س: يتهمكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنكم وراء محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في تركيا، فما ردّكم على ذلك؟
ج: أوَّلًا: مع الأسف شاهدنا العديد من الناس يقول الشيء نفسه بغير دليل، إنني أقيم هنا في أمريكا منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، من المحال أن أقوم بهذا الأمر، فأنا طوال عمري كنت ضدّ الانقلابات العسكرية، أندِّد بها وأستنكرها على الدوام؛ لأنني كنتُ أكثر المتضرّرين في كل الانقلابات، سواء تلك التي وقعت في 27 مايو/أيار (1960م)، أو التي وقعت في 12 مارس/آذار (1971م) أو التي حدثت في 12 سبتمبر/أيلول عام (1980م)، أو التي جرت في 28 فبراير/شباط عام (1997م). بعد انقلاب (1997م) جئتُ إلى أمريكا من أجل العلاج[1]، ومن يومها وأنا أقيم هنا.
قبل عشرين عامًا قلت بوضوح: “لا رجوع عن الجمهورية والديمقراطية”[2] ، وإن الذين ينادون بالجمهورية والديمقراطية الآن كانوا يكتبون مقالات ضدي في وسائل الإعلام نفسها بسبب هذه التصريحات.
إنني ما زلت منذ عشرين عامًا إلى الآن وأنا أكرر الشيء نفسه: “الديمقراطية وصندوق الاقتراع هما السبيل الوحيد إلى السلطة، فلا خير يُرجى من الانقلابات، وإن استخدام القوة الغاشمة لا يفيد شيئا للدولة”.. ربما أكون قد كررت هذه الأفكار أكثر من خمسين مرة حتى الآن، ولذا فمن غير الممكن أن يُفكر إنسانٌ مثلي بلغ من العمر السابعة والسبعين عامًا في القيام بهذا الأمر المقيت.
ثانيًا: إنني لا أعرف مطلقًا هؤلاء الذين زعموا أنهم قاموا بالانقلاب، ولا صلة ولا علم لي بهم لا من قريب ولا من بعيد، وعلى ذلك أكرر عليكم ذات الفكرة والمقترح الذي عرضتُه على رجال الصحافة أمس:
“لتتولّ لجنةٌ دولية التحقيقَ في هذا الأمر والتدقيق فيه، فإن ظهرت ادعاءات السلطات التركية بحقي صحيحة أو حتى لو بَنَتْ هذه اللجنة أحكامها على أدلة مغلوطة فإنني سأنزل على حكمها أيًّا كان عن طيب نفس وخاطر.. ولكن من غير الممكن أن نسلّم بادعاءات واتهامات مبنية على الحقد والكراهية”.
فيما بين السابع عشر إلى الخامس والعشرين من ديسمبر عام (2013م) أطلّت علينا وتكشَّفت أحداث وفضائح الفساد والرشاوى في تركيا، وقد كشفت هذه الأحداثُ عن وجود أعمال فساد ولصوصية وتبادُلٍ للرشاوى داخل الدولة، وعن الإسراف والبذخ الذي يعيش فيه أصحاب القصور.
وتلك الأحداث لا صلة لنا بها، ولا أدري من كان وراءها، المخابرات الألمانية أم المخابرات الأمريكية أم الاستخبارات التركية.. لا أدري! ومع ذلك نُسبت كل هذه الأحداث إلى محبِّينا والمتعاطفين معنا[3]، ومنذ ذلك اليوم بدأت حركة الخدمة توصَفُ بـ”الكيان الموازي”، ومما زاد الطين بلّةً أيضًا أنهم ادّعوا علينا زورًا وبهتانًا أننا نحن من دبّر هذا الانقلاب!.. هذا أمر لا يمكن قبوله مطلقًا!
والحق أن الكثيرين قد علّقوا على محاولة الانقلاب هذه قائلين: لقد قام أردوغان وأتباعه بهذه التمثيلية الانقلابية بهدف إحكام قبضتهم على المؤسسة العسكرية ووضعها تحت وصايتهم، وحتى يتسنّى لهم إقصاء المعارضين لهم في داخل السلك العسكري.. ربما أثار بعض القوميّين المتطرفين العسكر للقيام بهذه المحاولة وتورّط معهم بعض السذّج.. ويؤكد هذا الكلامَ قولُ رئيس الجمهورية التركية “أردوغان”: “إن هذه المحاولة قد عزَّزت من سلطتنا، لدرجة أننا أصبحنا نستطيع القيام ببعض التغييرات والتعديلات داخل المؤسسة العسكرية، وأن نهيمن عليها”، إضافة إلى قوله: “أنا القائد العامّ الآن”؛ بمعنى أن المؤسسة العسكرية وغيرها قد صارت تحت وصايتي المحضة.
وعند التدقيق في كل هذه الأمور، وإلقاء نظرة شاملة عليها، وإخضاعها لمبدإ السبب والنتيجة؛ سيتبين لنا بداهة أنهم أنفسهم قاموا بمثل هذه العملية حتى يتيسر لهم الأمر فيما بعد، وحتى يتمكّنوا من إطلاق يدهم كيفما يشاؤون داخل المؤسسات الحكومية دون مُسَاءَلة.
س: ذكرتْ وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة من قَبل كلامًا حول دعم حكومة أردوغان بشكل خفي لمنظمة “داعش” الإرهابية، فهل ترى أن هذه الحكومة تُناهض “داعش” وتكافحها حقيقة؟ وهل عقدت اتفاقًا بالفعل مع الدول التي تشنّ حربًا ضد هذه المنظمة؟ أم أنها كانت تتظاهر فقط بأنها تؤيد هذه الدول في حربها على الإرهاب إلا أنها تُبطن غيرَ ما تُظهِر؟
ج: أعتقد أن هذا الأمر بات معلومًا وواضحًا لدى الرأي العامّ العالميّ، فلقد انطلقت حكومة أردوغان تدعم هذه المنظمة الإرهابية بشكل سريّ منذ قيامها وبدايات تشكُّلِها، إلى جانب دعمِها لمنظمة “تحشية” التي تعد امتدادًا لمنظمة القاعدة في تركيا. وخير شاهد على ذلك تلك الشاحنات التي كانت مملوءة بالأسلحة وأوقفها العسكر وهي في طريقها إلى هذه المنظمة الإرهابية، ويؤكد هذا الكلام ما ذكره أحد الوزراء في هذه الحكومة -وهو “طُغْرُلْ تُركَشْ” مساعد رئيس الوزراء ونجل الرئيس السابق لحزب الحركة القومية “آلب أرسلان تُركش” في أحد البرامج التلفزيونية، وذلك قبل أن يُعيَّن وزيرًا-؛ حيث أقسم يمينًا مغلَّظًا أن هذه الشاحنات لم تكن متجهة لمساعدة التركمان، بل كانت في طريقها إلى منظمة داعش الإرهابية، وكرر هذا القول مرارًا وتكرارًا[4].
لطالما دعمَتْ هذه الحكومة جبهةَ النصرة ومنظمة داعش الإرهابية، ولا داعي للتكهّن بدافعهم إلى القيام بهذا الدعم، لكنني أعتقد أن أردوغان كان يأمل في إعلان نفسه أميرًا للمؤمنين في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بعد إسقاط النظام في سورية، والكلمات التي تفلّتت من لسانه تعبّر عن أشياء ذات مغزى من هذا القبيل، مثل قوله: “سأقرأ الفاتحة عند ضريح صلاح الدين الأيوبي، وأصلي في الجامع الأموي”؛ أي إنني سأجعل كل الشعب يقف ورائي، ولا جرم أن سورية ستتبعها الأردن ثم دول المغرب العربي، ثم مصر، إلا أن الوضع لمّا تغير في مصر وسارت السفينة ضد ما يشتهي وصفَ “السيسي” بـ”فرعون”، وقال: “لكل فرعون موسى”، معتبرًا نفسه موسى، والسيسي هو الفرعون.
كان يعقد آمالاً عريضة ليكون زعيم العالم الإسلامي، وحاول تحقيق هذه الآمال عن طريق داعش. ولقد أكدت المعلومات الصادرة عن بعض المؤسسات الإعلامية وأجهزة المخابرات أنه ما زال يدعم هذه المنظمة الإرهابية؛ يمدهم بالأموال، وإن افتضح الأمر يحاولون التستّر على الجريمة ولفتَ الأنظار إلى جهة أخرى.
وثمة أمر آخر يعرفه الجميع وهو: أن أنصار داعش ما زالوا يُعالَجون في مستشفيات تركيا، ثم يُرسل بهم إلى أماكن مختلفة من العالم؛ إلى فرنسا وأمريكا وإنجلترا، وليست أجهزة المخابرات فقط هي من لديها علم بهذه الأمور، بل هي معلومات متداولة بين الأطباء والممرضين الذين يعملون في هذه المستشفيات التي تقوم على علاج هؤلاء الإرهابيين.
هناك كثير من الأشخاص انضموا إلى هذه المنظمة الإرهابية، بل إن أكثر أفراد هذه المنظمة من تركيا. لطالما بكى العديد من الآباء والأمهات وناحوا قائلين: “لقد أبلغنا الحكومة عن اعتزام أبنائنا الانضمام إلى منظمة داعش الإرهابية، ورجوناهم أن يُثْنوا أبناءنا عن قرارهم هذا، لكنهم لم يفعلوا، فاختفى أبناؤنا وانضموا إلى هؤلاء الإرهابيين”.
إن أنصار داعش ما زالوا حتى الآن يتجولون في شوارع تركيا، تستخدمهم الحكومة للإغارة على بيوت معارضيها من المتدينين، وتعذيبهم وقتلهم.
إن داعش الآن هي أكثر المنظمات التي تستغلها الحكومة التركية وتعتمد عليها.
قيادة أردوغان تتظاهر أمام الرأي العام العالمي بأنها تحارب هذه المنظمة، والواقع أنها لم تحاربها قط، قد تكون للمؤسسة العسكرية جهود خالصة في هذا الشأن، لا أستطيع أن أنكر ذلك، فقد كانوا يمطرون داعش أحيانًا بوابل قنابلهم، وكذلك كان يفعل الروس والأمريكان، غير أن الحكومة التركية كانت تتظاهر بحربها ضد داعش حتى لا تقف في موقف المعارض للرأي العام العالمي، ولكنها لم تتخلّ في أيّ وقت عن دعمها لهذه المنظمة.
قبل بضعة أيام كانوا يدافعون عن داعش في إحدى القنوات التلفزيونية التابعة لهم، فلما قوبلوا بردّ فعل عنيف على ذلك أجروا تحقيقًا صوريًّا في هذا الموضوع. والحال أن مَن زُجّ بهم في السجن من أنصار داعش قد أُفرج عنهم وأخلي سبيلهم، ومن امتثلوا أمام القضاء أُخلي سبيلهم أو رُحّلوا.
وإذ يتمتّع أفراد داعش بكل هذا الدعم والمؤازرة من قِبَلِ الحكومة التركية فإنّ المواطنين الأتراك الذين هم أبناء البلد لا يلاقون ولا يتحصّلون على نفس هذه المعاملة من حكومتهم، فالحكومة الآن تضطهد مواطنيها وتبالغ في أذيتهم وإيذائهم. إن أنصار الحكومة الآن يُغيرون على بيوت من يعارضهم، ويكسرون أبوابها ولا يراعون حرمتها، أما موقفهم بالنسبة لهذه المنظمة الإرهابية فلم يتغير.
إن أكثر المدافعين في العالم عن داعش وجبهة النصرة هم أصحاب السلطة عندنا في تركيا، وما رأيناهم أعلنوا الحرب على الإرهاب أبدًا، ربما أعلنوا مؤخرًا الحرب على حزب العمال الكردستاني، وهذا كان في الآونة الأخيرة فقط.
قبل عشر سنوات وجّهتُ خطابًا[5] من بضع مواد إلى السلطة التركية اقترحت فيه بعض الحلول لمشكلة الأكراد في جنوب شرق البلاد وما الموقف الذي يجب اتخاذه معهم.. وقد تكلمت في هذا الخطاب عن سبل حلِّ هذه المشكلة، منبِّهًا إلى ضرورة السماح لهؤلاء الناس باستخدام لغتهم بارتياح، فأمريكا يقطنها (300) مليون نسمة، كلهم يتحدّثون لغتهم الخاصة بهم. كما تطرقتُ في الخطاب إلى الحديث عن مسألة تنظيم العمل الأمني وتطوير المنظومة القضائية هنالك، وإعمار المنطقة، كما لَفَتُّ أنظار المسؤولين في الحكومة أيضًا إلى تعديل أوضاع من يعيشون في جنوب شرقي تركيا حتى لا ينظروا بغبطة إلى إخوانهم الأكراد الذين يعيشون في شمال العراق، فيتمنوا أن يكونوا مثلهم.. وقد كنت أهدف من وراء كل هذا إلى عدم إفساح المجال أو إتاحة الفرصة أمام انفصال إخواننا الأكراد عن تركيا.
ولقد بدأت الحكومة منذ خمس سنوات مع حزب العمال الكردستاني “با كا كا (PKK)” بما عُرِف بوتيرة الحلّ، وخلال هذه الوتيرة انتهزت المنظمة الإرهابية “با كا كا” فرصة السلام والمفاوضات فحوّلت كل أنحاء تركيا إلى مستودعات للذخيرة، وتحولت منطقة جنوب شرق تركيا الآن إلى خرابات. وفي الواقع فإن التغاضي والتعامي عن إدخالهم السلاح وإقامة مستودعات الذخيرة خيانةٌ. أجل، إن التغاضي عن إقامة هذه المستودعات خيانة للأمة التركية؛ فقد تحولت هذه المنطقة إلى خرابات، وبات الجيش لا يستطيع الوقوف ضد هذه الفوضى والانفلات الذي حصل هناك.
وأعتقد أنهم أعدوا سيناريو هذا الانقلاب حتى يصرفوا الأنظار عن هذا المشهد المأساوي. ربما وجدوا في بعض القوميّين المتطرفين أو بعض المتديّنين البسطاء من يعينهم على ذلك، وربما صدّروا المشهد ببعض العسكر من أصحاب الرتب الدنيا، وقالوا لهم قوموا بما يشبه الانقلاب. هذا أمر لا أستطيع أن أعرف ماهيته أو صورته الحقيقية تمامًا، لأنني أعيش هنا في أمريكا، وأتابع الأحداث من خلال التليفزيون والإعلام فقط.
الغريب أن القائمين على الانقلاب بدوا كأن انقلابهم لم يكن شاملا، بل استهدف أشخاصا محدَّدين فقط، داهموهم واحتجزوهم كرهائن وانتهى كل شيء، لم يفعلوا شيئًا مع القائمين على أمر البلاد من رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء إلى السياسيين الآخرين، ولم يتعرضوا لأيّ قناة من قنوات الدولة الرسمية أو مؤسسات الإعلام المختلفة، كان الأمر أشبه ما يكون بمسرحية.
لقد عاصرتُ كل الانقلابات التي وقعت في تركيا -27 مايو، و12 مارس، و12 سبتمبر، و28 فبراير- وكان الانقلابيون يستغلون كل هذه المنابر الإعلامية في إذاعة بيانات انقلابهم.
لم تكن الحكومة صادقة في التعامل مع “داعش” كما لم تكن صادقة في التعامل مع حزب العمال الكردستاني، ولقد ذكرتُ في رسالتي التي اشتملت على بعض النصائح والتوصيات أنه ينبغي للحكومة أن تعالج مشكلة الأكراد في جنوب شرقي البلاد وتحلها تمامًا، وألا تسمح بانقسام المجتمع التركي، فلم يعوا ذلك، وضربوا بهذه النصائح عرضَ الحائط.
ساقوا الدولة إلى كارثة حقيقية، والآن تريد الحكومة أن تصرف الرأي العام عن هذا الفشل الذريع إلى ناحية أخرى، لا سيما أن هناك معارضين لها داخل الجيش وخارجه من المنتمين لـ”حزب الشعب الجمهوري (CHP)” أو “حزب الحركة القومية (MHP)” أو “حزب الوطن (Vatan Partisi)” وغيرها من الاتجاهات السياسية؛ لذا يخيل إليّ أنهم أعدوا سيناريو هذا الانقلاب حتى يتخلصوا من هؤلاء الخصوم جميعهم مرة واحدة، سواء داخل المؤسسة العسكرية أو خارجها؛ مما يتيح لهم إمكانية فرض الوصاية بارتياح على هذه المؤسسة، والقضاء على معارضيهم خارجها جملة واحدة.
أعتقد أن الذين يدرسون هذا الملف بشيء من العقلانية معتمدين على مبدإ السبب والنتيجة سيفسرون الأمر على هذا النحو؛ بمعنى أنهم لو نظروا نظرة شاملة إلى المسألة دون انسياق وراء كلام هذا أو ذاك أو حتى كلامي أنا، فسيصلون إلى نفس النتيجة التي ذكرتها.
س: أدلى رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان بتصريح أشار فيه إلى أن الإدارة التركية بصدد إرسال طلب إلى أمريكا لإعادتكم إلى تركيا، وذكر المسؤولون في الإدارة الأمريكية أنهم لم يتلقوا طلبًا رسميًّا بهذا الشأن، غير أن حكومة أنقرة أكدت على أنها تُعِدّ لإرسال هذا الطلب خلال الأسبوع القادم، فهل ستوافق الحكومة الأمريكية حقًّا على إعادتكم إلى تركيا؟ وإن لم تفعل فماذا يمكن أن يكون مبرّرها في ذلك؟
ج: لمّا أُجرِيتْ التحقيقات حول فضائح الفساد والرشاوى في الفترة من السابع عشر إلى الخامس والعشرين من ديسمبر (2013م) روّجت الحكومة التركية لفكرة “الكيان الموازي”، واتهمتنا بأننا نحن من يشكل هذا الكيان الموازي للدولة، وبعثتْ بمثل هذا الطلب المذكور إلى أمريكا؛ إلى السيد “باراك أوباما”، وإلى وزير خارجيته آنذاك، كما عقدت اتصالات مكثفة بهذا الشأن مع السيدة “هيلاري كلينتون”، وعرضت بعض المقترحات الأخرى وهي أمور شائعة يعرفها الجميع.. حاولت أن تؤثر على بعض المسؤولين في أمريكا وتستخدمهم في تحقيق مآربها، ولكنها لم تتلقّ أيّ ردّ إيجابيّ حتى الآن من أيّ واحد من هؤلاء، وباءت محاولاتها كلها بالفشل.
فلو تأكد لدى القانون الدوليّ أننا ارتكبنا جريمة تستحق العقوبة، أو ثبت بالفعل تورُّطي أو المتعاطفين معي في هذه المحاولة الانقلابية، وظهرت أدلة ملموسة تؤكد هذا الأمر وصادقت القوانين الأمريكية على ذلك، فإنني سأقبل بالنتيجة مهما كانت.
وأريد أن أنبّه هنا على شيء آخر مهمّ وهو أنني -مثلا- قد أتعاطف مع بعض الأشخاص في أذربيجان، ولكن هذا لا يعني أنني أرضى بكل أفكارهم وتصرفاتهم.
ولقد بعثت تركيا مثل هذا الطلب من قبل بعد وقوع انقلاب الثامن والعشرين من فبراير (1997م)، ورفع المدعي العام التركي “نوح مَتَه يُوكْسَلْ (Nuh Mete Yüksel)” مذكرة ادعاء مكونة من (300) صفحة إلى أمريكا، عندها أدليتُ بأقوالي أمام المدعي العام الأمريكيّ في “نيو جيرسي”، وبعدها تم إرسال الأقوال التي أدليت بها إلى تركيا، فبرأتني المحاكم في تركيا، وصدّق القضاء التركي على قرار البراءة.
والآن يروّجون الادعاءات السابقة نفسها من جديد، ويعيدون طرحها مرة أخرى، ولكنني لا أتصوّر أن أمريكا ستقع في هذا المزلق. ما رأيته من معاملة راقية للمدعي العام في “نيو جيرسي” وبعض المناطق الأخرى في أمريكا أكد لي مصداقية ونزاهة القضاء في أمريكا. يمكنكم أن تطلقوا ادعاءات مختلفة بحقّ شخصٍ ما، ولكن النظام القضائيّ والنظام الصحّيّ هنا في أمريكا يعملان وفقًا للقيم الإنسانية، ولقد تعاملت بنفسي مع كلا النظامين. ومن ثم لا أتصوّر أن قوة عملاقة مثل أمريكا ستقع في مثل هذا الخطإ الذي قد يؤدي إلى ضياع سمعتها على مستوى العالم، أسبتعد ذلك تماما.
ولكن أؤكد مرة أخرى، إن قامت لجنة دولية بالتحقيق في هذا الأمر، وكانت نتيجة تحقيقاتها أنني ضالع في هذه المحاولة الانقلابية، وصادقت أمريكا على ذلك، فلن أنتظر لحظة واحدة، لن أنتظرهم لكي يرحّلونني إلى تركيا.. بل سأبادر بنفسي، سأركب الطائرة وأذهب إلى تركيا.
أنشدتُ في الصباح قصيدة للشاعر التركي “باقي” يقول فيها:
لن أنكّس رأسي من أجل دنيا دنيّة،
ولن أنحني أمام الظَّلَمة المتجبّرين،
الله حسبي وعليه توكلي إلى يوم الدين…
اقترح البعض عليّ سابقا أن أطلب الصفح من هؤلاء وأتقدم إليهم بالاعتذار. المجرمون هم من يعتذرون ويطلبون العفو والغفران، أي اللصوص، السارقون، الذين نشأوا في العشوائيات وخرجوا منها ونصّبوا أنفسهم سلاطين على الناس. إنني لا أملك من متاع الدنيا شيئًا، ولا أملك سوى هذه السترة التي تستر بدني، كنت أتعيّش على الدخل الذي يأتيني من مستحقات التأليف لكتبي، لكنهم عينوا أوصياء من أنصارهم على المؤسسات التي تنشر تلك الكتب، فصادروها قسرا، لذا أقول كما قال الشاعر العثماني “نفعي”:
لم نذق شيئا من راحة الدنيا،
ولم نعقد آمالنا بأي واحد من أهلها،
ولم يكن لنا باب سوى باب الله،
هو ملاذنا وحصننا ومأوانا…
أجل، لو أثبتت لجنة تحقيق دولية أنني متورّط في هذا الأمر، فأنا على استعداد أن أركب طائرة على نفقتي الشخصية وأتوجه إلى تركيا فورا. وإن أصدروا قرارًا بإعدامي، فسأذهب إلى حبل المشنقة بنفسي دون أي تردد، لكنهم إن أعدموني في اليوم خمسين مرة ثم أحيوني فلن أعتذر إلى الظالم مطلقًا، سأقف غدًا بين يدي الله تعالى، ويسألني: لِم اعتذرتَ للظالمين؟ لذلك لا يمكنني أن أفعل ذلك. هذه قناعتي التي أومن بها بكل كياني ولا أتراجع عنها أبدا.
ثم إنني إن فعلت ذلك فسأكون قد انتهكت حقوق إخواني وأصدقائي الذين نذروا أنفسهم لخدمة الإنسانية في كل أنحاء العالم، يريدون تأسيس عالم من المحبة والتعايش والسلام، فأنشؤوا مدارس في أكثر من 170 بلدًا، حتى أحبّهم الناس في كل هذه الدول، وخطوا خطوات حثيثة في سبيل تحقيق السلام في العالم.
إن الإدارة التركية تحاول منذ ثلاث أو خمس سنوات إغلاق هذه المؤسسات التعليمية، أغدقوا أموالا طائلة في سبيل ذلك يريدون شراء الناس بأموالهم. كما أنشؤوا مراكز “يونس أمره” (Yunus Emre)، فلم يستطيعوا تشغيلها كما ينبغي، فضلًا عن ذلك لم يأتوا ببدائل رغم أنهم أغدقوا أموالا كثيرة ووعدوا بإقامة مدارس بديلة في مقابل إغلاق مدارس الخدمة، ولما قيل لهم: “أنشئوا مدارسكم أوّلًا، وبعدها سنغلق ما عندنا”، لم ينبسوا ببنت شفة. “أذربيجان” مثال لذلك، فهل افتتحوا مدرسة أو جامعة هناك، وهل ساهموا في تطوير العلم والمعرفة، يمكنكم أن تروا الشيء نفسه في كل مكان.
إنهم يريدون إبادة هذه الحركة التعليمية الإنسانية في كل مكان عن طريق الخداع والتضليل، لماذا؟! لأنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا ما فعلته الخدمة. أحيانا يسوق الحسدُ والغيرةُ الإنسانَ إلى أن يرتكب جرائم تفوق الكفر وخيانة الوطن. وما الثروة والأبّهة والعظمة والسلطة والثراء إلا عوامل تسمِّم عقولَ الناس وتجعلهم يتصرّفون كالمجانين؛ ومن ثمّ فإنني أرى من الذل أن أحني رأسي أمام هؤلاء المجانين الظالمين الذين لا يرحمون أحدا. إن أحنيتُ رأسي لكان ذلك استخفافًا برجال الخدمة الذين ربطوا قلوبهم وآمالهم بها. الخضوع لأمثال هؤلاء عار ومذلة يخجل المرء منها حينما يقف بين يدي الله تعالى يوم الحساب.
س: تعرض العديد من المنتسبين للخدمة في تركيا للهجوم والمضايقات، ويبدو أن هذا الأمر سيستمرّ بل وتزداد حدّته، فبمَ تنصحون هؤلاء؟ وكيف ينبغي أن يكون موقفهم من هذه الهجمات والمضايقات المتنوّعة؟
ج: أوَّلًا: إنني لا أعرف الكثيرين من هؤلاء الأصدقاء والمحبين فردا فردا، هؤلاء قد رأوا أن مشروعات الخدمة تصبّ في مصلحة الإنسانية فساهموا فيها. جاءني بعضهم، ربما واحد أو اثنين في المائة من هؤلاء وسألني: ما الذي يمكن أن أقوم به؟ هل أفتتح مركزًا لتعليم القرآن الكريم أم أبني مسجدا أم أفعل شيئا آخر مشابها؟ إن العالَم كله يعرف قناعتي في مثل هذه الحالات، كانت إجابتي دائما:
“أنشئوا مؤسسات تعليمية، أسسوا مدارس، كل شيء مرتبط بالعلم والمعرفة، كما أن الجهل والفرقة والفقر يتصدَّرون قائمة المشاكل التي تهدد الإنسانية في كل أنحاء العالم، وإنَّ حلَّ هذه المشاكل كلها يكمن في التعليم، وإنَّ إزالة هذه المشاكل لن يكون إلا على أيدي أناس مستنيرين متعلمين. لذلك نعم، اهتمّوا بتأسيس مراكز لتعليم القرآن الكريم ومدارس الأئمة والخطباء، ولكن عليكم أن تعملوا في نفسِ الوقت على افتتاح مدارس علمية حديثة أخرى. إن فعلتم ذلك فأنا على يقين بأن مشكلة الجهل ستزولُ ولن يبقى لها وجود وستتصالح الإنسانية مع بعضها؛ لأن من يتعلمون تحت سقف واحد تتأسس روح الأخوة فيما بينهم وإن اختلفت ألوانهم وثقافاتهم ولغاتهم ودياناتهم”.
كان هذا رأيي دائمًا، ومن ثم بدأ هؤلاء الأخيار الذين اقتنعوا بهذه الأفكار ينفتحون على كل العالم بداية من التسعينيات حتى يومنا هذا.
أما دوري في هذه الخدمات فكان منحصرا في الحثّ والتشجيع عليها من خلال كراسي الوعظ أو الندوات التي كنت أحاضر فيها أو المقالات التي كنت أكتبها في مجلات مختلفة. ومن ثمّ قام المتعاطفون مع فكرة الخدمة والمؤمنون بمشاريعها بإنجاز هذه الخدمات، حيث استوعبوا الأفق، وتأكدوا أن هذه الأعمال ستسهم في تحقيق السلام والمحبة الإنسانية واحتضان الناس بعضهم لبعض.
أنا لا أتصور أبدًا أن يتراجع هؤلاء الأخيار بأيّ حال من الأحوال عما شرعوا فيه من أعمال للإنسانية جمعاء.
ثانيًا: لقد شاهد الجميع على شاشات التلفاز تلك الهجمات الوحشية -سامحوني- التي قامت بها أجهزة الأمن والقضاء على بعض مؤسسات الخدمة ودور الحضانة ومنازل بعض أبناء الخدمة، ولكن هل لاحظتم أيَّ رد فعلٍ سلبيّ تجاه تلك التجاوزات من أيّ محبٍّ للخدمة أو متعاطفٍ معها أو ممن يعمل في مؤسساتها؟ أبدا، لم ينبس أحدٌ ببنت شفة، ولم يدخل مع رجال الأمن في مشاكسات أو مخالفات، فلو وقعت حادثة واحدة خلاف ذلك فأروني إياها!
ومن ثمّ لا يوجد ما أقوله لهؤلاء الأخيار، لأنهم يعرفون واجبهم جيّدًا. أعتقد أن هؤلاء الأخيار الذين آمنوا بالله حقا، وأنه سيحاسبهم يوم القيامة عما اقترفت أيديهم، واقتنعوا بأن هذه المشاريع صحيحة وتصبّ في خدمة الإنسانية.. محال أن يحيدوا عن طريقهم؛ كما أعتقدُ أنه من ضروب المستحيل أن يتورطوا في العنف أو أي حادث إرهابي.
س: سؤالي يتكون من جزئين. الجزء الأول: هل تقدمتم بطلب اللجوء إلى أمريكا؟ أو هل تفكرون في ذلك؟ الجزء الآخر: ما الجانب الذي يستفزّ أردوغان في شخصيتكم؟
ج: أوَّلًا: لم أتقدم بأيّ طلب للجوء إلى أمريكا، لكن بعد وصولي إلى هنا تقدمتُ بطلبٍ للحصول على “الكارت الأخضر” (Green Card)، ربما ترددتُ في القيام بهذا الأمر في البداية، لكنني استعنت فيما بعد بمحام ساعدني على استخراج هذا الكارت قبل (7-8) سنوات، والآن أنا أقيم في أمريكا بناء على هذا الكارت.
فضلًا عن ذلك فإنني أعتقد أنه لا حاجة لطلب اللجوء ما دمتُ أحمل هذا الكارت، ولم أفكر في التماس طرق أخرى تحول دون إعادتي إلى تركيا من قبل السلطات التركية، ولم يخطر هذا على بالي مطلقًا.
ثانيًا: أردوغان وأنصاره لم يتقبّلوا أو يستسيغوا أن ينجز أبناء الخدمة ما لم يستطيعوا هم إنجازه؛ لقد أنشؤوا بضعة مراكز في بعض الدول تحت اسم “مراكز يونس أمره”، لكنهم لم يفلحوا في إدارتها.
أما المحبون والمتعاطفون مع الخدمة فقد أنشؤوا مدارس فيما يزيد على مائة وسبعين دولة على مستوى العالم؛ في آسيا الوسطى، والشرق الأوسط، والشرق الأقصى، ونظموا العديد من المهرجانات الثقافية في العديد من دول العالم، وكانت تركيا بالطبع في المقدمة. فلما منعوا إقامة مثل هذه الاحتفاليات في تركيا منذ سنتين نُظمت فيما يزيد على عشرين دولة مختلفة من دول العالم. وفي هذه السنة اتسعت دائرة هذه المهرجانات لتشمل ثلاثين دولة.
لقد أقبلت الشعوب على هذه المهرجانات التي ذاع صيتُها بينهم، وتعاطفوا معها. أما المسؤولون في الحكومة التركية فقد أحاطت بهم المشاكل من كل جهة حتى ضيقت عليهم عالمهم. وأعتقد أنهم ورّطوا أنفسهم في مأزق كبير من جرّاء ذلك، وما يعيشونه اليوم من تخبط إنما هو هذيان ناتج عن هذا المأزق.
س: قام رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بممارسات شتى من شأنها زيادة قوته واتساع صلاحياته، وتعامَلَ في نفس الوقت مع حركة الخدمة من منطلق فكرة “مطاردة الساحرات”، فهل أنتم تؤمنون حقًّا بشرعية رئاسته للجمهورية التركية؟
ج: لستُ في وضع يخولني قولَ أيّ شيء في هذا الأمر على اعتبار أن مسألة الشرعية هي مسألة قانونية، غير أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل الممارسات التي قام بها تتوافق مع مقام رئاسة الجمهورية أم لا؟
يمكنني أن أقول بناءً على التجارب السابقة: لقد عاصرتُ عهد “عِصْمَتْ إِينُونُو بَاشَا”[6]، و”جَلَالْ بَايَارْ”[7]، و”سليمان دَمِيريل”[8]، وكان لي مع الأخير علاقة وصداقة، كما شهدت عهد “تورغوت أوزال”[9]، ورئيس الوزراء الأسبق “بولنت أجاويد”[10]، وكانت لي مع الجميع علاقات إنسانية حميمة.
إلا أنني أرى في أردوغان إنسانًا له أطماع خفية، يريد أن يقيم عالَمًا خاصًّا به، يقوم بأعمال وتصرفات من شأنها أن تدعِّم بقاءه في رئاسة الجمهورية إلى الأبد.
لقد استغل أردوغان فضائح الفساد والرشاوى وسيناريو الانقلاب المزيّف للتضييق على رجال الخدمة والمحبين لها والمتعاطفين معها، وهذه أمور لا تتفق أبدًا مع مقام الرئاسة، ولا تسمح تربيتي وأخلاقي بأن أقول إن هذه الممارسات تؤكد أنه لا يليق مطلقًا برئاسة أمة كانت عنصرًا من عناصر التوازن الدولي وقتًا طويلًا.
س: في صبيحة هذا اليوم 17 يوليو/تموز (2016م) تم القبض على ستة آلاف شخص واعتقالهم، فهل لديكم علم بذلك؟
ج: أخبرني الإخوة بذلك، لم يكن هذا مستغربًا، فقد أصدر أردوغان أمرًا بذلك من قبل، فقال: “اكسروا أبواب البيوت، واقبضوا على أصحابها، وائتوني بصور الأبواب المكسورة”.
الواقع أنهم ابتدعوا منذ فترة شيئًا مخالفا لروح القانون للقبض على الناس ألا وهو “الاتهام الظنيّ”، أو الاعتقال بـ”التهمة الظنيّة”، وعلى هذا الأساس بدأوا بما يسمى بـ”مطاردة الساحرات” لملاحقة المشتبه بهم. اعترف بذلك أردوغان نفسه في بعض تصريحاته قبل سنتين. يُفهَم من ذلك أن لهذا الأمر توابع في المستقبل القريب.
إنني أرى أن هذه العملية ستطول وتؤذي يومًا ما كلَّ المقربين منه أيضًا، ولن يسلم منها إلا هؤلاء الذين بايعوه ووافقوه في كل شيء واعتبروا مجرد ملامسته عبادة[11].
هؤلاء الذين يصفقون له الآن إن لم يوافقوه في كل ما يفعل غدا، فلن يسلموا من هذه العاقبة أيضًا.
س: أريد أن أسئل سُؤالين. الأول: وقعت انقلاباتٌ شتّى في تركيا، منها انقلابات تقليدية ومنها انقلابات ناعمة مثل انقلاب “ما بعد الحداثة” في الثامن والعشرين من شباط/فبراير (1997م)، فماذا كان موقفكم وردُّ فعلِكم من هذه الانقلابات؟
والثاني: قُتل العديد من الأبرياء في محاولة الانقلاب الأخيرة، ورغم أنكم كنتم تعلنون عن موقفكم الرافض من العنف الذي تمارسه الجماعات الإرهابية مثل منظمة داعش، فإننا نراهم الآن يُقحمون اسمكم بين أسماء المتورطين في هذه المحاولة، فهل كان لهذا الأمر أثرٌ في زيادة مشاعر الاستياء والحزن لديكم؟
ج: عايشتُ كثيرًا من الانقلابات في تركيا، أما بداية عهد الجمهورية فلم أعاصره. بالتأكيد الدولة التركية في بداية تأسيس الجمهورية مارست ضغوطات كثيرة على الشعب بذريعة إحكام السيطرة على البلاد وترسيخ النظام وإكمال عملية الاستقلال.
وعندما وقع انقلاب السابع والعشرين من مايو عام (1960م) كنت أبلغ من العمر ما بين عشرين إلى اثنين وعشرين عامًا، وعانيتُ حينها في مدينة “أَدِرْنَه” أصنافا من الضغوط والتضييق عليّ. منذ ذلك الوقت بدأت أتعوّد شيئًا فشيئًا على مثل هذا التضييق والضغوط، وفي انقلاب الثاني عشر من مارس (1971م) زجّوا بي في السجن، فلبثت في غياهب السجون العسكريّة ما بين ستة إلى سبعة أشهر، فشدّ هذا من عزيمتي، وعوّدني على ما هو أشدّ، ولما حدث انقلاب الثاني عشر من سبتمبر/أيلول (1980م) فررت لمدة ست سنوات أتنقل من مكان إلى آخر داخل تركيا ولم يستقر بي مقام، حتى جاء عهد “تُورْغُوتْ أُوزَالْ” ورئاستِه للوزراء، فقبضوا عليّ، إلا أن “تورغوت أوزال” تدخّل في الأمر بكل قوته، وجمع مجلس الوزراء، ثم تبيّن أن الملف فارغ من أي مضمون ومن أي أدلة ملموسة فأغلقت القضية، وتم إطلاق سراحي. لا داعي لأن أسرد عليكم أسباب اعتقالي ومقاضاتي، فقد كانت أسبابًا تافهة، مثل نشر القيم الإسلامية، والدعوة إلى الإسلام، ومحاولة جعل الشباب متديّنين، والحديث عن تجليات اسم الله القدوس، وما يحمله هذا الاسم من النزاهة والطهر والتقديس… إلخ.
أجل، لقد رفعتْ المعاناةُ في كل تلك الانقلابات من درجة مقاومتي، إلا أن الانقلاب الأخير (15 يوليو/تموز 2016م) كان أشدَّها، وأكثرها تجاوزًا ووقاحة؛ حيث إنني لم أشهد عُشْرَ هذه الإساءة والوقاحة وقلة الحياء حتى عندما قبض عليّ العسكر قديمًا.. لم نتعرض أنا وأصدقائي من قبلُ لمثل هذه الصفاقة وقلة الحياء، إنما كانوا يُعاملوننا معاملة إنسانية، بل إن العسكر كانوا ينظرون إلى وجوهنا أحيانًا ويقولون: “لا يمكن لهذه الوجوه المشرقة أن تأتي بأي فعلٍ قبيح”.
ولكن كما رأيتم منذ بضع سنوات عمومًا، وفي السنتين الأخيرتين خصوصًا، وبعد مسرحية الانقلاب هذه أخذوا يعاملونني معاملة السفاحين من أمثال “ماكسميليان روبسبيار (Maximilien Robespierre)”[12].
في الحقبة الأخيرة كانوا يتفنّنون في التضييق علينا وإثارة المتاعب حولنا وافتعال المشاكل معنا اعتمادًا على مبدإ “الاتهام الظنّي”، مثل قولهم: لِمَ تنظرون إلينا شزرًا هكذا؟ إن نبرة صوتكم تثير اشمئزازًا وحساسيةً لدينا… إلخ. ولكن كل هذه الانقلابات كانت -ولله الحمد- تأهيلًا من الله تعالى لنا، ولذا استطعنا أن نتحمل ونصبر.. هذا جانبٌ من المسألة.
أما الجانب الآخر فهو أننا إذا ما نظرنا إلى ما لحقَ بالرسل والأنبياء السابقين من أذًى وإيذاء من قِبَلِ قومهم سنجدُ أنهم وأتباعَهم قد تعرّضوا للإساءة نفسها من قبل المستبدّين في عصرهم.
إن إنجاز أيّ شيءٍ في شرق العالم وغربه من أجل خدمة الإنسانية وتوجيهها إلى السعادة الأبدية لَيُسبب إزعاجًا وقلقًا لدى هؤلاء المستبدين، لأنه لا يتفق مع أفكارهم ورُؤاهم.
إن جنون القوة والعظمة، وانعقادَ الآمال على الحياة المستقبلية، والحياة المرفهة، واختلال التوازن الناجم عن الانتقال من العشوائيات إلى القصور الفاخرة؛ كل هذا من شأنه أن يشكّل آثارًا سلبية لدى هؤلاء المستبدين.
من أجل ذلك ارتفعت حدّة التضييق اليوم وزادت جرعتها، ولكن نحمد لله الذي عوّدنا على تحمّل مثل هذا التضييق والأذى، والصبر على ما نحن فيه الآن. ليس من الصحيح أن أقول إنني لا أشعر بأيّ ألم، لكنني أقول بلسان أحد الشعراء:
كيف أملُّ من الجفاء؟ فهو نور عيني،
مع ذلك فالروح تحزن من الجفاء…
نحن بشر، خُلقنا من لحم وعظم، لدينا مشاعر وأحاسيس، وكرامة إنسانية وإسلامية، فلا يمكن لأحد أن يقول إنه لا يتأذّى إذا ما جُرحت كرامته. أصدقائي المقرّبون مني يعرفون مدى حزني وأسفي من مثل هذه التجاوزات؛ إنهم يعرفون كيف أظلّ نصف ساعة أبكي أمام موت نحلة، وكم أكون سعيدا عندما أنقذ نملة وأعيدها إلى ميدان الحياة مرة أخرى، كم أكون سعيدا عندما أنقذ فراشة كانت تتخبط وتتلوى، وأراها ترفرف بحرية، أشعر كأنني أنقذت إنسانا من الموت.
هذا هو شعوري أمام أصغر المخلوقات، فكيف بقتل الناس، وتخريب الديار، وجرح الكرامة الإنسانية؟! لا يمكنكم أن تتصوروا مدى تأثُّري وحزني العميق أمام هذه الـمَشَاهد المؤلمة!
قبل بضعة سنين كنت أتابع الأخبار عبر التلفاز، فتعرفت من خلال التلفاز على أسماء بعض الجنرالات الذين اعتقلتهم هذه الإدارةُ المستبدّة في قضايا المطرقة وأرجينكون؛ الإدارة التركية الحالية ذاتها.. منهم “تَأُومَانْ باشا”، لم ألتق به شخصيا، ولكن عرفته من خلال أحد الأصدقاء، كان قائدًا عامًّا لشرطة الدرك، وكان يعمل من قبل مديرًا عامًّا للمدارس الحربية، لمّا شاهدته مقبوضًا عليه وهو في هذا السنّ والمقام لم أتمالك عبراتي.
والأصدقاء هنا يعرفون قدر تأثري وحزني لمّا ألقي القبض أيضًا على “إِلْكَر باشبوغ” -رئيس الأركان السابق- فهذا الرجل مهما كان فكره، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، لا تليق به مثل هذه المعاملة. هذه قناعتي، وهذا ما أشعر به إزاء الناس.
عندما شاهدت في التلفاز الأبرياء يُقتَلون، فقد كان ذلك فوق طاقتي. كيف أستطيع تحمُّل مشاهدة قتل هؤلاء الأبرياء، وتخريب بيوتهم، وتشريدهم!
لا تتجاوز مشاهدتي للتلفاز -في الفترات الأخيرة- أكثر من عشر دقائق، وبعدها أستسمح الأصدقاء في غلق التلفاز لعدم قدرتي على مشاهدة المزيد. من هنا يمكنكم أن تقيّموا إلى أيّ مدى بلغت حساسيتي جرّاء هذه الأحداث.
إنني لا أفكر في شخصِي وحالِي، ولو كنت أفكر هكذا لَمضيتُ إلى غرفتي مستغفرًا الله تعالى ومتوجهًا إليه قائلًا: ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، إلا أن سحقَ وإبادةَ من أعرفهم أو من تربطهم بنا علاقة يُؤثِّر في أعماق قلبي وكأنني أنا من يُفعل به ذلك.
إن الكلمات الجارحة التي يُخاطَب بها هؤلاء، والمعاملة السيئة التي يلاقونها تشبه الحربة التي انغرزت في أحشائي؛ ولكن كما قال الشاعر:
أستسلم لقضاء الله وقدره في السرّ والعلانيّة،
ولا أخضع للمنحطين من أجل دنيا دنيّة،
هذا ما أعلنتُه من قبل وأعلنه الآن مرة أخرى. لن نفزع ولن نتخلى عن قضيتنا، وأوصي جميع أصدقائنا بألا يفزعوا أو يتضجروا.. والله في عوننا جميعًا.
[1] وقد طُلب خلال شهر يناير/كانون الثاني (1999م) حجز موعدٍ للكشف الطبيّ على فتح الله كُولَنْ في “مستشفى مايو (Mayo Clinic)” بالولايات المتحدة الأمريكية، فحدَّدت إدارة المستشفى الموعد في الثاني والعشرين من مارس/آذار (1999م)، وبناءً عليه غادر فتح الله كُولَنْ تركيا في الحادي والعشرين من مارس/آذار (1999م)، وخضعَ لِفَحْصٍ طِبِّيٍّ شاملٍ في هذه المستشفى في الفترة ما بين الثاني والعشرين والسادس والعشرين من مارس/آذار، وهو يقيم في أمريكا منذ ذلك اليوم وحتى الآن بناءً على توصيات أطبَّائِهِ. (المحرر)
[2] لمعرفة آراء الأستاذ عن الديمقراطية انظر: مايمول أحسن خان: فتح الله كولن: الرؤية والتأثير (تجربة فاعلة في المجتمع المدني)، الفصل السادس: رؤية كولن للديمقراطية الحديثة، دار النيل، القاهرة – (2015م)، ص. 156-176.
[3] أُجري مع الأستاذ فتح الله كولن في هذه الفترة بعض الحوارات، ونشرت هذه الحوارات تحت عنوان: كلمات شاهدة، دار النيل – (2015م) القاهرة. (المحرر)
[4] نُشر هذا البرنامج في قناة (CNNTURK) في 3 يونيو/حزيران (2015م)، انظر (بين الدقائق: من 20:24 إلى 23:30):
http://tv.cnnturk.com/tv-cnn-turk/programlar/tarafsiz-bolge/7-haziran-a-geri-sayim
[5] انظر: إلى دولة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان مقترحات لحل المسألة الكردية، ص:297 من هذا الكتاب.
[6] “عصمت إينونو” (24 سبتمبر 1884 – 25 ديسمبر 1973م)، ثاني رؤساء الجمهورية التركية. تولى الرئاسة من 11 نوفمبر (1938م) إلى 22 مارس (1950م).
[7] “جلال بايار”: 16 مايو 1883- 22 أغسطس 1986) سياسي تركي ورجل دولة كان الرئيس الثالث للجمهورية التركية 1950 – 1960. بدأ حياته السياسية نائبا في البرلمان العثماني عام 1919 ثم نائبا في البرلمان التركي عام 1923 ، فوزيرا للاقتصاد ثم رئيسا للوزراء في عهد أتاتورك ثم في عهد عصمت إِينُونُو، وانتهت رئاسته للجمهورية بانقلاب عسكري عام (1960م)، حاكمه الانقلابيون وحكموه بالاعدام ثم خفف الحكم الى السجن مدى الحياة، واطلق سراحه في عام (1964) لظروفه الصحية.
[8] سليمان دَمِيرَالْ (1924 – 2015م): هو سياسي تركي ورئيس تركيا التاسع من (1993م) إلى (2000م)، وقبل ذلك شغل منصب رئيس الوزراء لخمس مرات من سنة (1965م) إلى (1993م)، وكان زعيم “حزب العدالة” من سنة (1964م) إلى (1980م)، ورئيس “الحزب الديمقراطي” من (1987م) إلى (1993م).
[9] طُورْغُتْ أُوزَالْ (1927 – 1993م): سياسي تركي، هو الرئيس الثامن لتركيا حيث تولى رئاستها في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني (1989م) حتى تاريخ وفاته في السابع عشر من أبريل/نيسان (1993م)، وكان قبلها قد تولى رئاسة الوزراء بالفترة من الثالث عشر من ديسمبر/كانون الأول (1983م) إلى الحادي والثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول (1989م).
[10] “بُولَنْد أَجَوِيدْ (Bülent Ecevit)”: (1925 – 2006م) رئيس الوزراء التركي الراحل وهو توفي في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني (2006م).
[11] يشير الأستاذ إلى هذا الحدث: صرّح عضو البرلمان التركيّ “حسين شاهين (Hüseyin Şahin)” النائب عن مدينة “بورصه (Bursa)”، التابع للحزب الحاكم “العدالة والتنمية” لبعض أعضاء حزبه في “أنقرة”: “قد تقابل أصدقاؤنا مع السيد رئيس الوزراء (رجب طيب أردوغان) وجهًا لوجه، وناقشوه بعض المسائل وتصافحوا بالأيدي، وأنا أرى عن قناعة تامة أن ملامسة السيد رئيس الوزراء عبادة”. انظر:
(http://www.cnnturk.com/2011/turkiye/07/20/basbakana.dokunmak.bile.bence.ibadettir/623516.0/index.html)
[12] ماكسميليان روبسبير (1758 – 1794م): محام وزعيم سياسيّ فرنسيّ، أصبح أحد أهم الشخصيات المؤثرة في الثورة الفرنسية، والنصير الرئيسي لعهد الإرهاب، وهو من أشهر السفاحين على وجه الأرض، إذ قتل ستة آلاف شخص في ستة أسابيع فقط.
تم هذا اللقاء مع الأستاذ فتح الله كولن بتاريخ 17 يوليو/تموز 2016م