﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾(الشُّعَرَاء:61-62)
كان أصحاب موسى عليه السلام ينظرون إلى الموضوع من زاوية مادية، وعندما كان يخاطبهم، كان يأخذ هذا بنظر الاعتبار. أجل!… كانت النظرة المادية غالبة على هذه الجماعة، فعقولهم كانت محصورة في مجال ما يرونه ويشاهدونه فقط، ومقفولة عن العالم الميتافيزيقي. لذا فجماعة لها هذه الخواص والصفات كانت محتاجة لتعليم وتدريب وفي حاجة لجهد كبير لكي تستطيع تبني طريق النبوة في التفكير. لذا اختار موسى عليه السلام طوال حياته مثل هذا السبيل. فبذل غاية جهده دون كلل أو ملل. وهذه الآية الكريمة تبين هذه الخصيصة لليهود. ففي أثناء تعقب فرعون وجيشه لهم فرق أمامهم البحر بمعجزة باهرة ليقطعوا البحر بأمان. ولكن اليهود حتى في هذه الأثناء تناسوا هذه المعجزة الإلهية الباهرة فقالوا بأنـهم مدركون، أي سيصل إليهم جيش فرعون، فقال لهم موسى عليه السلام الكلام الذي يجب أن يقال: ﴿كَلاّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.
يجري القاضي البيضاوي في تفسيره عند تحليل هذه الآية مقارنة بين موسى عليه السلام وبين محمد صلىوسلمه ، فيقول إن موسى عليه السلام قال في لحظة اقتراب الخطر ﴿إِنَّ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، أي عبر بصيغة المستقبل. بينما قال رسولنا محمد صلىوسلمج لأبي بكر رضي الله عنه يطمئنه عندما كانا في الغار واقترب المشركون منهما: ﴿لاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا﴾ (التوبة: 40). فأظهر الرسول الكريم صلىوسلم ثقته التي لا تعرف الحدود بالله تعالى.
لا شك أن الفرق بين خطاب موسى عليه السلام لقومه وبين خطاب رسولنا صلىوسلمَ لأبي بكر رضي الله عنه يعود جزء منه إلى الفرق في موضوع التوكل والتفويض والتسليم بين من خاطبهم موسى عليه السلام وبين من خاطبه رسولنا صلىوسلمد . فلا شك في وجود فرق كبير بين شخص وصل إلى درجة الصديقين، فكان يقبل ويسلم بكل جملة تصدر من فم الرسول صلىوسلمل دون أي تردد، وبين قوم كانوا يناقشون رسولهم ويجادلونه في كل أمر وفي كل شأن.
﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾(الشُّعَرَاء:84-85)
كان إبراهيم عليه السلام شخصا يدرك تمام الإدراك النعم التي أسبغها عليه ربه وألطاف ربه اللانهائية. فمثل صاحب هذا الإدراك السامي كان يعلم أن كل شيء من الله تعالى، فهو الذي يطعم ويسقي ويعطي القدرة على الكلام. أي هو وحده الحاكم المطلق وليس غيره. وإذا كان صاحب مثل هذا الإدراك يدعو فيقول ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اْلآخِرِينَ﴾ فلا بد بأن الله تعالى هو الذي ألهمه مثل هذا الدعاء. أي كان الله هو لسانه الناطق، وهو الذي أنطقه بهذا الدعاء، ثم هو الذي قبل هذا الدعاء. ولو لم يكن يريد قبول هذا الدعاء لما ألهمه إياه. أجل!… نقول إنه قبل هذا الدعاء، والدليل على هذا أن المسلمين يذكرونه على الدوام ويدعون له في صلواتـهم.
هنا أمر مهم آخر وهو: كما هو معلوم فإن الأنبياء عندما يتوفون لا يتركون وراءهم أموالا وأملاكا للورثة. دعوتهم هي ميراثهم. وكان إبراهيم عليه السلام الذي وصلت إليه سلسلة النبوة (والذي غير أشياء كثيرة في عهده، أي كان نبيا مجددا ومصلحا كبيرا) يرغب بهمته الكبيرة أن ينفتح على الإنسانية جمعاء. وقد تحققت أمنيته هذه كنتيجة طبيعية لقبول دعائه. أي تحول إبراهيم عليه السلام نتيجة عيشه حياة النفي مرتين مهمتين في حياته إلى ظل وارف للإنسانية. ففي الخط الذي بدأ بابنه اسحق عليه السلام وصل إلى المسيح عليه السلام، وفي الخط الذي بدأ بابنه إسماعيل عليه السلام وصل إلى نبينا محمد صلىوسلمه . وكان في كلا الخطين قدوة وأسوة للجميع. وكان اسمه وذكراه على لسان كل نبي من هؤلاء الأنبياء. ومع أن رسولنا صلىوسلمي كان خاتم الأنبياء والرسل، إلا أن ذكرى إبراهيم عليه السلام استمرت. وكما ذكرنا أعلاه فإن حب إبراهيم عليه السلام الذي أشربت به قلوب المسلمين بتوجيه وتعليم من الرسـول صلوسلميج جعل المسلمين يذكرونه على الدوام في أدعيتهم في الصلاة. ويحتمل أن إبراهيم عليه السلام سيكون من ورثة جنة النعيم نتيجة هذه الأدعية والصلوات.
وأمر أخير نود ذكره. إن المهمة التي يقوم الأنبياء بإنجازها، والدعوة التي يقومون بتبليغها ليست مجرد فكر أو مجرد هدف سام، أو مجرد غاية يسعون لتحقيقها. فهذه الأمور تبقى ثانوية جدا تجاه الدعوة العظيمة التي يمثلونها. والأنبياء الذين هم موظفون الهيون -ولا سيما إبراهيم عليه السلام- لم يكونوا يرغبون في انتهاء دعوتهم بوفاتهم، بل كانوا يدعون أن تعيش هذه الدعوة إلى الأبد. ومن هذا المنطلق يحتمل أن إبراهيم عليه السلام أراد أن تذكره الأجيال القادمة بالخير.
أما دعاؤه ﴿وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنّةِ النّعِيم﴾ فهو لكي يبين بأنه على الرغم من كونه وسيلة لأنبياء عظام ساروا على هذا الصراط المستقيم، وعلى الرغم من كونه مرشداً ودليلا لهذا الصراط المستقيم، فهو يطلب دعاء الأنبياء الذين جاءوا من صلبه ودعاء ورثة هؤلاء الأنبياء، لأنه يعلم وجوب انتظار كل شيء وكل الآمال من مسبب الأسباب، وأن الجنة لطف من الله تعالى وإنعام منه ولا تستحصل بالأعمال، بل بالرحمة الواسعة لله تعالى ونتيجة الطلب والدعاء المستمر. وهذا أمر مهم يجب التأكيد عليه.
﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾(الشُّعَرَاء:142)
خطاب الأنبياء لأقوامهم الكفار بأنهم “إخوانهم”ليس مقتصرا على النبي صالح عليه السلام. فالخطاب نفسه يرد عند أنبياء آخرين مثل هود وشعيب ونوح ولوط عليهم السلام. فعلى الرغم من كون هؤلاء الأنبياء مرسلين من تلك القبائل وظاهرين من بينها،فهم لم يكونوا منهم من ناحية التفكير والشعور أو القرابة.
يحتمل أن مثل هذا التعبير في الخطاب كان من أجل إظهار عاطفة الشفقة التي تكنها هذه القبائل لهؤلاء الأنبياء الذين ظهروا من بينها، وإظهار الزاوية التي كان الأنبياء ينظرون منها إلى هؤلاء. وإلا لم يكن النبي صالح عليه السلام من هؤلاء الكفار لا من ناحية القرابة والدم ولا من ناحية الأخوة في الدين.
ولكنه كان من ناحية الإنسانية فردا منهم وكان من ناحية الشفقة عليهم كأنه أخ لهم. وكان قومه يعرفونه عن قرب ويعرفون أمانته وصدقه وعفته واتجاه تفكيره، فكانوا يعدونه فردا قريبا منهم، وكأخ لهم.
كان يمكن أن يخاطبهم بـ: “الأب والوالد أو الخال أو الجد”، ولكن مثل هذا الخطاب قد يظهر نوعا من التعظيم لهم، كما لا يملك الدفء الذي يملكه خطاب “الأخ”.
﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾(الشُّعَرَاء:218-219)
“تَقَلّبَ”من باب “تَفَعَّلَ”، وهذا يشير إلى تكلف شيء وبذل الجهد فيه. أي قيام الإنسان في أمر ما ببذل ما يستطيع وبالإصرار عليه. وهذه هي الصيغة التي يرسمها الله تعالى في وصف سجود رسوله الكريم صلىوسلمء . أي أن الرسول صلىوسلمو كان يبذل غاية ما في وسعه لإظهار عبوديته لربه وهو ساجد أي وهو أقرب ما يكون إليه، ويكاد أن يذوب في سجوده. ولكن هناك أمر تجب الإشارة إليه، وهو إن لم يكن هناك شعور قلبي غامر فلا يمكن الوصول إلى مثل هذه الذرى أبدًا. ومن لا يملك مثل هذا الشعور فتظاهره بالخشوع في السجود ليس إلا رياء.
أجل!… إن هذا الشعور القلبي وهذه المعنويات مهمة جدا ولا سيما في موضوع العبودية لله. فعلى المؤمن أن يتوجه إلى الله في كل أمر بكامل الزهد وبكامل التقوى وبكامل الإخلاص. وأن يكون هذا التوجه الغاية الوحيدة له، على ألا يفهم من هذا ترك الدنيا واعتزالها. فبينما يتم التوجه لتعمير الدنيا وجعلها جَنّة من جانب، كذلك يجب توجيه القلوب إلى الحبّ الإلهي من جانب آخر حتى يجعل من نفحة الإيمان إكسيرًا للحياة. أي بينما تعمر الدنيا وتنظم، يتم التوجه إلى الله لنيل رضاه وفتح باب الوصول إليه على مصراعيه.
وأليس هذا هو ما يقوله القرآن الكريم عندما يذكر: ﴿فَأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ الله﴾ (البقرة: 115). وأنا أرى أن هذه الآية مهمة جداً وذات معان عميقة في وصف الوضع العام للمؤمن الكامل، وفي عكس مقاييس علاقة المؤمن بالله تعالى وارتباطه به. يقول الفقهاء بأن الإنسان عندما لا يعرف جهة القبلة يسأل ويستفسر عنها ويحاول بإمكانياته العثور عليها. وتكون صلاته مقبولة في هذه الحالة حتى وإن صلى إلى جهة معاكسة للقبلة. ولكن ليس من الصحيح قصر معنى الآية على هذا فقط. فالإنسان في جميع أحواله: عندما يأكل وعندما يشرب… عندما يقوم وعندما ينام … عندما يكون بين أهله… عندما يتنـزه… في كل أحواله هذه عليه أن يكون متوجها لله تعالى مراقبا إياه، شاعراً به. أجل!… إن الآية تشير إلى هذه المعاني أيضاً.
والحقيقة إن على الإنسان أن يجدد نفسه في كل حين في علاقاته بربه، وتظل نفسه طرية على الدوام. صحيح إن الله تعالى منـزه عن التجدد والتغير والتبدل، ولكن شعورنا به وعلاقتنا معه يجب أن تتجدّد على الدوام. كان القدماء يقولون عنه تعالى “منظور إليه”، والتجديد المطلوب هو من ناحية الناظرين إليه. وهذا التجديد تجديد من ناحية البحث المستمر عن التجليات الجديدة لهذا “المعبود بالحق”و”المقصود بالاستحقاق”، والتعرف عليه من جديد للوصول إلى أعماق إيمانية أخرى. نحن مضطرون لهذا، وإلا فليس من البعيد تعرض إيماننا للتعفن وللبِلى.
إذا رجعنا للآية الكريمة نقول بأن السجود الخاشع المتبتل يتناسب طردياً مع مقدار الحضور الإلهي في القلب وفي الفؤاد. فقلب الإنسان اللاهي عن الله مع كونه غارقا في نعمه، والقلب الذي لا يحمل مثقال ذرة من الشعور بالامتنان والشكر والحمد، لا يستطيع الاقتراب من مثل هذا السجود مرة واحدة في حياته كلها، أو يكون هذا صعباً جداً.
ثم إن قيام الرسول صلىوسلمل بأداء وظيفة العبودية بعمق نتيجة لعمق شعوره بمراقبة الله تعالى له في قيامه وقعوده وحركاته وسكناته “الذي يراك حين تقوم”أجل!… فهو مع كونه ساجدا بخشوع، ولكنه من ناحية أخرى يقوم بتنفيذ وتطبيق أوامر الحق تعالى، أي هو في حالة قيام روحي. فهو يقوم للتهجد نصف الليل. وهو قائم أيضاً لتنفيذ وتطبيق أوامر الدين بكل وجد وبكل طاعة وتسليم. وهو يقوم لتلبية الحاجات المادية والمعنوية للمؤمنين بكل إنابة وخضوع لمولاه. أي كان يعيش العبودية لله في كل حركاته وسكناته منتظراً أوامره ومطبقاً إياها. وعندما يسجد ويضع جبهته في مستوى قدميه يكون قد ارتفع إلى ذروة العبودية فهو القائل: “أقربُ ما يكون العبدُ مِن ربِّه وهو ساجدٌ”.
﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾(الشُّعَرَاء:224-227)
من أهم خصائص آيات القرآن الكريم هي أن الأشخاص الذين تستهدفهم الآيات مباشرةً، والأشخاص الذين تخاطبهم بصورة غير مباشرة مع كونهم مختلفين إلا أن كلا منهما يستطيع استخراج الدروس والعبر التي تختلف بالنسبة لكل منهما. فمثلاً نرى أن شعراء الجاهلية هم المخاطبون المباشرون بـهذه الآيات. وكان شعراء ذلك العهد الجاهلي يدعون أنهم يتصلون بالجن ويستطيعون الإخبار عن الغيب، ويتكلمون كلاماً سجعاً يسحرون به قلوب سامعيهم، أي كانوا يشبهون الوسطاء الروحيين في أيامنا هذه، وكانوا معروفين بمعارضتهم للقرآن. والقرآن عندما ذكر الشعراء في هذه الآية إنما كان يعني هؤلاء الشعراء الجاهليين. وأن وصف القرآن للتابعين لهؤلاء الشعراء والمتأثرين بهم بأنهم “غاوون”يشير إلى مدى انحراف هؤلاء الشعراء.
من جهة أخرى تخاطب هذه الآية بعض الشعراء في كل عهد وإن لم يكن بدرجة خطابه لشعراء العهد الجاهلي. فإن قومنا آية ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ ضمن هذا الإطار نراها تشير إلى الذين أبعدوا الدين وكل ما يتعلق به عن حياتهم، واتخذوا أهواءهم أصناماً واتبعوا أمثال هؤلاء الشعراء.
﴿ألَمْ تَرَ أَنَّهُم فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ أي أنـهم يهملون المعنى والمحتوى والموضوع ويضعونه جانباً ويهيمون في الأودية المختلفة للنظم وللنثر تحت اسم وشعار الرومانسية مرة والواقعية مرة والفعلية مرة أخرى.
﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾ أي أن الكذب ديدنهم، وهم كالصيادين الكذابين الذين يفتخرون بأنهم صيادون جيدون وهم كاذبون. لأنهم يقولون مالا يفعلون. قد يدعون الأدب ويدعون كتابة الروايات، ولكنهم يكذبون على الدوام.
﴿إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.. هؤلاء مؤمنون بجانب كونهم شعراء. لذا فالذين يتبعون هؤلاء يشاركونهم نفس الشعور ونفس الإيمان. ولكون هؤلاء قد اتخذوا الخط القرآني منهاجاً لحياتهم، لذا لا ينحرفون ولا يهيمون في كل واد. ولكونهم يعدون قول ما لم يفعلوه من اكبر الذنوب عند الله تعالى لا يكذبون أبداً، ولا يضحون بالقيم التي يؤمنون بها على مذبح الأدب أو الشعر أو الرواية، لسبب كونهم مؤمنين. أي يمثلون الأمن والأمان في الدنيا، ويوحون بالثقة على الدوام؛ لأن القول والعمل عندهم ضمن إطار واحد ولا تناقض بينهما. ولم يكن ينتظر شيء آخر من هؤلاء الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، والذين إذا ما تعرضوا للظلم هم ينتصرون، ويستعملون حقهم في الدفاع عن أنفسهم.
وكما رأينا فإن من أهم شروط الاستفادة من القرآن قبوله رسالة عالمية لكل العصور، وقراءة كل إنسان له وكأنه يخاطبه. في هذه الحالة فقط يستطيع القرآن التعبير عن نفسه. ونستطيع نحن الاستفادة منه.
والخلاصة إن الشعر والنثر -كغيره من الأعمال ومن المهن الأخرى- يتجلى بشكل مختلف حسب اختلاف من يمثلونه. فبينما يقوم من آمن وعمل صالحاً بعكس أسس إيمانه في شعره ونثره ويهتف بالحق على الدوام، ولا يصرف قابلياته الفنية والأدبية في خيالات “فنطازية”، بل يستعملها لإقامة الحق ومادة لبنائه، فقد ينتصر وقد يهزم ولكنه لا يتخلى أبداً عن مناصرة الحق. لقد كان الشعر والنثر والخطابة عند الخنساء وكعب بن زهير وكعب بن مالك وحسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة -من الذين نصروا من قبل روح القدس- أداة مؤثرة، وسحراً حلالاً سحر الكثيرين واثر فيهم اكثر من تأثير السيوف القواطع. وبينما تكون صرخة مطلقة في سبيل الحق، أو مقالة تظهر الحقائق وسيلة من وسائل الانتصار للحق، يمكن أن يكون الشعر والنثر أداة لإلهاب الأهواء والنـزوات. وأداة من أدوات الانحراف وتضليل الإنسان. فمثلاً قد يقوم يوماً أحد هؤلاء الأدباء بمدح الكرم، وفي اليوم الثاني يصفه بالتبذير، ومن يمدحه اليوم ويعلو به إلى السماء، يهاجمه غداً ويخسف به إلى تحت الأرض. تراهم مرة يصفون خيالاً باهتاً بأنه حقيقة باهرة أو تراهم يديرون ظهرهم للحقائق الساطعة ويصفونها بأنها مجموعة أوهام. عندما يتحدثون عن الجمال يثيرون الغرائز الجسدية، ولا يستطيعون رؤية الحسن المجرد. عندما يتحدثون عن الطبيعة يتحدثون عنها وكأنها خالق ومعبود. يتحدثون عن أمور لم تكن ولا يمكن أن تكون، ويستخدمون الأدب والفن وسيلة للكذب وللمبالغة وللديماغوغية. لذا فكل أحوالهم هذه ليست إلا أحوالاً شيطانية.