Reader Mode

س: السيد كولن، بعد محاولة الانقلاب يتعرض أنصاركم في تركيا لعملية تصفية وتطهير واسعة حيث طُرِد على سبيل المثال أكثر من ١٠٠ ألف مدرس وقاض وموظف حكومي من أشغالهم، وتم اعتقال أكثر من ٢٠ ألف شخص، إلى أين تتجه تركيا؟

ج: في الحقيقة، كل ما يتم أمام أعيننا من اعتداءات قد تم التخطيط له مسبقا. كانوا يبحثون عن ذريعة تمكنّهم من تبرير ما سيرتكبونه أمام الرأي العام العالمي، وتقنع العالم بأن ما يفعلونه هو عين العقل والصواب. كانت قوائم للتصفية ترسل من قبلُ باستمرار، قوائم أسماء تتعلق بالجهاز القضائي ثم قوائم أخرى تتعلق بالجيش، ولكن المسؤولين في تلك المؤسسات كانوا يتعاملون معها بروية وفي إطار القانون. فتصفية شاملة على هذا النحو كانت تحتاج إلى مبرر مقنع. لذلك دبروا سيناريو الانقلاب، فكان مسوّغا لكل التجاوزات التي تمت بلا اعتراض. أعتقد أن مسارعتهم إلى التصفيات فجر اليوم التالي من المحاولة يكفي لفضح نواياهم.

أما فيما يتعلق بالوجهة التي تنجرف إليها تركيا اليوم، فأعتقد أنهم أدرى بها مني، أوليسوا أفضل من يقرأ العالم؟ نظرة شاملة إلى المشهد تبرز بكل وضوح أن ما وقع كان مسرحية. في الليلة التي حدث فيها الانقلاب بدا الرئيس سعيدا حيث اعتبر محاولة الانقلاب فضلا من الله وفرصة ذهبية للقيام بما عجز عنه سابقا. هناك جهات غامضة زودت بعض الناس بالسلاح، وحرضتهم على إطلاق النار على المدنيين. هذه المشاهد الغريبة وأمثالها كأنها تجسيد لسيناريو أعد سلفا للعرض والمشاهدة. هل تركيا تسير في الاتجاه الصحيح؟ سبق لتركيا أن تخطت عقبات صعبة مماثلة، تجاوزت أزمة ٢٧ مايو، و١٢ مارس، وكنت في تلك الفواجع كلها واحدا ممن ذاقوا ويلاتها. ثم تخطت تركيا عقبة ١٢ سبتمبر، ثم ٢٨ فبراير. تجاوزنا تلك المعضلات جميعا حتى وصلنا إلى اليوم، وأنا على يقين بأننا سنتجاوز هذه المعضلة كذلك.

س: رئيس جمهورية تركيا يحمّلكم مسؤولية الانقلاب، والنيابة العامة في تركيا تطالب بالحكم عليكم بالسجن المؤبد لمدة ١٩٠٠ سنة لمرتين على التوالي. هل فعلا كان لكم دور في الانقلاب؟ وما حقيقة هذه الاتهامات؟

ج: أعيش هنا منذ ١٧ عاما. فلو كان هناك أيّ مكالمة شفوية أو هاتفية مع من قاموا بالانقلاب فليأتوا بها، ليأتوا بدليل يثبت ذلك، عندئذ سأتقبّل كل حكم ينزلونه في حقي بكل سرور. هذا من جانب. من جانب آخر سبق أن طرحتُ عليهم مقترحا بتشكيل لجنة تحقيق دولية تتحرى حيثيات ما وقع، فإذا أثبتت هذه اللجنة صحة ادعاءاتهم فسوف أرحب بكل ما يقولون. لكنهم لم يقدموا أي وثيقة ملموسة تستحق النظر، ولم يستجيبوا لاقتراحي كذلك. لذلك ظَلّتْ أقوالهم في عداد المزاعم والادعاءات. الملفات والتقارير التي أرسلوها إلى هنا لم يكن فيها ما يمكن حمله على محمل الجد. وزارة الخارجية الأمريكية تسلّمتها وأحالتها إلى القضاء. المؤسسة القضائية تدرس هذه الملفات، وستصدر قرارها بناء على تحريّاتها. أعتقد أن أمريكا دولة قانون، كما هو الحال عندكم في ألمانيا. سبق أن أدليت بإفادتي بمناسبة أحداث ٢٨ فبراير 1997 أمام النائب العام بنيو جيرسي هنا، كان الانقلابيون قد رفعوا دعوى ضدي في تركيا وقتها، فانتهت تلك القضية ببراءتي براءة تامة من كل التهم، وصادقت المحكمة العليا على القرار.

س: هل تقلقون من ضغط أردوغان هنا في أمريكا؟ هل تقلقون من أن يترصدوكم هنا كما هو الحال مع محبيكم في أماكن مختلفة؟ هل تخافون منهم أو من تهديدهم؟

ج: شخصيا عاصرتُ أربعة انقلابات عسكرية حتى اليوم، ذقت خلالها أشد المعاناة. لم يقدّر الله لي الموت فيها، بل هزمتُ الخوف في داخلي، وألقيت به تحت أقدامي بإذن الله. عمري ٧٧ سنة، وأتحرق شوقا إلى لقاء الله في كل لحظة، وأعتبر لحظة اللقاء به عرس وصال. الوضع الحالي يحرك في قلبي مشاعر شتى. سبق أن ألغوا الحكم بالإعدام في تركيا، فلو ألغوا ذلك الإلغاء وقرروا إعدامي، فسيفرحني أن أبصق في تلك الوجوه التي فقدت حس الحياء، ثم أرحل إلى الله.

س: إشارة إلى ما ذكرتم قبل قليل، هل يمكن أن تعودوا إلى تركيا؟ وفي أي ظرف يمكن أن يتحقق ذلك؟

ج: أهل هذه الديار فتحوا لي صدرهم منذ ١٧ سنة. وسبق أن وجّه السيد جيرينوسكي في روسيا إليّ دعوة قبل سنين مؤكدا أن الإقامة هناك آمنة. وفي مصر تعاطف مع العبد الفقير بعض الفضلاء مرحبين بي. كما كان هناك دعوات من الأرجنتين وأماكن أخرى. لكن هنا رحبوا بنا منذ البداية، ولم يعترضوا على إقامتنا في هذا المكان، وثقوا بأننا مسالمون، لذا لا أرى من اللياقة إزاء هذا الجميل أن أترك هذا البلد وأغادره ما لم يكن هناك أسباب قاهرة.

س: تركيا الآن طالبت بإعادتكم لها رسميا، والسفير الأمريكي الأسبق لدى تركيا جيمس جيفري يدعم هذا الطلب، في حال تخلّت الولايات المتحدة عن دعمكم، ما الذي ستفعلونه؟

ج: إن استجابت أمريكا لطلب تركيا، أذهب، ولا أبالي بذلك. لم يتبق من عمري سوى بضعة أيام، سأقضيها تحت ظلم هؤلاء، وتكون تلك المظالم كفارة لذنوبي، فألقى الله نقيا خاليا من الذنوب. لكنني سأحزن لشيء واحد فقط إن حصل هذا، وهو أنهم سيكونون قد دمروا دنياهم وآخرتهم، أما أنا فسائر إلى الله.

س: كنتم حلفاء لأردوغان مدة طويلة، بل كان بينكم “توأمة” في الرؤية إن صح التعبير، تحالفتم فيما بينكم وكافحتم ضد الجيش العلماني جنبا إلى جنب. ما الذي أدى إلى هذه القطيعة؟ وما سبب هذه الكراهية؟ فأنتم تشبّهون حكم أردوغان الآن بحكم هيتلر؟ كيف آلت الأمور إلى هذا الوضع؟

ج: بداية لا يمكن القول بأنني كنت على صلة وثيقة به إلى الحد الذي أشرتم إليه. أعتقد أنني التقيت به ذات مرة عندما كان رئيسا لبلدية إسطنبول، جاء لزيارتي، وأنا ذهبت لزيارته، فهل أكرمني بشاي أو لا، لا أتذكر الآن. لقاؤنا الثاني كان عندما أراد أن يؤسس الحزب. وقتها كنت أقيم في حجرة في الدور الأخير من مدارس “فيم” التي أغلقوها وصادروا ممتلكاتها مؤخرا. كنت أقيم في غرفة تشبه الغرفة التي رأيتموها هنا. قال لي أريد أن أؤسس حزبا وأنشق عن نجم الدين أربكان، وسألني عن رأيي. شخصيا إذا جاءني أحد أيّ أحد يطلب مني مشورة فلا يسعني أن أرفضه حتى لو كان ممن يعاديني أشد العداء. عبّرت له عن وجهة نظري، وقلت إن كنتم مصممين على الانشقاق، فمن اللياقة أن تفعلوا ذلك دون أن تسيئوا إلى السيد نجم الدين أربكان، ثم ها أنتم ترون الانقلابات العسكرية تتعاقب الواحد تلو الآخر في تركيا، فمن الأفضل أن تحسّنوا العلاقة مع المؤسسة العسكرية.

كذلك قلت قبل عشرين سنة “لا رجعة عن النظام الديمقراطي، ولا رجعة عن النظام الجمهوري”. إعلامهم الذي يهاجمنا اليوم بشراسة ودون توقف نشر أخبارا ومقالات عديدة تنتقد تصريحاتي تلك. نعم هذا ما قلته، وقد عبرت عن أفكاري من صميم قلبي. ثم التقينا في مناسبة أخرى عندما نظمنا مباراة كرة قدم لمساندة ضحايا حرب البوسنة حضرها بعض نجوم كرة القدم في العالم، كان وقتها رئيسا للبلدية وكانت السيدة تانسو تشيللر رئيسة الوزراء، وحضرت هي كذلك، جلسنا في الصف نفسه، وجلس هو إلى جانبي، لا أذكر أننا تحدثنا عن شيء، لكننا التقينا في لقطة واحدة. هذا هو كل ما تم بيننا من لقاءات.

لكن اسمحوا لي أن أنقل لكم شيئا آخر، عندما جاءني ليستشيرني في موضوع تأسيس الحزب، قال للسيد المرافق له في المصعد وهو يغادر المكان “ينبغي القضاء على هؤلاء أولا”، ما يعبر عن عدم استساغته لأي فكر يخالف فكره أو أي رؤية بديلة تنحو منحى آخر في التفكير. إذن مسألة “التوأمة” التي ذكرتموها ليست دقيقة. وربما يستحسن أن أنبه إلى أمر آخر، وهو أنني في استفتاء ٢٠١٠ الذي كان ينص على تغيير نظام اختيار الأعضاء في المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العموم، شجعت الناس على أن يصوتوا لصالح التغيير، لأن ذلك كان يعني مزيدا من الحريات والديمقراطية. بعد الاستفتاء قال في كلمته “أتوجه بالشكر إلى بنسيلفانيا” دون أن يصرح باسمي، فأصبح اسمي بعد ذلك بنسيلفانيا. لا أذكر أنه صرح باسمي قط. ومن ثم إن كنتم تريدون معرفة ما إذا كان هناك توأمة حقيقية بيننا أو لا، فينبغي النظر إلى ما ذكرته جملة وبصورة كلية. كان دعمنا أولا وأخيرا بناء على وعوده المتعلقة بمزيد من الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

وهي الأسباب التي دفعتنا سابقا إلى تشجيع الناس على دعم المرحوم سليمان دميريل، ومن بعده المرحوم توغوط أوزال، وبعض سياسات بولند أجاويد الديمقراطية. عصمت باشا الذي سبق كل هؤلاء لا أعرفه، كنت صغيرا وربما فتى يافعا في عهده. لكن ما زلت أحث الناس على دعم الاتجاهات الديمقراطية منذ أن وعيت نفسي. الحاصل أن الرجل ورفاقه وعدونا بتعزيز الحريات الديمقراطية، فأحسنّا الظن بهم، وصدّقناهم، فهُزمنا أمام حسن ظننا. لم أجد فرصة للتصويت في حياتي أبدا، لم أصوّت شخصيا لأحد قط، ولم أصوّت لهم كذلك. لكن في استفتاء ٢٠١٠ عبّرتُ علنًا عن ضرورة التصويت لهم لصالح توسيع الحريات الديمقراطية في البلد. هذا كل ما في الأمر. فإن كنتم تسمون تصرفا كهذا تحالفا فليكن كما تقولون.

س: رئيس الجمهورية أغلق مدارسكم وجفف مواردكم المالية واعتقل أتباعكم، فما هو الوضع حاليا في حركة الخدمة؟ ما وضع الأتباع؟ هل يقل عددهم؟ هل الحركة معرَّضة للتّفتت؟

ج: نحن لم ننطلق في هذا الطريق إلا لإيماننا بأن ما نفعله صحيح ومفيد للإنسانية، وكذلك موافق لمرضاة الله تعالى. حظي في هذا العمل هو أني شجّعتُ الناس على مثل هذه المشاريع في دروسي بالمساجد ومحاضراتي في منابر ثقافية مختلفة. لقد شجعت الناس فحسب. أحسست بخطورة الأسلحة الفتاكة التي يخترعها الإنسان ليقضي على أخيه الإنسان، أفزعتني عواقب النزاعات المنتشرة بين أبناء الأسرة البشرية. النزاع والفرقة من الأمراض الشائعة اليوم، الجهل كذلك من الأمراض الفتاكة في عصرنا، والفقر مرض قاتل أيضا. رأيت – وأعتقد أنكم تشاطرونني الرأي – أن الدواء الوحيد لكافة هذه الأمراض المزمنة هو التربية والتعليم، أي أن تبدأ الحلّ من القاع، أي من النشء ثم الشباب ثم تصعد بهم إلى فوق. لذلك شجعت على بناء مشاريع تربوية جيدة وقوية.

صدقوني لا أعرف واحدا في المائة، بل واحدا في الألف من هؤلاء الناشطين الذين يُسهِمون في تلك المشاريع. هؤلاء، لأنهم فقط آمنوا بنافعية ومعقولية الفكرة التي طرحتها عليهم، انطلقوا في ١٧٠ بلدا يقيمون مؤسسات التآخي تلك من مدارس وجامعات ومراكز ثقافية إلخ. تواصلوا مع المسؤولين في كل بلد نزلوا فيه، ونسقوا معهم، وعملوا معهم جنبا إلى جنب. تعانقوا مع ألوان شتى من البشر أسوده وأبيضه بصدق وحرارة. والنتيجة أن الناس في تلك البلدان وجدوا هذا العمل رائعا ومفيدا لهم فازدادوا تعلقا به ودعما له. نحن مصممون على أن نواصل في هذه الجهود إلى الحد الذي يأذن الله لنا به، وما سوى ذلك خارج عن حدود طاقتنا. نحن نحتسب عند الله مكافأة نوايانا الكبيرة، وليس لنا هم سوى نيل مرضاته سبحانه. نريد للناس أن يتعانقوا، ويتبادلوا الاحترام والمحبة فيما بينهم، ويقضوا على كارثة الجهل ومرض الفقر.

لقد عانت أوروبا من التقلبات الاجتماعية المريرة في فترة من الفترات، وكانت تلك سنوات مأساوية اقتتل فيها أنصار الرأسمالية مع أنصار الشيوعية، وكانت الفاتورة باهظة الثمن. ولا ننسى ما للجهل من خطورة على المجتمعات، فينبغي التصدي لمشكلة الجهل فورا. ثم حالة التمزق والتشرذم المتجذرة في كيان المجتمعات، للأسف القيادة الحالية في تركيا مزقت النسيج الاجتماعي، فبات التصدي لحالة الانقسامات تلك ضرورة ملحة. أجل، هذه هي المساحات التي نعمل فيها. وسنستمر في بذل الغالي والنفيس في هذا المضمار إلى المدى الذي يسمح الله لنا به. نحن نؤمن بأننا نقوم بمهمة، وعندما نقوم بهذه المهمة نشعر بأننا سنسأل عنها أمام الله. إننا نقوم بما نقوم به احتراما لمكانة الإنسان في هذه الأرض. لذلك سنظل أوفياء لتلك المهمة ما سمحت الظروف بذلك. من ناحية أخرى، أنا شخصيا لم أستسلم لليأس قط. تعرّضنا لانقلابات عسكرية متعددة، وتلقينا ضربات موجِعة في كل مرة، ضغطوا علينا، لاحقونا، مارسوا أصنافا شتى من المضايقات على المدارس، لكن الله لم يمنحهم فرصة للإيذاء حينئذ. أما قيادات اليوم في تركيا، فقد أغلقوا أبواب القضاء والحقوق بالكامل، واعتقلوا المحامين وحرموهم من حق الدفاع عن المظلومين، وشرّدوا آلاف الناس شرقا وغربا، وأسكتوا وسائل الإعلام المعارضة كافة، فلم يبق في الساحة إلا صوت واحد هو صوتهم. يبدو وكأنهم قد أحكموا قبضتهم على كل شيء.

لكن لا يمكن للأوضاع أن تستمر على هذا النحو. ألمانيا أكثر من يدرك ذلك، لأنها عاشت ظروفا مماثلة في وقت مضى، وروسيا مرت بالأوضاع نفسها، وبعض دول الشرق الأوسط عاشت نفس المآسي من القمع والظلم. يستحيل أن يستمر هؤلاء في الحكم بهذه العقلية. المثل التركي يقول “من طلب السعادة ظلما، كانت نهايته شقاء”. إن كان الظالم يمتلك سلطة يفتك بها، فالمظلوم له الله، قد يكون الفتك بالناس اليوم سهلا، لكن في الغد هناك الحساب في المحكمة الكبرى أمام الله.

س: هل تقصدون أن حالة حركة كولن لم تتضرر إلى هذا الحد؟ أي ليس هناك خطر من أن تتفتت، وليس هناك تراجع في عدد المنتمين إليها؟ ووضعها المالي ليس متدهورا؟

ج: اقتناع الناس بما ينجزونه ومحبتهم له عامل مهم للمثابرة. لا يمكن الوقوف أمام قدرة الله، لا يمكن انتزاع المحبة من القلوب، كما لا يمكن منع فضل الله وكرمه. لقد سعوا إلى التخريب في ١٧٠ دولة، لكنهم لم يؤثروا في أي مكان، ما عدا الصومال. هناك مدارس ومراكز ثقافية في ١٧٠ بلدا، بذلوا أموالا كثيرة لإغلاقها، لكنهم باؤوا بالفشل، بل فُتحت مدارس جديدة، هذا العام سمحوا هنا لفتح ١٤ “مدرسة تشارتر” جديدة. هؤلاء الناس تابعوا السّمتَ العام لهذه الحركة منذ عشرين سنة، جسوا نبضها، أنصتوا إلى دقات قلبها، فوجدوا أن كل شيء سليم. لو أنهم رأوا خللا واحدا لما توانوا عن اتخاذ كافة التدابير اللازمة. لقد توزعوا في كل بلدان العالم ليشوّشوا الأذهان حول مؤسسات الخدمة، لكنهم فشلوا. ومن ثم لا أرى أي سبب يدعو إلى اليأس. يقول شاعرنا الوطني محمد عاكف:

حذار من مستنقع اليأس، وإلا ستغرق،

عليك بالعزيمة لترى كيف تتعملق،

بالأمل تَغذّى كلُّ من سار في درب الحياة..

وكبّل روحَه من في اليأس وقع…

س: بودّي أن أتحدث عن حركة الخدمة بعض الشيء. الحركة تَنعَت نفسها بأنها حركة تربوية مسالمة، وتبدو أنها تهدف إلى إنشاء مجموعة من النخب المسلمة. لكن الذين ينتقدونها يتهمونها بالتسرب في ثنايا المجتمع، والتسلل إلى منظومة القضاء، وكدليل يشيرون إلى تسجيل فيديو لكم يعود إلى عام ١٩٩٩. في ذلك التسجيل تحرّضون أتباعكم على اختراق المجتمع والسيطرة على الحكم في يوم من الأيام. هل أنتم ذئب في ثوب حَمَل فعلا؟

ج: في الحقيقة هذه ادعاءات ما فتئ المتطرفون من القوميين في الجيش يرددونها منذ القديم في حق المتدينين بتركيا. لكن تسعين بالمائة من الشعب التركي يعارضهم في توجههم هذا. هذه المشاريع الإنسانية العظيمة التي تمت في أرجاء العالم على أيدي أبناء الخدمة، من الذي أنجزها يا ترى؟ أليس الشعب التركي؟ بالتأكيد أبناء الأناضول هم من ينجزون هذه الأعمال؟ ومن ثم فعدد محدود من المتطرفين القوميين العلمانيين هم من يفكرون على هذا النحو. لا أقول إزاء هذه الهزليات سوى شيء واحدـ؛ منذ متى أصبح التحاق أبناء الشعب في جهاز دولتهم اختراقا أو تسربا؟ إنه لا يسمى الفعل تسللا إلا إذا كان المتسلل أجنبيا للوطن أو للشعب. على سبيل المثال رجل من قوم “السلاف” تسلل إلى تركيا بأمر من القيصر خفية، وتسرب في مؤسسات الدولة العثمانية باسم آخر أو هوية أخرى، أو تسلل خفية إلى بنية الجمهورية التركية، هذا ما يمكن أن يطلق عليه “اختراق” بالفعل.

أما إذا التحق ابن الشعب في بلده بمؤسسات دولته، مثلا ألماني التحق في بلده بالمؤسسة العسكرية، أو أصبح ضابطا في جهاز الشرطة، أو قاضيا في المنظومة القضائية أو في المؤسسات الإدارية، فهذا لا يسمى تسللا، لأن هذه دولته، وهو ليس دخيلا عليها. من هذا المنظور ربما شجعت أبناء البلد على أن يلتحقوا بمؤسسات مختلفة في دولتهم، وقد ذكرت وجهة نظري هذه سابقا للقادة العسكريين كذلك. لكن هؤلاء السابقين، ومن في سدة الحكم اليوم، عندهم خطة أخرى وهمّ آخر، همّهم الوحيد أن يستولوا على كل شيء، أن يكون كلُّ شيء تحت وصايتهم وفي حوزتهم. وأعتقد أن أحد أسباب عداء القيادة الحالية لحركة الخدمة هو أن المدارس التي تعمل في ١٧٠ بلدا لم تنشط من أجل التمهيد له ليصبح أميرا للمؤمنين في العالم الإسلامي. لو أنها تحركت في ذلك الاتجاه لما مسها بأي سوء. كان هذا همه الأوحد، لم يستطع توظيفها من أجل هذا الغرض، فقال عنها ما لم تخضع لوصايتي فلا قيمة لها، حتى لو كانت تقدم خدمات في ١٧٠ دولة، بل حتى في ٣٤٠ دولة.. ما لم تخدم هذه المؤسسات الأيدولوجية “الطيبيزم” “الأردوغانيزم” فلتذهب إلى الجحيم.. سحقا لها حتى لو كانت تهدي الناس إلى جنات الفردوس. هذه هي طريقة التفكير للأسف. ولأنه تم إسكات جميع الأصوات المعارضة، فلا تسمع الجماهيرُ في تركيا صوتا سوى صوته، فيؤدي هذا إلى انخداعها بما يقول. أعتقد أن الذين عاشوا في ألمانيا في الأربعينيات يفهمونني جيدا، لأنهم ذاقوا مرارة هذا النوع من الممارسات القمعية آنذاك.

س: هل يا ترى أصبحت الحركة قوية جدا، فلجأ أردوغان إلى هذا السبيل، ربما يتذرع بالانقلاب للقضاء عليكم، هل فعلا أصبحتم أقوياء جدا؟

ج: الحقيقة أننا أمام نوع من الهيستيريا التي يعرفها أطباء النفس جيدا. هذه التصرفات الهستيرية تُلاحَظ عادة عند الأفراد المصابين بنوع من جنون العظمة. هذا ما نشاهده بالضبط. لديهم توجس من كل تحرك ومن كل حس. تصور أنهم ينظمون قوافل من البرلمانيين، ويرسلونهم إلى كل بلدان العالم ليقنعوا المسؤولين هناك بمهزلة أن الخدمة منظمة إرهابية، ويبذلون في ذلك أموالا لا حد لها، يفعلون ما لا يخطر بالبال. سألتم قبل قليل ما إذا كنت أقلق أو أخاف من تهديداتهم، أبدا، لا أحمل ذرة من خوف، أنا لا أخاف إلا الله، لا أخاف إلا من أن أسيء الأدب مع أمتي ومع الإنسانية. ربما هو من ينبغي أن يخاف. لأنه كان يقيم في سكنات عشوائية في بداياته، فأصبح فيما بعد يسكن الفلل والقصور ويمتلك سفنا وعبارات، يمتلك مليارات الدولارات التي نقلها إلى مواقع مختلفة من العالم. عندما تم الكشفُ عن هذه الأموال المشبوهة في ١٧ و ٢٥ ديسمبر، -وهو يُعِدّ نفسه لإمارة المؤمنين ويظهر نفسه على أنه مسلم مثالي – اتّهَمَنا بأننا نحن من أفسد خطته، فازداد حقده علينا، وتفاقم حنقه ضدنا. وفي الأخير اختلق سيناريو الانقلاب هذا لكي يزج الناس في السجون دون مساءلة. أجل، ما نراه اليوم إفرازات للحالة الهيستيرية التي يعيشها. أعتقد أنه يرتعد خوفا، وحسبما ينقل المقربون منه فإنه يركل الجدران، ويشبعها لكما، ويعاني من آلام شديدة، يقول تعالى “إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون”، صحيح أنه يذيقكم ألوانا من العذاب والمرارة، لكنه لا يقل عنكم معاناة وتألما.

س: أريد أن أعود مجددا إلى الانتقادات الموجهة إلى شخصكم. تبدون لمن ينظر إليكم من الخارج مدافعين عن الإسلام الروحي بصبغته الليبرالية، في حين أن منظمة “بادن وورتمبرغ” لحماية الدستور صنفت حركتكم بأنها حركة قومية تركية ذات أبعاد إسلامية. كما أن هناك ادعاءات بأنكم تقولون بقتل المرتد. وهذا بالتأكيد يتناقض مع الاتجاه الروحي الذي ذكرته آنفا. إلى أيّ فهم من فهوم الإسلامي تنتمي حركتكم وما هي أهدافها؟

ج: لا أذكر أنني قلت شيئا من هذا القبيل. ربما هي عبارة تم اجتزاؤها من سياق معين، قُصّت العبارات التي سبقتها أو لحقت بها، ففقدت مغزاها العام. أعتقد أنها –إن وجدت- فهي من هذا القبيل، لأنهم يلجؤون إلى هذا النوع من التلفيق كثيرا. اليوم الإعلام الموالي لأردوغان يفعل الشيء نفسه. على سبيل المثال أقول في كلمة لي “ستعصف الرياح ببعضهم عصفا وتنثرهم كأوراق الشجر”، فيؤوّلون ذلك بأنه سأصنع سمادا، وأصنع منه قنبلة ذرية، وأقتل الناس. حتى العباءة التي ألبسها أخرجوا منها معاني عجيبة، يقولون انظروا لبس عباءة بلون الزي العسكري، إذن هي تعليمات للقيام بانقلاب عسكري، بينما لا أختار عباءة بعينها لدى خروجي إلى الدروس، بل ألبس العباءة التي أجدها في متناول اليد. انظروا إلى الحدّ الذي بلغ إليه التضليل. الحقيقة أن مؤلفات العبد الضعيف ترجمت إلى لغات عالمية عديدة، ويُدرَّس بعضها في بعض الجامعات والمراكز العلمية، مثل النور الخالد وطرق الإرشاد. زارني البارحة أستاذ من الهند، قال إنه كان ماركسيا ملحدا، فعثر على كتاب النور الخالد فقرأه فأسلم.

عشرات الآلاف من الناس يشاركون في مسابقات يتم ترتيبُها في مناطق مختلفة من العالم حول هذه المؤلفات. فلو كانت تحتوي على أفكار تشوش الأذهان، وتضلّ العقول لعثروا عليها ورددوها، ولبادروا بإعلامهم لفضحها دون تردد. صدر للعبد الضعيف حوالي ٧٠ كتابا طيلة ٥٠ عاما. فليأخذوا تلك المؤلفات جميعا وليطالعوها بنظرة كلية ثم ليقيّموها. أدعوهم إلى القراءة الشاملة وليس القراءة الانتقائية. وإلّا يصدق عليهم ما قاله نابليون “لو أردتُ أن أعدم شخصا فحسبكم أن تعطوني جملة مفيدة أنشأها، فلن تعوزني الحيلة في التقاط كلمة في جملته للحكم عليه بالإعدام”.

س: في ألمانيا ما يزيد على ٣٠٠ مؤسسة لحركة كولن ما بين مدرسة وجمعية. يشبّهكم بعض المنشقين عن حركتكم بالكيانات الطُّرُقية من أمثال “سايتولوجي” التي تمارس نوعا من غسيل الدماغ. يقولون إنكم تفرضون على أنفسكم نوعا من التزمت القاسي بناء على مبادئكم الإسلامية فيما يسمى ببيوت النور التي تعتبر خليطا ما بين المعهد القرآني وإقامات الطلبة. هل هذه الادعاءات صحيحة؟

ج: ليس هناك غسيل دماغ ولا شيء آخر. لا إكراه في الإسلام، كل إنسان حر في معتقده. سبق أن قلتُ في يوم من الأيام “الحجاب فرع من فروع الإسلام”، أي ليس من الأصول، فليس بكافر من لم يرتدِ الحجاب. هذا الرجل الذي يحتلّ قمة الدولة اليوم أخذ هذه العبارة وظل يلوكها في المظاهرات الانتخابية ضدي. أعتقد أن احترام أفكار الناس وقناعاتهم من أساسيات الأدب والأخلاق. ثم اسمحوا لي أن أبين أمرا في غاية الأهمية. عندما يثني البعض على مشاريع الخدمة يقولون “كولن” وينسبونها إلى العبد الضعيف، بينما لا دخل لكولن بهذه الإنجازات أبدا. لم أفعل شيئا أصلا، فقط شجّعتُ الناس في دروسي عبر كراسي الوعظ والمحاضرات التي ألقيتها، وكنت أتقاسم أفكاري من خلال المجلات التي كنت أكتب فيها. كنت أكتب ما أراه نافعا، أحث الناس على العلم، أحثهم على الأخوة والتوافق. كنت أقول لا سبيل إلى تحقيق التوافق بين أفراد المجتمع، ولا سبيل إلى القضاء على الفقر إلا بالعلم والمعرفة. العلم هو السبيل الوحيد لحل جميع مشاكلنا. فجاء البعض فتبنى هذه الأفكار، ثم نزّلها إلى أرض الواقع، وحوّلها إلى مشاريع عملية.

لذلك لا يوجد شيء اسمه “الكولنية” أو “فتح اللهوية”. هذا ليس صحيحا. لا يصح نسبة مشاريع حققها آلاف من الناس إلى شخص بعينه، بل أنا أعد نسبة هذه الإنجازات إلى شخص واحد شركا بالله. أنا لست معجبا بنفسي، ولست معجبا بالمعجبين بي، كما يقول بديع الزمان. لو جاءني أحد وقال لي أنت أنجزت كذا، ونجحت في كذا، فإن ذلك أشقُّ عليّ من الشتم. لا سهم لي في كل هذه الإنجازات والمشاريع الناجحة. إنما هي جهود مخلصة لأناس لمسوا في الأفكار التي طرحتُها جانبا من المعقولية والنافعية فانطلقوا إلى تنفيذها. فالفضل يعود إليهم أولا وآخرا، وهو فضل من الله ومنة. أما أنا فلم أفعل شيئا أصلا. فلا علاقة للمؤسسات الموجودة في ألمانيا بي، ولا للمؤسسات في إنكلترا ولا للمؤسسات في أمريكا. ثم إني لا أعرف واحدا في الألف من القائمين على تلك المؤسسات أو العاملين فيها.

س: أطلعتمونا على الغرفة الخاصة التي تعيشون فيها، نشكركم على ذلك، نحن ممتنون لكم. تعيشون في ظروف متواضعة جدا، وفي الوقت نفسه معروف عنكم أنكم تديرون إمبراطورية تقدَّر بالمليارات من الأموال. عندكم مستشفيات ووسائل إعلام ومصارف بنكية، في حين لا يوجد أي عنوان لحركتكم، لا أثر لاسم كولن في أي مكان، لا يوجد حتى صندوق بريد، لا عضوية رسمية، لا نظام داخلي. لماذا لا تعلنون عن بياناتكم المالية؟

ج: فيما يتعلق بالجانب المالي، فنحن في منتهى الشفافية، لو جاء أحد المسؤولين الأمريكيين، فبإمكانه أن يفتش في كل مكان وفي أي وقت شاء. يمكنكم أن تفتشوا المكان الذي أعيش فيه، غرفتي، سريري، بإمكانكم أن تنظروا في ثنايا كتبي ودفاتري ومقالاتي التي كتبتها في بعض المجلات. وبالتأكيد ستخرجون من هنا راضين مطمئنين. لن تجدوا سوى شفافية مطلقة. لا شك أن كل بلد يمتلك جهازا للمراقبة المالية، كما أن هناك مسؤولين في المجال القضائي ومسؤولين في المجال الأمني، بإمكانهم أن يذهبوا إلى مؤسسات الخدمة حيثما كانت، ويفتشوا فيها حتى أدق التفاصيل، فإن عثروا فيها على أي خلل أو ثغرة فليغلقوها بدون تردد. لن أحزن أبدا ولن أحتجّ بكلمة واحدة. كانت نصيحتي لجميع من وثقت بهم، ووثقت بصدقهم وإخلاصهم ونزاهتهم “كونوا شفافين دوما، احرصوا على الاندماج مع البلد الذي تعيشون فيه أيا كان ذلك البلد، حذار أن تقصّروا في ذلك، اعتبروا أنفسكم منهم، فكروا بمصالح ذلك البلد دائما، واعملوا على خدمة أهله”. هذه توصياتي التي أرددها دائما. ولا أظن أنني مخطئ في ذلك. رغم كل هذا، إن جاء أحدهم ينقّب عن هفوات أو فلتات، فاسمحوا لي أن أقول إنه فاسد العقل والقلب ويحمل نوايا مغرضة.

س: السيد كولن، لديكم ملايين الأنصار في العالم، هل لديكم رغبة في العودة إلى تركيا، وفي أي ظروف يمكن أن تعودوا إلى تركيا؟

ج: تركيا وطني. نسمّي الشوق إلى الوطن بـ”ألم الوصال” باللغة التركية. أعتقد أنكم تعرفون معنى عشق الوطن. عندما تخطر تركيا ببالي تختنق العبرات وأشعر بألم في جيوبي الأنفية. قدمتُ إلى هنا أصلا حتى لا أكون سببا في بعض المنغّصات في بلدي، ثم قررت البقاء هنا عندما لم أجد مانعا يحول دون ذلك. سأجيب بكلمة واحدة، سأعود عندما يزول الطغيان.

س: السيد كولن، عندما ننظر من زاوية مصير تركيا، من هو المهم؟ فتح الله كولن أم رجب طيب أردوغان؟

ج: شخصيا لا يمكنني أن أقول عن نفسي إنني مهم. أعتقد أنني لا أصلح لأي شيء. ربما أدليتُ ببعض الأفكار وقمتُ ببعض التوصيات، فتبنّاها البعض وحوّلها إلى مشاريع عملية، فجاء البعضُ فنسبها إليّ، وسجلها في خانتي وذكرني بين الكبار، فارتكب بذلك خطأ اجتهاديا، أسأل الله تعالى أن يعفو عمن ذهب هذا المذهب في التفكير، فهذا خطأ لا يمكن أن أقبله لنفسي. بالنسبة لطيب أردوغان، الحقيقة أن من سبقه من القادة قد عبروا بتركيا إلى مرحلة معينة في مجال احترام القيم الإنسانية العالمية والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والقيم الديمقراطية وقيم أخرى. لكن أردوغان مؤخرا قضى على كل تلك الإنجازات، وحوّل تركيا إلى دوامة من المشاكل، عزل تركيا عن الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وأقصاها عن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والمجتمع الدولي. لذلك أعتقد أنه صار عبئا على تركيا الآن. ليس أمامنا سوى إحالة أمره إلى الله تعالى. وكما قال الدكتور محمد إقبال “لم أقل آمين على أي تلعين”، وأكتفي بإحالته إلى الله من أجل تركيا.

س: هل لديكم رسالة توجهونها إلى الرئيس أردوغان؟

ج: ليس لديّ أي رسالة. أسأل الله أن يهديه سواء السبيل وينجيه من الطريق الخطأ الذي يسير فيه.

تم بث هذا الحوار بتاريخ ٢٣ سبتمبر ٢٠١٦.

فهرس الكتاب