﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾(الْكَهْف:13-14)
أصحاب الكهف أي أصحاب المغارة. ومع أنه قيل إنـهم من أتباع النبي عيسى عليه السلام وأتباع الإنجيل، أو أتباع نبي آخر. إلا أننا نستطيع القول -انطلاقا مما جاء في القرآن الكريم- بأن أصحاب الكهف جماعة تمثل رمز البعث والإحياء حتى يوم القيامة. لأن جميع حركات البعث والإحياء مرت بفترات الضيق وفترات العيش في المغارات أو تحت الأرض، وسيتكرر هذا في المستقبل أيضا.
وإذا أتينا إلى عددهم، فالقرآن ينفي أنـهم كانوا ثلاثة، أما الادّعاء بأنـهم كانوا خمسة فيصفه بأنه رجم بالغيب، ويسكت عن كونـهم سبعة ثامنهم كلبهم. أي يدع الباب مفتوحا للعدد سبعة. ويحمل علماء التفسير هذه القناعة استنادا إلى أسلوب التعبير القرآني هنا. وهنا توجد نكتة لطيفة، فالقرآن الكريم بعدما يذكر أن عدد أصحاب الكهف كان سبعة يستعمل واو العطف فيقول ﴿وثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ (الكهف: 22) مشيرا إلى أن الإنسان والكلب لا يجمعان معا. إذن فلو دخل هذا الكلب الجنة مع أصحاب الكهف -كما ورد في روايـة- فالناس يدخلون بوصفهم أناساً والكلب بوصفه كلبا.
والآن لنرجع إلى البداية ولنطالع معا هذه الآية مرة أخرى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.
إنـهم فتية شجعان… شجعان بأفئدتـهم… شجعان بأفكارهم… شجعان بضمائرهم… شـجعان بسلوكهم وتصرفاتـهم… إنـهم فتية أقوياء الإيمان إلى درجة قيامهم بشق عصا الطاعة ضد الباطل. ومع أنـهم كانوا فئة صغيرة فلم يترددوا في بدء هذه الحركة النابعة من اهتدائهم وإيمانـهم بربـهم الذي زادهم هدى من عنده على هداهم الذي كسبوه بجهدهم… زادهم هدى اعمق برحمته الواسعة الشاملة وجعل منهم عصبة من الفتية المؤمنة حق الإيمان. ونعلم حسب آية ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبـِهِم﴾ أن التأييد الرباني لإيمانـهم وتقوية ربهم لهذا الإيمان وترسيخه في قلوبهم كان بنسبة إيمانهم السابق وبنسبة نيتهم الصالحة. بل إن تلقيهم مساعدة ومعونة واضحة وصريحة من الله تعالى وارد أحيانا، وهذا وسيلة مهمة للاطمئنان القلبي، لأنه يعني الارتباط مع الله تعالى. وهناك حديث نبوي شريف يشير إلى حال نوع من إيمان الفرد يكون ذكر الله تعالى عنده في كل آن… يذكره أبدا… يحس به على الدوام بقلبه، ويراه على الدوام بروحه، ويشعر بقوته وقدرته، ويبحث عن رضاه على الدوام…. ففي أحد الأحاديث يورد رسول الله صلىوسلمر حالات خاصة كالتوضؤ في شروط صعبة، والذهاب إلى مساجد بعيدة بحيث يكثر عدد خطواته، وانتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد ويختم الحديث بقوله صلىوسلمة : “فذلكم الرباط… فذلكم الرباط… فذلكم الرباط”. والرباط هو المرابطة في الثغور. إذن فمعنى ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ هو أننا أيدنا قلوبهم بالرباط الإلهي. ومن الطبيعي أن من وصل إلى مثل هذا الرباط وهذا الاطمئنان يكون متبعا للحق شجاعا غير وجل.
مثل هؤلاء الناس المجهزين بمثل هذا الإيمان ﴿إذْ قَامُوا﴾ قاموا ليرفعوا صوت الحق ضد موات القلب وضد الانحراف عن المنطق. وقد وَجَدَ سارتر وكامو وماركوس مكاناً لهم في الأدب العالمي بأدب التمرد المعبّر عن الفلسفة الوجودية التي اعتنقوها. تمردوا على جميع عادات وأعراف المجتمع وجميع القيم الدينية والأسرية واصفين إياها بالعبث. ولكن تمرد أصحاب الكهف لم يكن من هذا النمط. لقد تمردوا ولكن بعد أن عيّنوا البديل ﴿رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾. أي لم يكن تمردهم عملية هدم وقطع للجذور كما فعل الوجوديون. بل عملية إنشاء وتعمير وعملية ربط مع رب السماوات والأرض الذي خلق كل شيء في السماوات والأرض وقدره فاحسن تقديره. أي كانوا رواد حملة تجديدية بديلة. ومن ثم ﴿لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً﴾. إذن:
1- لا نستطيع النظر إلى انفصالهم عن مجتمعهم ولجوئهم إلى الكهف كأنه عملية هروب. أجل… إن ابتعادهم وانفصالهم عن مجتمعهم لم يكن كابتعاد وانفصال الجبناء. بل يحتمل أن هجرتهم من مدينتهم كانت مثل هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما ذهب إلى الكعبة قبيل هجرته وقال للقوم: «من أراد أن يرمل امرأته وييتم أولاده فليتبعني».
أجل لقد كان فرارا، ولكنه فرار من النوع الذي ذكره القرآن الكريم ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ﴾ (الذاريات: 50)؛ أيْ فِرار إلى الله ولجوء إليه.
2- إن مثل هذا التمرد الذي أعقبه الابتعاد كان وسيلة لانعكاس جديد لأفكارهم ومبادئهم على مجتمعهم ضمن تفاسير مختلفة لاختلاف عامل الزمن. لقد أدت صيحتهم الشجاعة هذه إلى هز عقول الكثيرين في مجتمعهم وإلى تليين قلوب العديدين منهم. لقد تنوقلت أفكارهم ومبادؤهم وأنباء سلوكهم الشجاع من لسان إلى لسان ومن قلب إلى قلب حتى أحاطت بالمجتمع كله مثل بذور بذرت في التربة ثم نمت وترعرعت وأصبحت سنابل نضرة.
3- يروى أن أصحاب الكهف كانوا أناسا من منتسبي قصر الملك ولم يكن قيام أي إنسان منتسب إلى القصر بترك حياة السعادة والرفاهية والترف الذي يعيش فيه لينخرط في طريق مخالف للملك ولكل المجتمع… لم يكن مثل هذا التصرف شيئاً مشاهداً أو مألوفاً آنذاك. ولا شك أن هذا التصرف من أصحاب الكهف قد لفت إليهم الأنظار، وكان لقيامهم بتصرف غير مسبوق من قبل من أجل دين معين وفكر معين وتقبلهم بكل رحابة صدر تضحيات ما كانت تدور بخلد أحد منهم مما أحدثَ هزةً عنيفة في ذلك المجتمع، فحول الأنظار والانتباه إلى دعوتهم وإلى رسالتهم.
4- إن كان أصحاب الكهف قد قرروا الالتجاء إلى الكهف والبقاء فيه حتى يموت الملك ويزول ظلم الدولة وإرهابها ليرجعوا بعد ذلك إلى الناس من جديد والدعوة إلى دينهم الحق فإن مدة بقائهم في الكهف (أي مدة 309 سنوات “ثلاثمائة سنينَ وازدادوا تسعاً”) بمثابة عبادة لهم ينالون ثوابها بسبب نيتهم الصالحة وعمق هذه النية، لذا يعدون فائزين على أي حال من الأحوال. لأن الشخص المتعب الذي ينام على نية القيام لأداء صلاة العشاء بشكل أفضل وفي حالة راحة فإن نومه يعد له عبادة. لذا يجب النظر إلى قيام أصحاب الكهف بالاختفاء بأن نيتهم كانت الرجوع مرة أخرى إلى نشر دعوتهم بعد انكسار حدة الكفر. فلو كنت متعودا على الحياة المرفهة للقصر والنوم على الفرش الوثيرة الناعمة وتركت تلك الحياة وفضلت عليها النوم على الصخور الصلدة، وفضلت صحبة كلب على صحبة أناس عديدين رجالا ونساء يقفون لك تحية وتبجيلا… إن كنت هكذا أليس من الطبيعي أن تنتظر مثل هذا الثواب؟… بلى…. لذا فمن الطبيعي أن يهبهم الله تعالى جزاء مكافئ عمق نيتهم الصالحة.
5- والحقيقة أن الكهف هو مكان لإتمام عملية الشحن، وموضع لاكتشاف الإنسان لنفسه… لِم؟ ذلك لأن النضال ضد الكفر (ولا سيما في الأوقات التي لا يوجد هناك أي توازن بين قوة الكفر وقوة الإيمان) وهزه ثم الانتصار عليه لا يتم إلا بعزم يقارب عزم الأنبياء.
تأمل حياة الرسول صلىوسلمب : ألم يقض مدة ستة اشهر في تأمل وتحنث في مغارة لأجل استكمال الاستعداد اللازم لتلقي الوحي؟ ونجد أن من جاء من بعده صلىوسلمه ممن ساروا على نهجه لا بد وأن في حياتهم فترة غار أو كهف. أجل هناك فترة غار في حياة الإمام الغزالي والإمام السرهندي ومولانا خالد والأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي…. فترة شحن، وفترة رجوع إلى النفس… فترة انـزواء لتجميع الطاقة والقوة لمواجهة الإلحاد والكفاح ضده أما مقدار هذه الفترة فقد كان ستة اشهر عند رسولنا صلىوسلمح وخمس سنوات أو عشر سنوات عند الأولياء والأصفياء بل كان منهم من عاش حياة انـزواء مدة ستين سنة.
والحقيقة أن الشيء نفسه وارد بالنسبة للجماعات التي تقوم بحركات التجديد وبإعادة الإنسانية إلى رشدها وإلى خط سيرها الصحيح في الحقب التاريخية المختلفة.
أجل نحن نشاهد فترة الانـزواء الكهفي عند جميع من مثلوا روح الفتوة هذه… إن الإنسان لكي يكون مظهرا لبعض النعم الإلهية، والإلهامات السماوية فلا بد له من فترة كهفية.
وبعد هذا الذي عرضناه آنفاً في هذه المسألة لم يعد من الصواب إثارة تساؤلات أو الدخول في متاهات لم يشر إليها الكتاب أو السنة في هذه المسالة مثل تعيين موقع معين للكهف، أو تعيين أسماء الحكام الظالمين الذين ظلموا أصحاب الكهف وقومهم إنّ مثل هذا يُعَّد رجما بالغيب وفتات معلومات لا تكسب الروح والإيمان أي معرفة روحانية أو قلبية أو شوقية.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيِّئْ لَنا مِن أمرِنا رشَدا. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أبداً.
﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾(الْكَهْف:18)
كان أصحاب الكهف فتية أبطالا وضعوا أرواحهم في أكفهم من أجل تبليغ دينهم. وعندما يتناول القرآن الكريم موضوعهم بأسلوبه الخاص المتميز يعطي إشارات وإيماءات مختلفة لأصحاب الدعوات حتى يوم القيامة. أجل…. على الدعاة والمرشدين أن يُشحنوا في البداية شحنات روحية مثل أصحاب الكهف، وأن يمروا بمثل هذه المرحلة. وكما يمكن أن يتم هذا بقضاء فترة في الكهوف والمغارات، كذلك يمكن أن يتم على طريقة الصحابة رضوان الله عليهم، الذين مروا بفترة شحن وشحذ لقواهم الروحية في دار الأرقم. طبعا ليس من الشرط وجود تشابه حرفي في هذا الموضوع، لأن الحوادث التاريخية تجري في أنماط متشابهة ضمن إطار عام. لذا فالأشياء المهمة بالنسبة إليهم بمقياس كبير مهمة بالنسبة إلينا كذلك.. بعد الفهم الجيد للدعوة المراد نشرها وتبليغها وهضمها والقيام بـهذه الدعوة بكل تجرد وإخلاص.. بعد قضاء فترة اعتكاف وخلوة وتوجه إلى الله للوصول إلى المستوى الروحي المطلوب الذي يحقق لهم قدرة التمثل والتشرب بالدعوة وقدرة على تمثيلها.
وإذا أتينا إلى الآية نرى أن كلبهم قابع في مدخل الكهف يقوم بوظيفة حراستهم وحفظهم من الأخطار، ولكنه ليس واحدا منهم، والقرآن الكريم يشير إلى هذا الفرق الطبيعي بأسلوبه المتميز فيقول ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثَامِنُهُم كَلْبُهُم﴾ (الكهف: 22) أي عندما يذكر عددهم ومجموعهم يذكر الكلب على حدة. وعلاوة على هذا فانه عندما يتم إيضاح حال الكلب ووضعه وهو واقف للحراسة وقفة مهيبة تنخلع لها قلوب الآخرين، إلى درجة أنه لو اطّلع على حالهم أحد عن بعد لولى منهم فرارا من الرعب. وهذه لمسات من التصوير المعبر جدا.
1- والآن لنحاول إلقاء نظرة سريعة على النكت التي تلهمها هذه الآية الكريمة: سيكون هناك في كل عهد صناديد من أمثال أصحاب الكهف، وسيكون هناك من يلتحق بهم، وسيستمرون في السير معا ضمن إطار عام من الفكر والشعور وإن لم يكونوا على الخط نفسه في جميع التفاصيل.
2- يوجد على الدوام في كل عهد من يعيش حياة الكهف هذه، أو يجبرون على مثل هذا العيش. لذا عليهم إلا يهملوا حراسة أنفسهم، لأن من المحتمل -بعد مرحلة معينة- بدء الهجوم عليهم وعلى بيوتهم وعلى مؤسساتهم. لذا عليهم أن يتخذوا التدابير اللازمة، بل وضع الكلاب المدربة أمام بيوتهم.
3- يجب ألاّ تكون مثل هذه الكلاب كلابا عادية بل من النوع الذي يستطيع مجابـهة جميع الأخطار الآتية من الخارج ومواجهتها، وأن يكون وضعهم ومنظرهم كافيا لإلقاء الرعب في النفوس الشريرة.
إن الإنسان إنسان بمقياس تبنيه للقيم الإنسانية. وعندما يفقد هذه القيم يكون ﴿كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ﴾ (الأعراف: 179).
وهذ الموضوع وارد في آيات عديدة تعطي إيضاحا أكثر.
﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ﴾(الْكَهْف:19)
كنا قد شرحنا بطولة أصحاب الكهف عندما تناولنا شرح الآية الرابعة عشر من هذه السورة. أما هنا فسنتناول بطولتهم الثانية. وتتلخص في أن أحدهم عندما نـزل للتسوق من سوق المدينة جلب إليه الأنظار سواء بزيه أو بنوع دراهمه فقام أهل المدينة -وفي رواية قام الوالي- بتعقبه حتى عثروا على أصحاب الكهف في كهفهم. كان هذا مدعاة لزيادة إيمان الآلاف ومئات الآلاف من الذين تناقلوا روايتهم أبا عن جد أو قرأوها في الكتب، فانقلب هذا الإيمان من علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين، أو إلى ما بعده، وهزت هذه الحادثة ذلك المجتمع هزا عنيفا، وبدأ الناس يتسابقون نحو الدين. وهكذا كان القدر الإلهي يهيئ لهؤلاء الأبطال مهمة ثانية في الدعوة. وبينما كانوا يتركون هذه الحياة الدنيا كانوا قد رفعوا الآلاف من الناس إلى أفق دعوتهم وفكرهم.
والشيء الثاني الذي يجلب النظر في هذه الآية الكريمة هو المال والنقود. فمهما كانت النتيجة فإن النقود -أي مال الدنيا وزينتها- هي التي كشفت عنهم وعن مكانهم. لأن أهل المدينة عرفوا (يمليحا) -إن كان هو المشتري- من نقوده. أما كون النتيجة إيجابية فلطف الهي. ولكن النقود هي التي دلت عليهم. إذن فرجل الفكر والدعوة إن كان لا يرغب في التعرض للقبض عليه من قبل الأعداء أو من قبل الأصدقاء أو من قبل مجتمعه فيجب عليه ألا يبتعد عن حب الربح والكسب فقط، بل عن أي ضعف دنيوي في هذا المجال. فكم شهد الماضي من رجال ومن سلاطين كبار اصبحوا أسرى للمال الغدار. وكم من مرة أُسْتُغِلَّ هذا الضعف الموجود في فطرة الإنسان فمحيت مجتمعات وذلت أمم. ولكن مع هذا فإن انتشار الدين في العالم معتمد الآن على النقود، أي على الرأسمال أيضا وعلى قوة تمويل المشاريع الدعوية. ويرجى ملاحظة أن أصحاب الكهف عندما خرجوا إلى الخارج ببضعة دراهم حدث انفجار ديني ثان في ذلك المجتمع لذا فهذا جانب مهم في هذا الموضوع، أي يجب ألاّ يهمل موضوع التمويل المادي، ولكن بشرط أن تكون النصوص الإسلامية من آيات وأحاديث وتصرفات الرسول صلىوسلما قدوة ونبراسا لنا. أجل يجب أن يكسب المسلم ويكون غنيا، لكن على شرط ألا يستولي حب المال على قلبه. بل يضع ذلك المال في مكان “حرز”بتعبير الفقهاء بعيد عن يد اللصوص ثم يصرفه في وجوه منافع الأمة. فلولا هذا التمويل هل كان يمكن تحقيق هذه المشاريع الكبيرة؟… إذن فالقوة المادية كان لها دور كبير في نشر الدين الإسلامي المبين. لذا فمن هذه الزاوية فكل جهد يبذل في سبيل الحصول على المال يعد عبادة… يعد عبادة إن تم صرف هذا المال الذي جمع بكل مشقة مادية أو فكرية، في سبيل الدعوة السامية وليس في سبيل الأهواء والشهوات.
﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾(الْكَهْف:24)
إذا كان السبيل المراد للهداية إليه هو سريان الدين ونفوذه إلى قلب الإنسان وروحه وقبول وجدان الإنسان له بكل معطياته.. إذا كان هذا هو السبيل المشار إليه فقد تحقق هذا في اليهودية والمسيحية والإسلام في عهود مختلفة، فمثلا وصل اليهود خلال سنوات التيه أي خلال أربعين سنة إلى هذا المستوى الروحي. أما المسيحية التي لاقت الاضطهاد طوال عصور ثلاثة فقد قُبلت كذلك وانتشرت. أما إن جئنا إلى الإسلام فنحن نرى أنه تُقُبِّل قبولاً حسناً في مدة أقل هي مدة ثلاث وعشرين سنة، أي كان -كما جاء في الآية- أقرب من هذا رشدا. ولعل هذه الآية تشير إلى هذا من باب الإخبار الغيـبيّ. أما الأمر الوارد في هذه الآية ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ فهو لتنبيه الذين ينسون ذكر “إن شاء الله”، أو الذين ينسون التأمل في آيات الله ويغفلون عن ذكره ويذكرهم بآية ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ (البقرة: 286) ليعودوا إليه ويرجعوا عن غفلتهم ويستيقظوا منها، ويلتجئوا اليه، ويقول له بأن كفارة النسيان والغفلة هي ذكر الله تعالى.
وهكذا وبمثل هذا الذكر لله والوصول إلى المستوى الرفيع لأصحاب الكهف المشحونين بذكر الله يظهر -بلطف من الله تعالى- اقصر طريق للوصول إلى وجدان المجتمع، ويدخل النجاح ضمن دائرة الصلاح. وهذا ما تشير إليه خاتمة هذه الآية.
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾(الْكَهْف:28)
كان مشركو قريش قد طلبوا من الرسول صلىوسلمج أن يطرد الفقراء من أصحابه عن مجلسه وأن يجعل لهم ميزة وأولوية في الحضور. وكان من الممكن إن أخذنا خصائص البنية الاجتماعية آنذاك بنظر الاعتبار التفكير بأن تحقيق هذا الطلب سيؤدي إلى هداية هؤلاء وإلى إسلام العديدين اتِّبَاعاً لهم. ولكن الوحي السماوي نـزل على الرسول صلىوسلمق (الذي لم يكن وصل إلى قرار في هذا الموضوع) ليعاونه ويساعده في اتخاذ القرار الصحيح، وليؤكد مرة أخرى بأن استحصال رضا الله تعالى هو الأساس، وأن الكثرة والكمية لا أهمية لها، وأن الذين ساقوا الشروط له لحضور مجلسه غافلون ولا يبتغون سوى الدنيا وأهوائها. ونحن نعلم أن الإسلام يستطيع أن يقف على قدميه دون أن يستند إلى عكّازة أي نظام أو شخص، ولن يكسب شهرة أو مجدا باتباعه هذا الشخص الغني أو ذاك أو هذه الطبقة الأرستقراطية أو تلك. انه يكتفي بالديناميكية الذاتية التي يملكها، لقد وجد بها وسيوجد دائما بها، لأنه يأخذ قوته التي لا تقهر من الله تعالى. لذا كان من استمسك به عزيزا، ومن هجره ذليلا. وفي التاريخ الإسلامي شواهد عديدة على هذا.
كانت قريش هي صاحبة هذا الطلب بدافع الغرور والكبرياء والأنانية والظلم. أما أصحاب الرسول صلىوسلمم الذين كان من المفروض أن يستبعدوا عن مجلسه ويحرموا منه فهم صهيب وبلال وعمّار وياسر رضوان الله عليهم وكانوا من فقراء المسلمين. وكانت قريش تذكر بأنـها لن تحضر مجلس الرسول صلىوسلمر إلا إذا طرد هؤلاء من مجلسه وحرم عليهم حضوره… ما أسخفه من شرط، وما أسخفه من طلب!!
النظر بازدراء إلى المسلمين الفقراء يمتد ويرجع حتى إلى عهد النبي نوح عليه السلام فقد وصفوا بأنـهم “أراذل”وطلبوا من النبي نوح عليه السلام إبعادهم عنه، ولكنه أجابهم ﴿وَمَا أنَا بِطَارِد الْمُؤْمِنِين﴾ (الشعراء: 114). لذا فلم يكن من المتوقع أن يقوم فخر الكائنات محمد صلىوسلمْ بتصرف مخالف، بل قال معبراً عن حبه لهم: “المحيا محياكم والممات مماتكم”. قال هذا حتى التِحاقه بالرفيق الأعلى.
﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾(الْكَهْف:50)
استند بعضهم إلى عبارة “ذريته”فقالوا إن للشيطان زوجة وأولاداً. لذا أرى من المفيد ذكر موضوعين صغيرين:
1- حتى لو كان للشيطان زوجة وأولاد فهذا متعلق بعالم آخر مختلف تمام الاختلاف عن عالمنا. فكما نرى أنفسنا في المنام ونحن نأكل أو نشرب أو نمرض أو نتزوج، ويحصل هذا في عالم المنام والأحلام وهو عالم آخر. لذا يجب فهم ذرية الشيطان على ضوء هذا المنطق. ألا يذكر الرسول صلىوسلمل بأن العظام رزق الجن؟ حين يقول: “لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن”هذا مثال على وجود عالم آخر ذي أبعاد مختلفة عن عالمنا.
2- ليس من الضروري حمل كلمة “الذرية”على معناها الحقيقي والحرفي. فكما يمكن أن يكون معناها الذرية حسب معناها الذي نعرفه، كذلك يمكن أن تأتي بمعنى نسل وذرية الإنس. وهناك أحاديث نبوية وحقائق اجتماعية وتاريخية تسند هذا المعنى. فمثلاً عندما يقوم الرسول صلىوسلمر بتوجيه الأزواج إلى دعاء معين في أثناء الجماع، يقول بأن الطفل المولود منه سيكون في حرز من الشيطان. ومن المحتمل أن المسلمين في عهد من العهود عندما كانوا يقرأون هذا الدعاء جاء نسل طاهر خدم الإسلام والمسلمين والقرآن. ثم عندما غفلوا عنه أو عندما ابتعدوا عن الإسلام وعن الحياة الإسلامية نشأ جيل شيطاني، أو بالتعبير الشعبي الشائع نشأ جيل يستطيع خداع الشيطان نفسه.
لذا نرى حمل عبارة “ذرية الشيطان”على المعنى المجازي لأنه من الممكن أن نفهم هذا المعنى على أساس أن الإنسان مع كونه إنساناً إلا أنه يستطيع أن يفكر تفكير الشيطان ويتصرف تصرف الشيطان، والقرآن الكريم يشير إلى هؤلاء بأنـهم ﴿كَانُوا إخْوانَ الشّيَاطِين﴾ (الإسراء: 27) .
﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾(الْكَهْف:85)
أعطيت لذي القرنين القوة الممكّنة المنفّذة وكذلك القوة الميسّرة. فقد وهبت له القوة التي تمكنه من تجاوز جميع العقبات والقوى التي تظهر أمامه بكل سهولة.
ونفهم من الآيات التي تتحدث عنه انه كان يمثل الإسلام أمام التوازن العالمي، وانه كان يتوجه بجيشه إلى المناطق التي تسود فيها الاضطرابات والقلاقل والفساد، وانه كان يضع السدود أمام الفساد في تلك المناطق القلقة ويؤمن التوازن والسلام. أي كان ممن ورث الأرض، وكان عنصر توازن بين الدول. لذا جهّزه الله تعالى بكل الأدوات والأسباب التي تمكنه من أداء هذه المهمة وآية ﴿وآتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَيّ سَبَباً﴾ (الكهف: 84) تؤيد هذا المعنى.
وقد أدرك ذو القرنين حكمة إعطائه هذه القدرة وهذه الإمكانية الكبيرة فاستعملها حتى مداها الأخير في تحقيق الرضا الإلهي وفي سبيل تحقيق التوازن في الأرض فكان رجل فكر ومبدأ استعمل ما سخر له في هذا السبيل.
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾(الْكَهْف:90)
عندما توجه ذو القرنين رضي الله عنه من الغرب إلى الشرق وصل إلى أفريقيا كما هو ظاهر من وصف القوم الذين رآهم هناك، فهؤلاء لم يكونوا يملكون مساكن ولا يعرفون ستر أجسادهم ويتجولون عرايا، أي كانوا بعيدين عن جميع مظاهر المدنية.
ويمكن استنباط المعاني الآتية أيضاً من هذه الآيات وهي أن ذا القرنين عند سياحته نحو الشرق وصل إلى موضع لا يوجد فيه أي حائل أمام أشعة الشمس من تل أو جبل أو شجر، أي كانوا يجابـهون الشمس وحرارتها منذ طلوعها حتى غروبـها… أو لم يكونوا يملكون الملابس التي تقيهم أشعة الشمس وحرارتـها. ولا تزال هناك أقوام في خط الاستواء أو في الأماكن الحارة من الصحارى يتجولون شبه عرايا أو عرايا. أي لم يكونوا يملكون لا سترا طبيعيا، ولا مساكن وأبنية ولا ملابس كافية بالمعنى المعروف، بل كانوا أقواما بدائيين.
﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾(الْكَهْف:94)
قد يكون هذا السد سد الصين أو سد “دَمِير قَابِي”في قفقاسيا أو سداً في مكان آخر. ولكن بعد ورود تعريف هذا السد في الآيات القادمة يصبح من الصعب الكلام عن سد معين. وحتى لو كان موجودا فإن تعيين مكانه يحتاج إلى بحث دقيق. لذا يجب توجيه الأنظار إلى القوم الموجودين وراء السد اكثر من توجيه الاهتمام إلى السد نفسه. فالظاهر أن هؤلاء القوم سيبقون في خير وعافية ما داموا متعلقين بقيمهم المعنوية ويستطيعون منع مفاسد يأجوج ومأجوج وفتنهم في الأقل يستطيعون تحييد تلك الأضرار.
ونحن نرى بأن علينا البحث عن أحكام كلية في قصة ذي القرنين. مثل شروط بقاء الدولة ودوامها وشروط رئيس الدولة… الخ، وبعكس هذا فإننا نكون قد قمنا فقط برواية حادثة من ثنايا تاريخ بعيد، وهذا يعني أننا نستطيع الاستفادة من القرآن استفادة كبيرة، أو أن هذه الاستفادة ستكون ضئيلة جداً.
وشيء آخر نود الإشارة إليه وهو قيام ذي القرنين -الذي كان يمثل العدالة والاستقامة في الأرض- بمساعدة العاجزين والمسحوقين. ويجوز أن هؤلاء المظلومين والعاجزين كانوا أتراكاً أو أمة مظلومة أخرى. وكان الظالمون والمفسدون هم قوم يأجوج ومأجوج. ولم يتردد ذو القرنين من الوقوف أمام هؤلاء المفسدين الطغاة أعداء الدين والعرض والملة. وسيتكرر التاريخ في هذا الخصوص وسيقوم مَنْ يرثون الأرض بإيقاف أمثال هؤلاء عند حدهم في كل عهد ﴿حَتّى إذَا فُتِحَتْ يَأجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلّ حَدْبٍ يَنْسِلُون﴾ (الأنبياء: 96). أي أن ذلك السد القوي المتين سينهار وسيقوم المفسدون الظالمون من ذرية هذا القوم الظالم بالانتشار في جميع السهول والبراري والبلدان.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾(الْكَهْف:110)
أي لا يوجد فرق بيننا من ناحية الخلق ومن زاوية النسبة إلى المعبود، وبتعبير آخر إلى الذات الإلهية من ناحية قربه وحكمه علينا، ومن زاوية بعدنا عنه وعبوديتنا له.
أجل!… ليس هناك موجود آخر غير الله سبحانه وتعالى لـه من العلو والاستغناء بحيث ندين له بالعبودية، ولا يوجد أي مخلوق من الصغار والمهانة بحيث يقوم بالانحناء والتذلل أمام أي موجود آخر غير الله وبالتعبير الدقيق لبديع الزمان النورسي: “يتساوى ما سـواه تعالى في البعد عن “المعبودية”وفي نسبة المخلوقية”.
وهذه الآية رد وجواب في الوقت نفسه على الغلو الذي حدث لأنبياء كرام مثل عيسى وعزير عليهما السلام حيث تم رفعهما إلى مقام الألوهية. ولا شك أن من الطبيعي أن يكون لإنسان -ولاسيما إن كان نبياً كريماً- قرب من الله تعالى ولكن هذا القرب لا يكون مبررا ولا مسوغا لرفع أي إنسان إلى مقام الألوهية. ومن أجل التنبيه على هذا الأمر الدقيق يقول الرسول صلىوسلمن -على الرغم من كمالاته العديدة- “إنني بشر مثلكم”. ولكن هناك فارق واحد بيني وبينكم وهو انه “يوحى إلي”ولكن إلهكم اله واحد. أي تم التأكيد على المساواة في العبودية أمام المعبود الواحد ضمن هذه الفروق. وهكذا نرى أن هذه الآية بجانب الرد على من قام بتأليه عيسى وعزير عليهما السلام فإنـها تنبه المسلمين إلى الوضع الحقيقي لرسولنا الكريم صلىوسلمن .