س:متى علمتم بمحاولة الانقلاب لأول مرة؟ وكيف كانت ردة فعلكم الأولى؟
ج: علمت بالانقلاب من وسائل الإعلام. الإخوة أطلعوني على ذلك. وكانت ردة فعلي الأولى -كواحد ممن شهدوا جميع الانقلابات العسكرية في تركيا ورأى الأضرار التي تؤدي إليها الانقلابات بأم عينه- أن دعوت الله تعالى أن يحفظ بلدي من شر هذه المصيبة. موقفي من الديمقراطية معروف للجميع. لقد أكدت في منتصف التسعينات على أنه لا تراجع أبدا عن المسار الديمقراطي بعد اليوم، وتحملت في سبيل قناعتي تلك ردود الأفعال التي صدرت من بعض الفئات التي تَعدُّ الديمقراطية نظيرة اللادينية آنذاك. بالتأكيد عندما علمت بالانقلاب ساورتني الهواجس واعتراني القلق من أجل بلدي، فأنا شخصيا أعرف ماذا تعني الانقلابات، فقد كنت أحد المتضررين منها مرارا بشكل مباشر، وأدرك الثمن الباهظ الذي تُكبِّده الانقلاباتُ للشعوب. لذلك سارعت إلى استنكاره وإدانته بأشد العبارات قبل أن يُعلَن عن فشله وأعربت عن رفضي له كليًّا.
س: هل كنتم تتوقعون حدوث محاولة انقلابية في الأيام التي سبقت ١٥ يوليو؟
ج: كان يتردد في مواضع كثيرة حديث حول استعدادات في الجيش للقيام بانقلاب. حتى قيل إن الصحفيين في كواليس أنقرة كانوا يتهامسون فيما بينهم حول هذا الموضوع. وكان يتردد أيضًا أن رئيس الأركان “خلوصي أكار” يسعى لانقلاب منذ زمن بعيد، وأنه قام بتحضيرات جدية في هذا المضمار. لذلك قد تكون هذه الأقاويل التي ترددت هي ما دفعت بعض الضباط للمشاركة في هذه المحاولة الانقلابية ظنًّا منها أن قيادة الأركان العليا هي من تتولاه. بطبيعة الحال لا يعلم حقيقة الأمر إلا الله. لكن لم يخطر ببالي قَطُّ أن يحاك انقلاب دموي كهذا بهدف القضاء على حركة الخدمة بالأخصِّ.
س: في أحد الحوارات التي أجريت معكم عقب ١٥ يوليو شبهتم محاولة الانقلاب بفيلم هوليوديّ. ما المعطيات التي شكلت عندكم هذه القناعة؟ من كتب ذلك السيناريو برأيكم؟ من يوجد خلف ١٥ يوليو؟
ج: لقد شهدت شخصيًّا ثلاثة انقلابات عسكرية حتى اليوم. كما تحدثت وسائل الإعلام -أثناء قضايا أرجينكون والمطرقة[1]– عن محاولات انقلابية كانت بعض البؤر داخل الجيش تخطط لها. لكن الأخير لم يكن يشبه أي واحد من الانقلابات التي وقعت بالفعل أو المحاولات التي تم الترتيب لها من قبل، لقد كانت مسرحية أعدت لأغراض سوداء ونوايا خائنة يمكن أن يفهمها حتى الأطفال. لقد قيل الشيء الكثير عن تلك المسرحية وكُتب عنها الشيء الكثير. والحقيقة أنها تستحق أن يُعدّ حولها دراسات وبحوث معمقة. إذا أردنا أن نتحدث عن التفاصيل فلعل ذلك يستغرق منا وقتا طويلا، لأن الحدث كله مشوب بأمور غريبة شتى؛ على سبيل المثال الساعة التي انطلق فيها الانقلاب، أي أن يخرج عدد محدود من الجنود ويستولوا على طرف من الجسر المعلق في إسطنبول مساء في ساعة الذروة حيث جميع الناس في الخارج، إلى أشياء أخرى غريبة يمكن أن نذكرها. ذَكَر بعض الجنرالات فيما بعد أن ما تم هو انقلاب تم التخطيط له ليكون فاشلا. بل إن نائب الرئيس الأمريكي وقتها “جون بايدن” الذي زار تركيا في تلك الأثناء، شبَّه المحاولة بلعبة من ألعاب الكومبيوتر. ولكن عندما أصف ما وقع بالمسرحية أو السيناريو ليس غرضي أن أقلل من شأن ما حدث. لا شك أن آثار هذه الكارثة كانت أشد ضررًا وفداحة من جميع الانقلابات التي وقعت في تركيا من قبل، وما زلنا نعاني من آثارها حتى اللحظة. لقد استشهد ٢٤٩ مواطنا من أبناء شعبنا في هذا الحدث المشؤوم. وأُودع حوالي ٥٠ ألف مواطن بريء في السجون. ولا يمرّ يوم دون أن نسمع عن أبرياء جدد يتعرضون لمظالم جديدة وتجاوزات مؤلمة. لقد أُغلقت مئات المدارس وعشرات الجامعات، وصودرت آلاف من الشركات الخاصة، وانفصمت تركيا عن المسار الديمقراطي كليًّا، رغم أنها كانت تتقدم في ذلك المسار نحو الأفضل ولو ببطء. حصلت شروخ بين شرائح المجتمع، ونثرت بذور للعداوة والنزاع بين الناس يصعب تلافيها. لقد اتضحت نيتهم، وهي تأسيس نظام ديكتاتوري فاشي تحت غطاء نظام رئاسي جديد.
كان أردوغان يريد أن يبيد حركة الخدمة منذ زمن طويل، لكنه فشل في أن يحقق هدفه هذا عبر الطرق القانونية رغم جميع ألوان اللف والدواران على القانون وكافة المراوغات، فلجأ إلى هذا السيناريو أخيرا. لعلكم تذكرون أنه سبق أن كشف عن نيته تلك عندما قال قبل هذه الأحداث بكثير: “إن لم تخضعوا لي، فيمكنني أن أعلن حركة الخدمة تنظيمًا إرهابيًّا في جميع أنحاء العالم من خلال مدعٍ عام وحفنة من رجال الأمن”. كان من باب المستحيل أن يحقق ذلك عبر الطرق القانونية، لأن أبناء الخدمة مستنيرون ومثقفون، لم يؤذوا نملة في حياتهم، ولم يخرجوا إلى الشوارع في مظاهرات لإثارة الفوضى مطلقًا، لم يرموا أحدا بحجر ولم يؤذوا أحدا. لذلك لجأ إلى سيناريو خبيث كهذا ليقول للناس: “ها هم رجال الخدمة يحملون السلاح كذلك”. وهكذا استطاع أن يفتح الطريق المؤدية إلى تأسيس نظام ديكتاتوري يخطط له من جهة، كما استطاع أن يدشن حملة واسعة ضد الخدمة أطلق عليها “مطاردة الساحرات”[2] لم يسبق أن تعرضت الخدمة لمثلها من قبل. طبعا فشل في إقناع الرأي العام العالمي بأن حركة الخدمة تنظيم إرهابي، لكنه نجح في زرع العداء والكراهية ضد الخدمة في المجتمع التركي بفضل عشرات الصحف والقنوات التلفزيونية الموالية التي تلفق يوميًّا عن حركة الخدمة مئات من الأخبار الكاذبة دون انقطاع. وليت الكارثة اقتصرت على معاداة الخدمة، إنما ذبحوا مستقبل وطن بأكمله. لعبوا في كيمياء الوطن وأفرغوه من مضمونه. هناك اليوم مئات الآلاف من المتضررين. عشرات الآلاف من العقول النوعية المثقفة الراقية التي تعشق وطنها، تقبع داخل المعتقلات، أو تعيش في المنافي الاضطرارية التي لجأت إليها بحثًا عن الأمان. خلاصة القول، إن فاجعة ١٥ يوليو لم تكن سوى سيناريو خائن تم ترتيبه من قبل أردوغان وبطانته.
س: دائما تكررت ادعاءات من قبيل أن حركة الخدمة تسللت إلى الدولة ومؤسسات الدولة وأنها كانت تسعى إلى السيطرة على الجيش وجهاز الأمن ومؤسسة القضاء. هل هذه الادعاءات صحيحة؟ هل للخدمة أهداف من هذا القبيل؟
ج: إنني أرفض رفضًا باتا جميع الادعاءات المتعلقة بأي نوع من أنواع “التسلل” أو “الاختراق” أو “السيطرة” على أجهزة الدولة، وأعتبرها مزاعم كريهة وغير لائقة. حركة الخدمة أَوْلَتِ التعليم عناية خاصة من البداية، وحفَّزت الناس على أن يتحلوا بالعلم والمعرفة والأخلاق والتنمية، وأن يستوعبوا واقع عصرهم ويواكبوا تطوراته مع الحرص على القيم الإنسانية السامية مثل الوفاء والعطاء والتجرد. حركة الخدمة تقوم على مبدأ التطوع. لقد تعرضت الخدمة لمثل تلك التهم والادعاءات مرات عديدة من قبل. وأنا عبّرت عن قناعتي المتواضعة في كل مرة وقلت: “عندما يُرسل مواطنٌ في هذا الوطن أبناءه ليخدموا في أجهزة دولته، فإن ذلك لا يسمى تسللاً أو اختراقًا، بل إن ذلك حق من حقوقه الطبيعية”. ولقد ذكرت ذلك بوضوح في دروسي ومحاضراتي المفتوحة للجميع، كما عبّرت عن ذلك مرارا في الحوارات التي أجريت مع العبد الضعيف. وما زلت على الرأي نفسه. إنْ أرسل الشعب أبناءه إلى مؤسسات دولته ليخدموا فيها، فإن ذلك ليس اختراقًا، إنما هو حق من حقوقه الطبيعية.
أما مسألة أن هناك متعاطفين معي ومع أفكاري في هذه المؤسسات، فليس غريبا أن يكون هناك متعاطفون مع أفكاري أو مع أفكار غيري، فقد يكون بين من يحترمون العبد الضعيف أناس أرسلوا أبناءهم إلى تخصصات وكليات وجامعات مختلفة، كما قد يكون بينهم من أرسلوا أبناءهم إلى بعض المؤسسات التي أشرتم إليها. يمكن أن يكون في تلك المؤسسات من ينظر إلى أنشطة الخدمة بعين التقدير، أو من يتعاطف مع فلسفتها القائمة على المحبة والسلام والحوار والتعايش والقيم العالمية. وهذا ليس غريبا كما قلت، ما داموا ملتزمين بالقوانين واللوائح المنظمة لهذه المؤسسات، ويعملون لصالح وطنهم ويتلقون تعليماتهم من قياداتهم المباشرة. أما الزعم بأنهم مرتبطون بالخدمة فما هي إلا ذريعة للتخلص ممن يريدون التخلص منه كما بات من الواضح أن وجود هذه النوعية من الناس في تلك المؤسسات قد سبَّب إزعاجا للبعض على الدوام. وليست عمليات التنكيل والإبادة التي تتعرض لها الخدمة في السنوات الأخيرة بصورة ممنهجة إلا تعبيرا عن ذلك الانزعاج.
إن طرد عددٍ من القضاة أو المدعين العموم أو رجال الأمن أو ضباط الجيش من وظائفهم أو الزج بهم في المعتقلات بذريعة انتمائهم للخدمة أمر غير معقول، فأنا شخصيا لا أدري مثلا نسبة المعجبين منهم بفلسفة الخدمة، بل لا أعرف الأغلبية الكبرى من المواطنين الذين يتعاطفون مع رؤية الخدمة. وكيف لي أن أعرف ذلك؟ ليس هناك سجلات، ولا نظام عضوية، ولا دفاتر تقيد أسماءهم. الخدمة حركة تطوعية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وأود أن أكرر ما سبق أن ذكرته مرارا في مناسبات شتى؛ لا نعرف بالتحديد ما إذا كان بين من شاركوا في مسرحية الانقلاب تلك أحد ممن يتعاطفون مع فلسفة الخدمة أم لا، ولكن أقول إن كان بين هؤلاء من يتعاطف مع فلسفة الخدمة فما فعلوه خيانة للقيم الأساسية لتلك الفلسفة.
س: سبق أن اقترحتم تشكيل لجنة دولية للتحقيق في محاولة الانقلاب. ما الذي كنتم تتوقعونه؟ فيما بعد نشرت بعض الدول تقارير استخباراتية حول الموضوع. فهل تعتبرون هذه التقارير نوعًا من الاستجابة لمقترحكم ذاك؟
ج: بالتأكيد لا. لقد قدمت ذلك المقترح عقب مسرحية الانقلاب مباشرة. وما زلت أُلحّ على طرحه. لتؤسِّس المنظمات الدولية، سواء كانت الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو أو أي منظمة أخرى، لجنة مستقلة تحقق في الموضوع. وأنا على استعداد تام لأقدم إفادتي بين يدي هذه اللجنة. وسأحترم القرار الذي يتخذونه مهما كان وسألتزم به حرفيًّا. لكن لم يستجب لا أردوغان ولا حزب العدالة والتنمية لهذا المقترح، بل عندما قُدّم طلب للبرلمان في تركيا للتحقيق في موضوع الانقلاب، تم رفض ذلك بناء على تصويت أعضاء حزب العدالة والتنمية، فكيف سيقبلون بتشكيل لجنة دولية تحقق في الموضوع؟ إنكم تعرفون جيدا ما آلت إليه الأمور في اللجنة التي تشكلت “صوريا” في البرلمان وما كادت تتشكل لولا ضغوطات مكثفة، ولم تتشكل إلا بعد أن مضى على محاولة الانقلاب أشهر عديدة. وتعرفون أن جميع الشخصيات المفتاحية في هذه المسرحية لم توافق على القدوم إلى برلمان الشعب للإدلاء برأيه والإجابة على أسئلة اللجنة. لقد نشرت أمريكا وإنكلترا وألمانيا وأمثالها من الدول التي تمتلك أجهزة استخباراتية قوية، تقارير تؤكد أنه لا يوجد أي دليل ملموس يثبت تدبير الانقلاب من قبل حركة الخدمة، لا شك أن هذه التقارير بمثابة إعلان عن براءة الخدمة من هذه الجريمة، لكن ذلك لا يكفي. إذ لم يكن لهذه التقارير أي أثر إيجابي على الوضع الداخلي في تركيا. أنا ألح على ضرورة تناول القضية بصورة أكثر جدية ومن قبل لجنة دولية يُلزِم قرارُها الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي برمته. إنني ألح على هذا الطلب لتبرئة ساحة مئات الآلاف من الناس في تركيا ممن يتعرضون لشتى أصناف الأذى والافتراء. وإذا استحضرتم المآسي التي يعيشها مئات الآلاف من الأبرياء في تركيا بسبب مسرحية الانقلاب تلك، فسوف تفهمون مدى أهمية إلحاحي على تشكيل لجنة دولية مستقلة تحقق في الموضوع.
س: كُشِف مؤخرا أن وزراء حزب العدالة والتنمية خططوا مع “مايكل فلين” مستشار الأمن الخاص السابق للرئيس الأمريكي ترامب لاختطافكم من أمريكا إلى تركيا. كيف تقيّمون ذلك؟ وهل سبق أن وصلتكم معلومات أخرى عن محاولات مماثلة تتعلق بكم؟
ج: عندما سمعت بذلك صدقوني تأسفت كثيرا من أجل بلدي. تأسفت كثيرا على تحول جمهورية تركيا -التي تمتلك تقاليد عريقة في تسيير الدولة وتحاول أن تمارس التجربة الديمقراطية بطريقة أو بأخرى- في يد هؤلاء إلى كيان مافيوي. للأسف الشديد يتعرض رجال الخدمة في بعض الدول التي لا نصيب لها -أو قلَّ نصيبُها- من الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته وسيادة القانون لعمليات خطف بأساليب مافيوية لا تتناسب مع جدية الدولة ولا سيادة القانون ولا حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. يبدو أنهم لجأوا هنا (أمريكا) أيضا إلى الأساليب نفسها. ولكن الأمر هنا مختلف، إن الديمقراطية تعمل هنا بشكل سليم بكل مؤسساتها، كما أن سيادة القانون هي الأساس هنا وفق المقاييس العالمية. لذلك لا يمكن أن ينجحوا في ذلك هنا. وسبق أن حذرتنا أجهزةُ الأمن هنا وزوَّدتنا ببعض المعلومات حول محاولة اغتيال تستهدف العبد الضعيف أو المكان الذي يقطن فيه.
[1] هي قضايا حوكم فيها بعض جنرالات وقيادات الجيش التركي وآخرين بتهمة التخطيط للانقلاب، بدأت من عام 2007م حتى عام 2013م.
[2] مصطلح أطلقته حكومة العدالة والتنمية بقيادة أردوغان على الحملة المنظمة التي استهدفت تصفية من يُزعم انتماؤهم إلى الخدمة من كافة القطاعات.
نشر هذا الحوار بتاريخ 5 يوليو 2017.