل ونصبر.. هذا جانبٌ من المسألة.
أما الجانب الآخر فهو أننا إذا ما نظرنا إلى ما لحقَ بالرسل والأنبياء السابقين من أذًى وإيذاء من قِبَلِ قومهم سنجدُ أنهم وأتباعَهم قد تعرّضوا للإساءة نفسها من قبل المستبدّين في عصرهم.
أحيانا أظلّ نصف ساعة باكيا أمام موت نحلة، وكم أكون سعيدا عندما أنقذ نملة وأعيدها إلى ميدان الحياة مرة أخرى.
إن إنجاز أيّ شيءٍ في شرق العالم وغربه من أجل خدمة الإنسانية وتوجيهها إلى السعادة الأبدية لَيُسبب إزعاجًا وقلقًا لدى هؤلاء المستبدين، لأنه لا يتفق مع أفكارهم ورُؤاهم.
إن جنون القوة والعظمة، وانعقادَ الآمال على الحياة المستقبلية، والحياة المرفهة، واختلال التوازن الناجم عن الانتقال من العشوائيات إلى القصور الفاخرة؛ كل هذا من شأنه أن يشكّل آثارًا سلبية لدى هؤلاء المستبدين.
من أجل ذلك ارتفعت حدّة التضييق اليوم وزادت جرعتها، ولكن نحمد لله الذي عوّدنا على تحمّل مثل هذا التضييق والأذى، والصبر على ما نحن فيه الآن. ليس من الصحيح أن أقول إنني لا أشعر بأيّ ألم، نحن بشر، خُلقنا من لحم وعظم، لدينا مشاعر وأحاسيس، وكرامة إنسانية وإسلامية، فلا يمكن لأحد أن يقول إنه لا يتأذّى إذا ما جُرحت كرامته.
أبكي أمام موت نحلة
أصدقائي المقرّبون مني يعرفون مدى حزني وأسفي من مثل هذه التجاوزات؛ إنهم يعرفون كيف أظلّ نصف ساعة أبكي أمام موت نحلة، وكم أكون سعيدا عندما أنقذ نملة وأعيدها إلى ميدان الحياة مرة أخرى، كم أكون سعيدا عندما أنقذ فراشة كانت تتخبط وتتلوى، وأراها ترفرف بحرية، أشعر كأنني أنقذت إنسانا من الموت.
هذا هو شعوري أمام أصغر المخلوقات، فكيف بقتل الناس، وتخريب الديار، وجرح الكرامة الإنسانية؟! لا يمكنكم أن تتصوروا مدى تأثُّري وحزني العميق أمام هذه الـمَشَاهد المؤلمة!
قبل بضعة سنين كنت أتابع الأخبار عبر التلفاز، فتعرفت من خلال التلفاز على أسماء بعض الجنرالات الذين اعتقلتهم هذه الإدارةُ المستبدّة في قضايا المطرقة وأرجينكون؛ الإدارة التركية الحالية ذاتها.. منهم “تَأُومَانْ باشا”، لم ألتق به شخصيا، ولكن عرفته من خلال أحد الأصدقاء، كان قائدًا عامًّا لشرطة الدرك، وكان يعمل من قبل مديرًا عامًّا للمدارس الحربية، لمّا شاهدته مقبوضًا عليه وهو في هذا السنّ والمقام لم أتمالك عبراتي.
والأصدقاء هنا يعرفون قدر تأثري وحزني لمّا ألقي القبض أيضًا على “إِلْكَر باشبوغ” -رئيس الأركان السابق- فهذا الرجل مهما كان فكره، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، لا تليق به مثل هذه المعاملة. هذه قناعتي، وهذا ما أشعر به إزاء الناس.
لقد أعلنت من قبل وأعلن مرة أخرى: لن نخاف ولن نتخلى عن قضيتنا، وأوصي الجميع بألا يخافوا، فالله في عوننا.
لا أفكر بشخصي
عندما شاهدت في التلفاز الأبرياء يُقتَلون، فقد كان ذلك فوق طاقتي. كيف أستطيع تحمُّل مشاهدة قتل هؤلاء الأبرياء، وتخريب بيوتهم، وتشريدهم!
لا تتجاوز مشاهدتي للتلفاز -في الفترات الأخيرة- أكثر من عشر دقائق، وبعدها أستسمح الأصدقاء في غلق التلفاز لعدم قدرتي على مشاهدة المزيد. من هنا يمكنكم أن تقيّموا إلى أيّ مدى بلغت حساسيتي جرّاء هذه الأحداث.
إنني لا أفكر في شخصِي وحالِي، ولو كنت أفكر هكذا لَمضيتُ إلى غرفتي مستغفرًا الله تعالى ومتوجهًا إليه قائلًا: ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، إلا أن سحقَ وإبادةَ من أعرفهم أو من تربطهم بنا علاقة يُؤثِّر في أعماق قلبي وكأنني أنا من يُفعل به ذلك.
إن الكلمات الجارحة التي يُخاطَب بها هؤلاء، والمعاملة السيئة التي يلاقونها تشبه الحربة التي انغرزت في أحشائي؛ ولكن كما قال الشاعر:
أستسلم لقضاء الله وقدره في السرّ والعلانيّة،
ولا أخضع للمنحطين من أجل دنيا دنيّة،
هذا ما أعلنتُه من قبل وأعلنه الآن مرة أخرى. لن نفزع ولن نتخلى عن قضيتنا، وأوصي جميع أصدقائنا بألا يفزعوا أو يتضجروا.. والله في عوننا جميعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ماكسميليان روبسبير (1758 – 1794م): محام وزعيم سياسيّ فرنسيّ، أصبح أحد أهم الشخصيات المؤثرة في الثورة الفرنسية، والنصير الرئيسي لعهد الإرهاب، وهو من أشهر السفاحين على وجه الأرض، إذ قتل ستة آلاف شخص في ستة أسابيع فقط.
المصدر: مواقف في زمن المحنة، حوارات إعلامية مع فتح الله كولن، نوزاد صواش-صابر المشرفي، ص: ٢٤٧-٢٥١ دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٧، الطبعة الأولى، القاهرة
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.