﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾(الْحِجْر:24)
بينما يشير علم المستقدمين والمستأخرين إلى القدر الإلهي، يشير من ناحية أخرى إلى التوحيد أيضا. ذلك لأن مَن خلَق الماضي هو الذي يخلق -أو سيخلق- المستقبل. ثم قد يتبادر إلى الذهن الملاحظات الآتية في صدد علم المستقدمين والمستأخرين:
نحن نعلم المستقدمين من الآتين إلى هذه الدنيا مثلا الآتين في زمن آدم عليه السلام، ونعلم الآتين من بعده.
ونعلم المستقدمين منكم من زاوية الدخول في الإسلام والمستأخرين منكم.
ونعلم المتقدمين منكم في صفوف الصلاة والمتأخرين.
ونعلم أوائل حياتكم وأواخرها، أي ذرات أجسادكم وجزيئاتها وأحوالكم الحالية، ثم كيف تتحولون في القبر إلى عظام نخرة.
وإذا عبرنا عن هذا بتعبير أشمل وأوسع نقول: اننـا نعلم أصحاب الصفوف المتقدمة في الإيمان والإسـلام والإحسان وأصحاب الصفوف المتأخرة والمتعثرين في هذه الأمور. وهناك من دخل في تفصيل وفروع هذا الأمر حتى وصل إلى القول بالمبكرين في القدوم إلى الجامع -أي اصحاب الصفوف الأولى في الصلاة- والمتأخرين في القدوم إليه من أصحاب الصفوف المتأخرة.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾(الْحِجْر:26)
تعفن الطين الذي خلق منه الإنسان قد يكون بسبب البكتريات الموجودة فيه كانت البداية طينا لزجا متعفناً، ثم تقلب من حال إلى حال ومن شكل إلى شكل بمرور الزمن حتى تحول من “حمأ مسنون”إلى فخار مطبوخ يرن إذا نقرت عليه، أي تحول إلى “صلصال”وقد يكون العكس صحيحاً أيضاً ولكن النتيجة لا تتغير كثيراً. فمن جهة هناك طين معرض للتبدل وللتغير نتيجة وجود أحياء مجهرية فيه، أي كأنه خليط بروتيني ومن جهة أخرى طين جاف يابس لا توجد فيه أي أحياء مجهرية. وحتى توجه العلم الإلهي وقدرته وإرادته لتفريغ هذا الطين في قالب وإعطائه صورة إنسانية وتوجيه نفخة إلهية إليه كمعجزة خلق لكي يكون هذا الإنسان محوراً للأسماء وللصفات الإلهية… حتى ذلك الحين بقي الإنسان في برزخ بين الماء والطين بعيداً عن الحياة.
ثم صار هذا الطين إنسانا… إنساناً لا يستطيع أفراد منه أن يتجاوزوا الملائكة، ولكنه إلى جانب هذا حمل معه قابلية التعفن حتى اليوم، وإمكانية الخلوّ من أي خير. ومع أنه يحمل إمكانية الخير بنسبة علاقته بالصفات وبالأسماء الحسنى الإلهية، فإنه في الأدوار التي يخلو من هذه الصفات، يعكس جميع خصائص نشأته الأولى من حمأ مسنون.
أجل إن الإنسان إن لم يسع لتحقيق الهدف المنشود من خلقه، ولم يبذل جهده في هذا السبيل لكي يعلو إلى أعلى عليين ولم يظهر هذه القابلية فإنه لن يستطيع التخلص من العفونة ومن التعفن أبداً.