إن التمسك بهذه الدعوة العُلْوية والغاية المثالية السامية يتمثل في مراعاة حالها في الحاضر والمستقبل، والولوج إلى نفوس أكثر الناس فظاظة وقسوة وتمردًا وجفاءً وإلحادًا، والاهتمام بهم لتبليغهم إياها، ومكابدة المشقة في تحقيق ذلك. أجل، إن هذه المكابدة تحملنا وتحلق بنا إلى جو التسامح، وترقى بنا إلى اللين، فالعفو والصفح ثمّ الرحمة، وإلى أكثر آفاق الإرشاد بركةً وفيضًا حتى يفوز الناس بالنجاة السرمدية.
وأبرز الأدوات والأساليب المستخدمة قديمًا في هذا النسيج القدسي الذي حاولنا نسجه حتى الآن هي التسامح واللين والعفو والرحمة، بيد أننا لم نستثمرها وفقًا لخطة معدَّة، بل اقتفينا طريقًا يسير وفقًا لمجريات الحوادث، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؛ وإن نهج الخدمة الذي يحيط بحياتنا إحاطة السوار بالمعصم قد يحمل للناس اليوم ولأجيال قادمة رسائلَ تنير لهم الطريق دون أن نقصد ذلك.
أن نكون أفرادًا عاديين في هذا الأمر أثمنُ شيء عندنا، فخير لك وأقوَمُ أن تكون جنديًّا بسيطًا بباب الله دائمًا، وألا تنزلق إلى تشوفات شتّى.
واليوم نشهد نفحات قدسية في خدمة أمتنا تنتثر من أفواه آلاف المتحدثين، فتَحُفُّ مناخَنا وتحصّنُ روحه؛ حتى إنّه لَتتحطم الموجات الضارة الشرسة، وتتهاوى الشهب، وتذوب تِباعًا؛ وطبَعي أن تسري على ما نحن بصدده قوانين الطبيعة، فهو كالبرعم ينمو ويتكوّن رويدًا رويدًا، ثم يأتي يوم تتلاحم فيه عُضَيّاته المترابطة؛ فتتّحد، وهكذا يتأسّس العمران المنشود في الأذهان.
أجل، إنّ الأوائل الذين تحمّلوا الشدائد وفّوا بِمَهمَّتهم الخاصة بالأمس وإنّهم اليوم أسلموا تلك الأمانة إلى مهندسي العصر وصُنَّاع الفكر، ثم رحلوا؛ وبينما تُختَارون لتشييد عمران اليوم وَفْقَ عالَمِيَّة بِنيتكم الروحية وفكرٍ وحركةٍ مصدرهما توجُّهاتكم العامّة أَرَاكم تُرْسُون دِعامات جسر يمتد إلى المستقبل، وستحمل الأجيال اللاحقة تلك الأمانة عنكم إلى محطة أخرى، فترى تلقائيًّا وهي تنقل هذه الأمانة دعاماتِ ذلك الجسر، وتقول: “ما وُضعت هذه الدعامات إلا لهذا الأمر”.
إنّ حَبابَ الماء يستقبل انعكاس أشعّة الشمس، هبْ أنه لم تكن شمس فماذا سيستقبل؟ إذًا كلُّ هذه الجماليات من جمال الجميل سبحانه وتعالى.
أجل، أن نكون أفرادًا عاديين في هذا الأمر أثمنُ شيء عندنا، فخير لك وأقوَمُ أن تكون جنديًّا بسيطًا بباب الله دائمًا، وألا تنزلق إلى تشوفات شتّى، فقد يُكلَّفُ جنديّ بما يقوم به المشير أحيانًا، وهذا شأنٌ من شؤون علمه هو سبحانه وتعالى، ولا شأن لنا به قطعًا، أليس هذا ما قاله بديع الزمان: “النفس أدنى من كل شيء، والوظيفة أسمى من كل شيء”[1]، “يا نفسي المرائية! لا تغتري قائلةً: إنني خدمتُ الدين، فإن الحديث الشريف صريح بـ”إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ”[2]، فعليكِ أن تعدّي نفسكِ ذلك الرجل الفاجر، لأنكِ غيرُ مزكّاة”3؛ “لا تَرَي نفسَك مظهرًا لتلك المحاسن وتلك الطيبات؛ فيا نفسي لا تقولي: “إنني مَظهر الجمال، فالذي يحوز الجمال يكون جميلًا!”، كلّا إنك لم تتمثّلي الجمال تمثّلًا تامًّا؛ فلن تكوني مَظهرًا له بل مَمَرًّا فحسب، يمرّ بك الجمال ثم يزول عنك ولا يقرّ فيك”[3].
إنّ حَبابَ الماء يستقبل انعكاس أشعّة الشمس، هبْ أنه لم تكن شمس فماذا سيستقبل؟ إذًا كلُّ هذه الجماليات من جمال الجميل سبحانه وتعالى. أجل، فهذه الإشارات مهمّة جدًّا، وبقدر عظمة ما يحمّلنا الله سبحانه من مهمّات ووظائف يزداد تواضعنا ونكون أبعد عن التشوفات والمزاعم، هذا ما ينبغي؛ فالسلامة في الدارين مرجعها سلامة القلب فحسب:
“أيــــــــــــــــــــــــها الحاجّ لا تذهبنّ بك الظنون
فــــــــــــــــــــــــــــــلا فـضـةً ولا ذهـبًا منك يـطــلبــون
بل قلبًا سليمًا ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ﴾ (سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 26/88)”
يا لها من كلماتٍ بديعة تشير إلى هذه الحقيقة!
أجل، لا بد أن تُنقش تلك الحقيقة في أرواحنا، وعلينا -كأُناسٍ عاديين- ألا نخوض غمرة التشوّفات الزائدة عن الحدّ لا باسم الجماعة ولا باسمنا، ولنحرص على أن تكون خاتمتنا في أجواء تلك المبادئ.
[1] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: سيرة ذاتية، فترة آفيون، ص 448.
[2]صحيح البخاري، الجهاد، 182، القدَر، 5؛ صحيح مسلم، الإيمان، 178.
[3] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: الكلمات، الكلمة الثامنة عشرة، المقام الأول، الملاحظة، ص 248.
المصدر: محمد فتح الله كولن، ترجمة عبد الرازق أحمد محمد، الموشور، دار النيل، مصر، 2015، ص30.
ملاحظة: عنوان المقال من تصرف المحرر.