أجل، زُجّ بالدنيا كَرّةً أخرى في هوّة أزمةٍ روحيّةٍ، والتاريخ يعيد نفسه، فالأنفع تناول المسألة في ضوء فقهنا لمعنى قولهم “التاريخ يعيد نفسه”:
التاريخ مليء بالأحداث المتكرّرة، لكنها لا تتكرّر بعينها بل بمثلها وشبهها، ولو كان الأمر خلافَ ذلك لاتُّعظ بالحوادث نفسها، ولم تتكرّر الأخطاء نفسها، فتكرُّر التاريخ تؤخذ منه العِبَر، وإن شئتم فانظروا من منظور كهذا إلى الأزمة التي يعاني منها العالم الآن.
ولطالما لوحظ في الأحداث التاريخية المتكررة أن شدّة الحقّ تعالى على الناس وتضييقه عليهم كان مفتاح الانفتاح نحو آفاق جديدة فيها مصلحة الإنسانية غالبًا، وهذا على مستوى الفرد والجماعة، أي إنّ بلوغَ الأزمات الشخصية الذروةَ ينذر بأن الأزمةَ أوشكت تنفرج؛ ولطالما شحذت الأزماتُ الاجتماعية المجتمعَ ووجّهته نحو آفاقٍ جديدة، ويحضرني هنا كلام جميل يُعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم: “اشْتَدِّي أَزْمَةُ تَنْفَرِجِي”[1].
إن يد القدرة بتعريضها الإنسانَ لحالة القبض تُوقِظه من فتوره ودَعَتِه، وإنما ينزل الله تعالى بالإنسان هذه الحالة ليردّه إليه سبحانه.
بين الفرد والمجتمع
وبين الفرد والمجتمع تشابُهٌ يكاد يغدو تطابقًا، فلنبدأ بالفرد لِتُمكنَ المقارنة: إنّ حالات الانبساط الشخصي قد تتبعها انقباضاتٌ وجدانيّة وروحيّة، وقد يتغير الحال وينعكس؛ ومردّ أحوال القبض أحيانًا إلى بعض الذنوب والغفلة، فيسرح الإنسان في مناخ من الفرح ويمضي حياته في اللهو، ثم تصيبه حالة من القبض عقابًا على ذلك الفعل؛ ويبدو أن الروح تستجدي حالةً كهذه، إذ زيادة الراحة والاسترخاء تُحدث أزمةً في الروح؛ فهي كثيرًا ما تنزعج من الأفراح الماديّة، وترغب في العيش في شدٍّ معنويٍّ نحو الآخرة.
إن يد القدرة بتعريضها الإنسانَ لحالة القبض تُوقِظه من فتوره ودَعَتِه، وإنما ينزل الله تعالى بالإنسان هذه الحالة ليردّه إليه سبحانه، وهذا كالأمّ تضرب طفلها ضربًا خفيفًا لتمنعه من الخطأ، ثم تضمّه إلى صدرها.
وفي موقف كهذا تضيق السبل وتوصَد الأبواب، وتتلاشى الأسباب واحدًا تلو آخر، فيُعرِض عنها الإنسانُ ويُوجّه وجهه نحو مسبِّب الأسباب سبحانه، فمقصد الحقِّ سبحانه في الحقيقة ردُّ الإنسان إليه؛ فلو أدرك الإنسان السببَ الحقيقيَّ لِما حلّ به من ابتلاء، ورجع من فوره إلى الحقِّ جلَّ وعلا لَتحقّقت له الغايةُ من الابتلاء؛ ويتطلّب بلوغ هذه النقطة شعورًا وفهمًا وإدراكًا بأنه لا يحدث أمرٌ في الكون كلِّه إلّا بتدبير الله لا صدفةَ فيه ولا جزاف.
إن زيادة الراحة والاسترخاء تُحدث أزمةً في الروح؛ فهي كثيرًا ما تنزعج من الأفراح الماديّة، وترغب في العيش في شدٍّ معنويٍّ نحو الآخرة.
هذا حال الفرد، ومثله المجتمعات، فالمجتمع كالفرد، يُمسَك أحيانًا بمخلبٍ من حديد ويُشدُّ عليه، وتلك هي حالة انقباض المجتمع؛ والواقع أن نصيبنا من هذه الحالة بدأ ونحن على مشارف القرن التاسع عشر، إذ تتابَعَت الخسائر والإفلاس، خاصةً بعد التنظيمات[2] فقد خسرنا في مواقف هي أدعى للكسب، وطالت حالة القبض هذه لأننا عجزنا أن نرجع ونتوجه إليه سبحانه، فطَرقْنا الأبواب الخطأ، وابتغينا المدد والعون من غير مظانِّه، فمثلًا ساد الولع بالفرنسيين زمنًا، وبالإنجليز زمنًا آخر؛ حتى إن عبارة “الدولة العظمى” استخدمت في “الباب العالي”[3] كناية عن الإنجليز، فهذه العقدة التي تسللت إلى روح الدولة قد دبَّت في أرواح أفرادها فردًا فردًا، وأخذ كلٌّ نصيبه، وغدا عُرْضَة للاضطرابات. ويومئذ عاش كلٌّ من الشعب والدولة حالة من الانقباض، ووقعنا دولةً وشعبًا في ضغط معنويّ وروحيّ كما يحدث للفرد في أزمات الضمير والفكر، واليوم تتكرر تلك الأشياء، غير أنها ليست مقصورةً علينا نحن فحسب، فالعالم جميعه يمرّ اليوم بأزمات مررنا بها قريبًا، وكما أن كل أزمة سبقت غدت بدايةً لحالة جديدة من الرفاهية والانفتاح، ستتحول أيضًا الأزمات الشدائد اليوم إلى جسر وراءه رَفَاه جديد؛ أليست وظيفتنا إذًا الإعداد لفترة جديدة من الطمأنينة والرَّفاه البشري؟
[1] القضاعي، مسند الشهاب، 1/436؛ الديلمي، مسند الفردوس، 1/426.
([2])يطلق مصطلح “التنظيمات” على مجموعة الإصلاحات التي أدخلها السلطان عبد المجيد في عام (1839م). وقد انتهى عهد التنظيمات بإغلاق مجلس النواب عام (1878م).
([3]) يطلق في الاصطلاح العثماني على مقر رئيس الوزراء أو مقر الحكم في الدولة العثمانية. وقد أنشأه السلطان محمد الرابع عام (1654م)، وأطلق فيما بعد اسم المكان على ساكنه وهو يعني رئيس الوزراء، وكان للباب العالي أهمية كبيرة في القرن التاسع عشر الميلادي وعلى وجه الخصوص في عهدي السلطان عبد العزيز والسلطان عبد الحميد الثاني. (سهيل صابان: المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية، مطبوعات مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض – 1421هـ/2000م، ص 49).
المصدر: محمد فتح الله كولن، الموشور، دار النيل، مصر، 2015، ص62.
ملاحظة: عنوان المقال من تصرف المحرر