كان صلى الله عليه وسلم يحبّ أمته وكلّما اقتضى الأمر صرّح بأصول هذه المحبة، ويذكّرهم بقوله: “تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ”[1]، وأحيانًا يوجّه القلوب إلى القرآن الكريم وأهل بيته، ويوصي بملازمتهما والتمسك بهما قائلًا: “إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي”[2]، ولهذا فإن العناية بآل البيت أنصارِ الكتاب والسنة بالجبلّة في ذلك العصر وتاليه كانت من باب التمسك بالدين، والحقيقة أن وراثة آل البيت لرسولنا صلى الله عليه وسلم هي بأحدِ معانيها أسمى من كل أنواع الإرث.
إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن وفيًّا للبشر فحسب، بل كان مفعمًا بالوفاء حتى للحجر والترب.
وفي أمته أفراد هم ممثِّلو روح النبوة، لقد صاحبوه وآمنوا به من أعماق قلوبهم، وأسلموا له، ولم يتخلوا عنه قط ولو لحظةً واحدة، فهم جميعًا رأوا نور النبوة، وترعرعوا في لألاء أجوائها وغِلافه، فتميزوا عنَّا كثيرًا من هذا الوجه، ولا ريب أنْ سَيَتَميّزُ من اجتمع به وشاهد أحواله كلها، وشهِدَ الوحي وهو يهطل عليه من السماء، لذا طبعيٌّ أن يُعنَى بهم رسولنا صلى الله عليه وسلم أيّما عناية، ويفاخر بهم، حتى إنه قال: “لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ”[3]، إنه وهو يفعل هذا يرشد في المقام الأول كل من بعده وكل من سيخدم الدين ويناضل من أجله حتى يوم القيامة ليضعوا أصحابه رضي الله عنهم في مقام الصدارة.
وفاء بلا قيد
أجل، لقد كان صلى الله عليه وسلم إنسان الوفاء، كان حتى لحاقه بربِّه يتنفس وفاءً لمن بذلوا أرواحهم وضحّوا بها في سبيل دعوته التي حملها، لقد تكاملوا معه وانصهروا في بوتقته حتى إنه لما حان اللحاق بالرفيق الأعلى -وهذا ما كان يريده- نَشَج يبكي على فراقهم، وما كان منه إلا أن قال لهم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ نَبَّأَنِيَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أَنَّهُ لَمْ يُعَمَّرْ نَبِيٌّ إِلَّا نِصْفَ عُمْرِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَإِنِّي لَأَظُنُّ أَنِّي يُوشِكُ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، وَإِنِّي مَسْؤولٌ، وَإِنَّكُمْ مَسْؤولونَ، فَمَاذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟” قَالُوا: “نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَجَاهَدْتَ وَنَصَحْتَ، فَجَزَاكَ اللهُ خَيْرًا”[4]، فكل وفاءٍ عرفناه منه صلى الله عليه وسلم تعلمناه.
لقد كان صلى الله عليه وسلم إنسان الوفاء، كان حتى لحاقه بربِّه يتنفس وفاءً لمن بذلوا أرواحهم وضحّوا بها في سبيل دعوته التي حملها، الذين تكاملوا معه وانصهروا في بوتقته.
إنه لم يكن وفيًّا للبشر فحسب، بل كان مفعمًا بالوفاء حتى للحجر والترب، يشتاق إلى مكة ولا ينقطع عن “قباء”، لأنه أوّل منزل فتح له صدره بعد الهجرة والعناء، وهو الذي قيل له فيه: “ههنا المنزل يا رسول الله”، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور قباء كلّ سبت حتى لكأنه يقول له: “لقد ضيّفتَني وأكرمتَني”، وكان يزور أُحدًا أيضًا، ذلك المكان الذي قال فيه: “هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ”[5]، أي هو المكان المبارك الذي نال نصيبه من حبّ رسولنا الحبيب، وكان يزور البقيع مقبرة المدينة، كلا -أستغفر الله- إنه ليس بمقبرة، بل هو نُزُل الصحابة الكرام انتظارًا للآخرة… وما أكثر الأمثلة عن وفاء إنسان الوفاء صلى الله عليه وسلّم…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]موطأ الإمام مالك، 5/1323.
[2]صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 36؛ سنن الترمذي، المناقب، 31. (واللفظ للترمذي).
[3] صحيح البخاري، فضائل الصحابة، 5؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 221-222.
[4]الطبراني: المعجم الكبير، 3/180.
[5]صحيح البخاري، أحاديث الأنبياء، 11؛ صحيح مسلم، الحج، 462.
المصدر: محمد فتح الله كولن، الموشور، دار النيل، مصر، 2015، ص108.
ملاحظة: عنوان المقال من تصرف المحرر