ظهر في أيامنا ما يُسمّى بالعمليات الانتحارية، بدأت في الغرب، ثم انتشرت -للأسف- في بعض الدول الإسلامية. القائمون بها يمنحونها غطاءً شرعيًّا، يصفونها بـ”الانتحار المشروع”؛ يحاولون أن يمنحوا الجرائم التي يقومون بها في سبيل أيديولوجياتهم قيمةً ومعنى اسميًّا، معتقدين أنهم بذلك يحمون الإسلام.
إن العمليات الانتحارية أيًّا كان انتماء منفّذيها جرائم مضاعفة لا مبرر لها.
شرعنة القتل
عندما ننظر إلى هذه العمليات نجدها لا تختلف عن الانتحار المعروف، بل إنها جريمة مضاعفة؛ لأن هؤلاء الجناة الغافلين الذين لا يمتّون للإنسانيّة بصلةٍ ولا يعرفون عن دين الله شيئًا لم يكتفوا بأن يتدحرجوا في دركات جهنم بسبب قتلهم أنفسَهم، بل قتلوا الكثير من الأبرياء أيضًا، لذا سيحاسبهم الله تعالى فردًا فردًا على تلطُّخِ أيديهم بدمِ هؤلاء الأبرياء مسلمين كانوا أو غير مسلمين أطفالًا أو شبابًا أو شيوخًا.
الإسلام يوجب على أتباعه -في السلم أو الحرب- الالتزام بقوانين وقواعد معينة. وكما لا يجوز للإنسان أن يُعلن الحرب من تلقاء نفسه ويقتل الآخرين في حال الصلح، فكذلك لا حق له في أن يقتل الأطفال والنساء والشيوخ من الأعداء حتى ولو في حالة الحرب.
فأيًّا كانت الفكرة التي اعتمدت عليها هذه العمليات الإجرامية فليس بالإمكان التوفيق بينها وبين الإسلام. وقد سلّط سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الضوءَ على هذه المسألة حين قال: “لَا يَزْنِي الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ”[1].
وهذا يعني أن القاتل لا يوصف بالإيمان حين ارتكابه فعل القتل؛ بمعنى آخر لا يمكن أن نطلق لفظ المسلم على من يرتكب هذه الجرائم وهو على تلك الحالة التي يحمل فيها مثل هذه الأفكار والخطط الهدّامة.
العمليات الانتحارية تشوّه صورة الإسلام الساطعة وتدنّس محياه اللامع؛ لأنها تصطبغ بصبغة الإسلام وتعطي انطباعًا بأنها في سبيله.
أجل، إذا ما وضعنا عدسةً على ذلك القاتل فلن تظهر لنا صورة تتوافق مع الإطار الإسلامي، لذا نؤكّد مرة أخرى على أنه لا يمكن التوفيق ألبتة بين الإسلام وبين ما يقوم به هؤلاء الجناة من إزهاقٍ لأرواح الأبرياء من خلال استخدامهم للأحزمة الناسفة، أيًّا كانت الدولة أو الحزب الذي ينتمون إليه. فهؤلاء لن يُكتب لهم الفلاح في الآخرة، لا جرم أن بابَ الله مفتوحٌ للجميع، فيجوز لهؤلاء الذين عميت أبصارهم وارتكبوا هذه الجرائم الكبيرة أن يتوجّهوا إلى ربهم بالتوبة والاستغفار، فالله تعالى وحده هو مَن يعلم كيف سيكون حال هؤلاء في الآخرة.
تشويه صورة الإسلام
من جانب آخر إن هذه العمليات الإجرامية تشوّه وجه الإسلام الساطع وتدنّس محياه اللامع؛ لأن هذه الجرائم التي تصطبغ بصبغة الإسلام وتعطي انطباعًا بأنها في سبيل الدين، ينسبها مَن لا علم لهم بالإسلام وأصوله إلى الإسلام؛ ومن ثمّ سيكون من العسير جدًّا على المسلمين أن يصحّحوا مثل هذا الفهم الخاطئ.
مهما كانت الفكرة التي اعتمدت عليها العمليات الانتحارية، فليس بالإمكان التوفيق بينها وبين الإسلام.
أجل، إن تصحيح هذه الصورة الخاطئة عن الإسلام في العقول سيتطلّب سنوات طويلة. إن العمليات الانتحارية أيًّا كان انتماء منفّذيها جرائم مضاعفة بل مكعبة. ذات يوم جاءني بضعة أشخاص ممن لا يعرفون شيئًا عن الإسلام الحقيقي ووجهوا لي هذا السؤال: “هل حبُّ الجنة يدفع المسلمين إلى أن يكونوا انتحاريين؟”، فأجبتهم قائلًا: “لو كان هؤلاء يتحركون في هذه العمليات من هذا المنطلق فقد أخطؤوا الفهم والتقدير، لأن من يتورّط في مثل هذا الأمر مأواه جهنم وبئس المصير”.
حاصل القول إن تصوير هذه الجرائم البشعة على أنها في سبيل الإسلام يحمل أبعادًا خطيرةً، من أجل ذلك أذكّر مرة أخرى بأن هذه العمليات أيًّا كان مقصدُها وصورتُها فهي أفعالٌ منكرةٌ لا يحبها الله تعالى ولا يرتضيها، ولا يمكن التأليف بينها وبين الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: جهود التجديد، فتح الله كولن، ص: ٣٣٣-٣٣٥ دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٧، الطبعة الأولى، القاهرة
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.
[1] سنن النسائي، القسامة، 48، 49.