﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾(مَرْيَم:5)
ليس من الصحيح تفسير طلب زكريا عليه السلام ولداً من ربه وكأنه عدم رضا وكراهية للقدر الإلهي. لأنّ هناك أموراً مبنية على هذا الطلب. فزكريا عليه السلام أولاً نبي مرسل إلى بني إسرائيل. وكان بنو إسرائيل حتى ذلك اليوم يمثلون من قبل الأنبياء في أمور الدين والدنيا، ويكفي أن نتذكر سلوك وتصرف بني إسرائيل عندما اختير طالوت ملكاً وقائداً لهم . لذا فقد خشي زكريا عليه السلام ألا يعترف بنو إسرائيل بالشخص الذي سيأتي من بعده ولا ينقادوا له، وهذا يعني انفراط عِقْدِ الوحدة بين بني إسرائيل.
ونستطيع أن ننظر إلى هذه الآية من زاوية أخرى:
إن الإنسان ممتحن بكل أمر دنيوي. ونستطيع إعطاء مثال النبي إبراهيم عليه السلام والنبي زكريا عليه السلام. فقد كانت للنبي إبراهيم عليه السلام رغبة مكبوتة في نفسه، وهذه الرغبة ظهرت واضحة من فرحه ببشرى الملائكة له بالولد. أما زكريا عليه السلام فقد دعا ربه دعوة واضحة وطلب منه العقب ويورد القرآن هذا الدعاء. وحسب الحكمة الإلهية فقد أُمتحن هذان النبيان بابنيهما. كأن الطلب الخفي كان أهون لذا امتحن النبي إبراهيم عليه السلام بطلب ذبح ابنه. أما زكريا عليه السلام فلأن طلبه كان ظاهراً فقد امتحن امتحاناً اشد -وإن كانت عاقبته خيراً- وهو ذبح زكريا وابنه يحيى عليهما السلام من قبل قومهما. وشدة الامتحان متناسبة مع درجة القرب من الله. وهذان النبيان كانا من المقربين، لذا كان امتحانهما شديدا كل الشدة.
وفي هذه الآية نرى دعاء زكريا عليه السلام وطلبه ذرية تخلفه لخشيته البقاء وحيداً دون معاون أو نصير من أهله في أمور الدين والدنيا. لذا نرى سورة آل عمران وهي تسجل دعاءه ﴿قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرّيةً طَيّبَة﴾ (آل عمران: 38)
ويرد هذا الدعاء أيضاً في سورة الأنبياء: ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِين﴾ (الأنبياء: 89). أي طلب ذرية من صلبه يكون وارثاً له في النبوة وفي آل يعقوب.
ورسولنا الكريم صلىوسلمن يقول: “إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة”. أي أن الأنبياء لا يحملون أي هم من هموم الميراث لأولادهم أو لأقربائهم. لذا فالدعاء هنا من أجل ميراث النبوة. وقد قبل خير الوارثين هذا الدعاء واستجاب له بإحسان منه وفضل. وقد جعل الله تعالى -إظهاراً لعزته وعظمته- شيخاً كبيراً وامرأة عاقراً ستاراً لإحسانه وفضله.
ولكي يُشْعِرَ بأنه هو الوارث الحقيقي فقد استرجع بطريقة غير اعتيادية ما اعطاه بطريقة استثنائية وغير عادية.
﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾(مَرْيَم:17)
اعتزلت مريم عليها السلام عائلتها واعتكفت مكاناً شرقياً. ولم تكتف بالعزلة والاعتكاف، بل اتخذت ستراً وحجاباً بينها وبين عائلتها. وكما يمكن أن يكون سبب هذا الستر والحجاب تأمين عدم إحساس الآخرين بأحوال المرأة في هذا المكان المنعزل الصامت وحاجتها إلى التطهر، كذلك يجوز أن يكون السبب رغبتها في أداء عبادتـها في جو هادئ وساكن بعيداً عن الضجيج لكي تستطيع التركيز في عبادتها وصلاتـها.
ونتيجة هذا الطهر المادي والروحي الذي كانت تشعر به في أعماق روحها وحسب منطوق “الطيبات للطيبين”وفي ذلك الجو الطاهر النقي جاءها وتمثل لها الروح. كانت الإنسانية تحيا بـهذا من جديد، وهذه الحياة المتجددة ستستمر حتى يوم القيامة.
ماذا كان هذا الروح؟ تقول معظم التفاسير بأن كلمة “روحنا”الواردة في هذه الآية تشير إلى جبريل عليه السلام. وهناك خلاف في تعيين المقصود من الروح. وحدود الاحتمالات تتجاوز إطار الخلاف، وهي واسعة إلى درجة أنـها تستوعب روح رسولنا صلى الله عليه وسلم أيضاً. أجل!… هذا محتمل أيضاً. لأن مريم العذراء عليها السلام كانت امرأة عفيفة جداً ونـزيهة جداً. لذا لم يراود مخبلتها أيُّ خيال يمكن أن يقدح بـهذه العِفّة والنـزاهة، وما كان يجوز لها ذلك. وما كان يجوز أن ينظر لها إلا محرم لها. وهذا المحرم هو نبينا صلىوسلمق لأنه أشار في أحد أحاديثه أنه عقد نكاحه على مريم. لذا كان ضمن الاحتمالات الواردة أن هذا الروح المتمثل لها كان روح نبينا. ولكن هذا ليس شيئاً قطعياً. وما لم تتقو الاحتمالات بالأدلة فهي تبقى مجرد احتمالات لا غير.
﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾(مَرْيَم:23)
هناك بعض التعابير يستعملها كل إنسان -حسب تقييمه الخاص- في المسائل التي يراها خطيرة وكبيرة ومهمة جداً. فمثلا هناك دعاء لأبي بكر الصديق رضي الله عنه -وإن كان ضعيفاً من حيث علم الحديث- يطلب فيه من الله تعالى أن يجعل جسمه ضخماً إلى درجة بحيث تمتلئ به جهنم فلا يبقى هناك مكان لغيره.
أو مثلما يقول بديع الزمان النورسي: “لو شاهدت سلامة إيمان أمتي، فإنني أرضى أن أحترق في نار جهنم لأنه بينما يحترق جسدي فإن قلبي سيمتلئ سعادة وحبوراً”.
مثل هذه المسائل تصبح عندهم فكراً وشعوراً. ولما كانت العفة لدى مريم عليها السلام قد أصبحت فكراً وشعوراً قويين فقد آلمتها الإشاعات والأقاويل التي قيلت في حقها ألماً كبيراً حتى تمنت لو أنها ماتت وأصبحت نسياً منسياً.
أجل!… لقد كانت مثالاً للعفة ولم تكن تستطيع تحمل أن يرميها أحد بزهرة فكيف وهي تتعرض للافتراء على شرفها وعفتها!!. لذا تمنت هذه الأمنية وهي في خضم الثواني الأولى من الهزة العنيفة التي جابـهتها والتي لم تستطع آنذاك أن تستعين بمنطقها في تخفيف وقع هذه الهزة عليها، كما لو كان لقاء الله تعالى ضمن تلك الأمنية ونتيجة لها.
والحقيقة أن مثل هذه الأقوال كقول أبى بكر الصديق رضي الله عنه وهو يشاهد طائراً على شجرة انه يتمنى لو كان هو مثل هذه الثمرة التي ينقرها هذا الطائر، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو ينظر إلى قشة أخذها في يده أنه كان يتمنى أن يكون تلك القشة، وقول آخر بأنه كان يتمنى لو كان شجرة يقطعها الناس… هذه الأقوال ليست إلا أقوالاً قيلت في لحظات يشعر فيها قائلها أنه واقع تحت ضغوط هائلة لم يعد قادراً على تحملها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾(مَرْيَم:96)
هؤلاء المؤمنون العاملون للصالحات سيكونون هم المحبوبين من قبل الإنس والجن والملائكة، حتى وإن لم يعملوا شيئاً من أجل كسب حب الناس لهم.
الفعل في اللغة العربية يفيد التجدد ويدل عليه و﴿آمَنُوا﴾ فعل. إذن فالمؤمنون بعد إيمانهم لا يعرفون الركود، بل يجددون أنفسهم وإيمانهم على الدوام بكشف جديد وفكر جديد وتأمل جديد، فيتوجهون على الدوام إلى آفاق جديدة ومتقدمة. ولا يكتفون بهذا بل ﴿وَعَمِلُوا﴾ أي يعملون ما يوافق إيمانهم هذا. أي يقضون أعمارهم في عمل الصالحات. إذن فهؤلاء الناس المؤمنون ثم العاملون ما يرضاه وما يريده ربهم منهم سيفوزون أولا بحب الله تعالى ثم بحب الناس، أي ﴿سَيَجْعَل لَهُم الرّحْمنُ وُدّاً﴾. والحديث الآتي يوضح هذا الأمر إيضاحاً تاماً، حيث يقول الرسول صلىوسلمه : “إذا أحَبَّ اللهُ العَبدَ نادى جبريلَ إنّ اللهَ يحِبُّ فلاناً فأَحْبِبْه فَيحبُّه جبريل فيُنادي جبريل في أهل السماء إنّ اللهَ يُحِبُّ فلاناً فأحِبُّوه فيُحبُّه أهلُ السماء ثمّ يُوضعُ له القَبولُ في الأرض”.
والحقيقة أن الحب يبدأ دائماً منه ثم يتدلى منه إلى السماء ثم إلى الأرض ويحيط بـهما. ويكون هذا إما بخلق الله تعالى وسائل المحبة أولاً ويبنى عليها المحبة. أو يحبهم أولاً -لما سيكونون عليه في المستقبل- كأجرة عاجلة، ثم ييسر أمام قلوبهم الاتجاه نحو الخير ونحو الجمال ونحو الحسنات. وفي كلا الأمرين نرى أنّ الأساس هو النية الصالحة، وأن النبع الأساسي هو المودة الإلهية.
واليوم وإن كان الحديث عن مثل هذا الإنعام زعماً مشكوكاً فيه، إلا أن جنود الإيمان الذين يقدمون خدماتهم في العديد من بلدان العالم يستحقون هذا الإنعام، وهو بالنسبة لهم عين الحقيقة. ولو تم تدقيق حسن القبول التي يتمتع بها جنود الخدمة هؤلاء في مختلف بلدان العالم لما شَكَّ أحدٌ في كوني محقاً في وصفهم. كيف لا وأنفاسهم تتردد من سهول آسيا الوسطى إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ومن أوروبا إلى شمالي أفريقيا وإلى الباسفيك واستراليا. إن المستقبل كفيل بالحكم على هذه الخدمات التي يحققها هؤلاء الجنود من ناحية الكم ومن ناحية الكيف باسم امتنا ولصالح الإنسانية أيضاً. ولو قمت بتقويم أمرهم من ناحية إنتشارهم الجغرافي فقط لما ملكت نفسك من قول: “لولا أن الله تعالى ألقى محبة هؤلاء في قلوب أهالي تلك البلدان لما قبلوهم هذا القبول الحسن”.
إن أصدقاءكم هؤلاء وفي هذا العهد العصيب الملئ بالكوارث المتتابعة والمشاكل المتتالية تمسكوا بدينهم ولم يعلموا لهم غاية سوى خدمة هذا الدين ونظموا حياتهم وفقها. فهم عند قيامهم وقعودهم، وعند تنـزههم وتحولهم أو عند أكلهم وشربهم يقولون: “يا رب!… كيف أستطيع نيل رضاك؟!”ويفكرون في هذا على الدوام. لذا فالعديد من أمثال هؤلاء بمستوياتهم ودرجاتهم المختلفة… برجالهم ونسائهم… بشبابهم وكهولهم وشيوخهم عندما اجتمعوا واتحدوا حول فكر واحد ونشاط واحد، أي حسب تعبير الآية الكريمة عندما آمنوا وعملوا الصالحات أنعم الله تعالى عليهم بحسن القبول في الدنيا. وشخصيا لا أستطيع سوى تقويم هذا التفسير حول وصول هؤلاء إلى هذا المستوى من مستويات الخدمة الإيمانية في ظل كل هذه العوائق التي يحفل بها هذا العهد. وأقول والشعور بنعمة الله وفضله يحيط بقلبي وجوارحي: “كل هذه النعم منك وحدك يا إلهي!”… أقول هذا وأنحني بخشوع.
يقول الله تعالى في تكملة هذه الآية: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً﴾ (مريم: 97).
حيث يذكر تيسيراً تحف به الأسرار. ولو قمنا بتقويم المسألة ضمن سياقها وسباقها، نرى أن القرآن يتحدث عن أمر يتصف بالصعوبة… أجل!… إن التبشير صعب، والإنذار صعب، والأصعب منهما هو النفوذ إلى القلوب. وعندما تكون الشروط والظروف غير موافية وغير ملائمة، ويكون القادرون على الأمر والقائمون به قلة عند ذلك تبلغ الصعوبة درجة الاستحالة؛ لأن تحريك شيء راكد، وتحويل أمر سلبي إلى أمر إيجابي يحتاج إلى بذل طاقة كبيرة. فعند تحريك طائرة، يصبح التحريك الهدف الوحيد، وعند تشغيل السيارة تطفأ المصابيح والراديو والمسجل لتجنب أي ضياع للطاقة. ولكن بعد أن تطير الطائرة، وبعد أن تشتغل السيارة وتتحرك يعود كل شيء إلى وضعه الطبيعي ويتحرك كل شيء بانسيابية. وهكذا الأمر بالنسبة للخدمة الإيمانية -على اختلاف مدارسها ومفاهيمها- فمع أن المرحلة الأولى تتطلب جهوداً شاقّة، إلا أن الأمور ما أن تبدأ بالجريان في سياقها الطبيعي حتى تبدأ ما يمكن أن نطلق عليه اسم “الدائرة الخيرة” -ضد “الدائرة المفرغة”- أي الدائرة الولودة هذا ما نشاهده الآن كل يوم في العديد من وجوه خدماتنا الإيمانية. وهو ما تذكره آية قرآنية أخرى: ﴿وَالّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69).
أجل إن هذه الخدمات الإيمانية المقدمة اليوم، وأصحاب هذه الخدمات الذين نالوا شرف الدخول ضمن دائرة الرضا الإلهي من الأفراد والجماعات والأمم والدول سيأخذون طبعاً نصيبهم من هذا التيسير، بل نالوه فعلاً. ولو دققنا التاريخ من هذه الزاوية لرأينا ألف دليل ودليل على هذا. فمن عهد الراشدين إلى الدولة الأموية والدولة العباسية ثم الدولة السلجوقية والدولة العثمانية، إلى هذا العهد الذي تبدو فيه بشائر البعث من جديد يمكننا رؤية أمثلة عديدة على أصحاب هذه الخدمة.
كما يمكننا النظر إلى هذا الموضوع من منطلق آخر، فالله تعالى يقول في سـورة الليل: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ (الليل: 5-7).
إذن فالإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى -نتيجة للفطرة السليمة التي يحملها المرء- كلها أمور ضمن الأعمال الصالحة، وكلها تؤدي إلى تيسير الأمور وتسهيلها. وهذا هو ما يعمله أصدقاؤنا الآن. فهم يعملون ليل نهار، وقد تركوا منازلهم وهاجروا إلى أواسط آسيا أو إلى مناطق أخرى في العالم غير آبـهين بالضيق المادي، وحاضرين حتى للتضحية بالفيوضات المعنوية. فلا نبالغ إن قلنا بأن أمثال هؤلاء يكونون مظهراً للـ”ودّ”المذكور في الآية. لأن إيفاء حقّ الخدمات التي تصدوا لها وحملوها -على أحسن وجه ودون أي نقص- ليس شيئاً هيّناً. ولكني أظن أن أصدقاءنا هؤلاء قد عدوا ما يقومون به -والذي يبدو للغير أنه في غاية الصعوبة- جزءاً لا يتجزأ من حياتـهم، لذا تراهم مشغولين به ليل نـهار، في قيامهم وقعودهم… في حركاتـهم وفي سكناتـهم. إذن فلتكن نفوسنا فداءً لصاحب الفضل والمنة الذي يسر لهم الصعب، وهوّن عليهم الشاق.