﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾(الأَعْلَى:9)
من لا يضع نصب عينيه أسباب نـزول مثل هذه الآيات قد يفهمها بشكل خاطئ فيقول: “إن نصائحي لم تفد ولم تأت بخير”أو: “لقد ذكّرتهم خمسين مرة فلم تنفعهم الذكرى”أو: “هؤلاء غير مؤهلين للإيمان”… الخ. وهكذا تصاب وظيفة الدعوة والتبليغ بالفتور. بينما الحقيقة التي تشير إليها هذه الآية حقيقة أخرى تماماً ومغايرة لهذا المفهوم ولهذا المعنى لأن هذه الآية الكريمة تقوم بتعليم أصحاب الدعوة وظيفتهم في الإرشاد وفي الدعوة والآية ﴿فَذَكّرْ إنْ نَفَعَتِ الذّكْرَى﴾ توصي هؤلاء وتقول لهم إن كان تذكيرك مفيدا فداوم عليه. علماً بأن الرسول صلىوسلمر على الرغم من آية ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة: 6) فإنه داوم على تذكير قساة القلوب من قريش من أمثـال أبي جهل وعتبة وشيبة وغيرهم. ولا يعلم إلا الله وحده كم من مرة ذهب إليهم وذكّرهم ودعاهم إلى الله. ولو أعطاه الله تعالى فرصة وفسحة أخرى لما توانى عن تذكيرهم ودعوتهم.
أجل!… إن أساس وظيفة التبليغ والإرشاد هو تنفيذ أمر الله بدوام هذا التبليغ والاسـتمرار عليه. ولو أخذنا اسـتجابة الناس أو عدم استجابتهم بحسباننا لأدى هذا إلى شيء معاكس ومناف لأهدافنا. انظروا ماذا يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ (المائدة: 67).
وبجانب تذكير الله تعالى لرسوله بوظيفته ومهمته نجد هنا تنبيهاً لطيفاً وليناً له. فكأنه يقول له: ليس هناك أي احتمال حول تخليك عن مسئوليتك وعن مهمتك في التبليغ فليس هذا من طبعك لأنك مفطور على القيام بالتبليغ ولكن مع هذا يجب تذكيرك، فأنت صاحب الخلق العظيم والسجية السامية والفطرة النورانية الذي يسعى نحو اللامحدود ونحو اللانهاية، لذا كان الشعور بمسؤولية المهمة الكبيرة الملقاة على عاتقك متناسبا مع هذه الفطرة السامية.
وحسب الحقيقة التي تكشفها آية ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (القصص: 56) نعلم أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومهمة كل واحد منا هو التبليغ والتبليغ فقط.
وهناك وجه آخر لآية ﴿إنْ نَفَعَتِ الذّكْرَى﴾ وهو أن بعضهم لا تنفع معهم الإرشادات والنصائح، لذا كان من الضروري معرفة هذه الحقيقة منذ البداية لكي لا يقع أحد في اليأس والقنوط، ولكي لا نتدخل في أمور هي خارج مهمتنا ووظيفتنا. لأنه حسب آية ﴿سَيَذّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ فإن المستفيدين من التذكير والتبليغ هم أهل الخشية فقط.
ولكون الرسول صلىوسلمْ مكلفاً بالتذكير والتبليغ دون قيد أو شرط فإن آية ﴿فَذَكّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ لا تفيد التقييد بل تفيد تأكيد هذه المهمة وهذا التكليف، لأن هذا الكلام البليغ والقوي النازل والموحى به لا بد أن يكون له نفع حتى ولو بالقوة “أي بالاحتمال في المستقبل”. أما استفادة السامعين له أو عدم استفادتهم فعلياً فهو موضوع آخر. إذن نستطيع أن نقول استناداً إلى هذه الآية: انصح لأنه لا بد أن تكون هناك فائدة من النصيحة.
اللهم اجعلنا من عبادك الخالصين المخلصين. وصلّ وسلّم على سيد المخلصين.