﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾(الْمَائِدَة:18)
الأمر الذي تقوم هذه الآية الكريمة بتوضيحه يتجلى في حياتنا بالشكل الآتي: عندما نقوم بتقييم تمرد الآخرين وعصيانـهم، لا نقوم بـهذا التقييم بعد وضع أنفسنا في داخل إطار هذه المسألة، ولا نحاسبها بنفس المقاييس التي نحاسب بـها الآخرين. فمثلاً عندما نقول بحق شخص اقترف سيئة ما: “لماذا لا يعاقبه الله ويخسف به الأرض؟”فإننا في الوقت نفسه نأمل ونتوقع أن يصفح الله عن ذنوبنا بسبب قيامنا بعمل حسنة صغيرة. بينما كان من المفروض من ناحية أسلوب وطراز التفكير أن نشرك أنفسنا من ناحية السيئات في ذلك الصنف، أو أن نتوقع -من ناحية الحسنات- وجود احتمال الصفح عنهم لوجود حسنات لهم. أما التقدم خطوة أخرى في هذا الأمر فهو تصغير ذنوبهم لكي تكون بحجم بندقة واحدة وإن كانت في الحقيقة بضخامة الجبال، والقيام بعكس هذا بالنسبة لأنفسنا.
إذا تفحصنا مزاعم أهل الكتاب الواردة في الآية الكريمة أعلاه بـهذا المقياس نرى مدى قبحها وبشاعتها لدى الله ولدى الناس أيضاً. فهناك بعضهم يقومون ليدعوا بأنـهم مختلفون عن الناس ولا يشبهونـهم، وأنـهم أحباء الله ويرون هذا سبباً في الفخر والمباهاة، ولا يترددون في التصرف دون أي مبالاة أو توقير تجاه الله تعالى، والنظر إلى الآخرين نظرة احتقار واستهانة نابعة من قبولهم لزعمهم الذي يفتح الباب أمام جميع السلبيات الأخرى وهو: “لما كنا قريبين من الله بـهذه الدرجة، إذن فسيغفر لنا –حاشاه- كل ما سـنفعله”. كان عزيـر عليه السلام حسب زعمهم ابن الله وكذلك المسيح عليه السلام بالنسبة لقوم آخرين، وكان المنتسبون لهؤلاء الأنبياء يرون أنفسهم أيضاً أبناء الله وإن كان بشكل مجازي لذا كانوا يقولون “لا خوف علينا ولا قلق، لأن الله سيصون أبناءه وأحباءه، ولا مجال هناك لأي تـهديد أو وعيد في حقهم. ليكن الخوف والقلق من نصيب من لم يكن لـه نصيب من هذا الشرف، فالعذاب لهم والعقاب من نصيبهم”. ومع أن هذا غير موجود في كتبهم، إلا أنـهم كانوا يجيبون بـهذا الجواب كلما تم تـهديدهم بآيـات العذاب، وكانوا يعتقدون بأنـهم ينتصرون في نقاشهم الذي يجرونه مع صاحب الرسـالة صلىوسلمل ومع صحابته، ويتخيلون بأنـهم سيصلون إلى شيء بـهذا الكلام وبـهذا النقاش.
صحيح أن تعبير “ابن الله”وارد في بعض الكتب السابقة. وكما يمكن أن يكون هذا خطأ في الترجمة، أو أنه تعبير مجازي حول شفقة الله ورحمته بـهم كرحمة الأب. وليس من النادر استعمال كلمة “الأب”في كتب الأديان السماوية بمعنى “الرؤوف”و “الرحيم”.
وأمام استعمال مثل هذه التعابير سواء بالمعنى الحقيقي أو المجازي في مقام النقاش جاء الجواب المسكت لهم بـأن “لو كنتم أبناء الله وأحباءه كما تزعمون فلم يعذبكم بذنوبكم، ولم تتعرضون للمذابح وللأسر في كل مكان ولا يقومون على الخلاص مما أنتم فيه؟”
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(الْمَائِدَة:54)
تحتوي هذه الآية في الحقيقة على أشياء مهمة جدا، على رأسها التنبيه بإمكانية وقوع الارتداد بين المؤمنين، وأنه قد يعجز بعض من يمثلون الإسلام في المستقبل في إبداء الاهتمام والحساسية التي يقتضيها حمل هذه الأمانة. لذا عندما عجز الأمويون عن حمل هذه الأمانة -التي تصدوا لحملها زمناً- وضعفوا عنها انتقلت الأمانة إلى العباسيين، ثم إلى السلجوقيين ومنهم إلى العثمانيين. والقوم الذي سيأتي بـهم الله أتى بصيغة النكرة “قوم”، أي بقوم لم يكن الصحابة يعرفونه في وقت نـزول الآية.
ونرى أن الآية ﴿فَسَوفَ يَأْتِي اللهُ بِقَومٍ﴾ قد اسـتعملت صيغة المستقبل البعيد “سوف”، وأن الصفة الأولى من صفات هؤلاء القوم الذين بشر الله بمجيئهم في المسـتقبل البعيد هي أن الله تعالى يحبهم. وهنا توجد نكتة دقيقة.فالحب الموجود بين العبد وبين الله كما يمكن أن يكون بالتوجه من العبد إلى الله وفي مقابله يأتي الحب من الله نحو العبد، وهـذا من صفات المريد، كذلك يمكن أن يكون من الله نحو العبد وفي مقابله يتوجه الحب من العبد لله. ويمكن أن يطلق على هـذا صفة المراد. أجل! يختار الله بنفسه بعضهم لإعزاز دينه وكذلك لإعزاز هؤلاء بدينه. واختيار الأنبياء هو من هذا النوع من الاختيار. وكما جاء في حديث نبوي رواه عبد الله ابن مسعود فـإن أصحاب الأنبياء أيضا يُختارون من قبـل الله لإعزاز دينه وخدمته. نستطيع توضيح ذلك فنقول إن الله تعالى يقول: “إنني سأختار محمداً صلىوسلمب -مثلاً- وأصحابه لإنجاز هذا العمل”. وكما جـاء في آخر الآية فهذا هو ﴿فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. وتقول آية أخرى بأنه لا يحق لأحد الاعتراض على ما قسمه الله.
وكما اختار الله تعالى رسولنا وأصحابه في وقت مهم سيقوم باختيار قوم آخرين لإعزاز دينه في هذا الزمن الـذي تركت فيـه خدمة هذا الدين وحوصرت قلاع الإسلام من جميع جهاتها. صحيح إن هذا الاختيار ربما تم في معنى من المعاني في عالم الأرواح. وعلى أي حال فإن الله تعالى سيعلي كلمة هذا الدين مرة أخرى بواسطة أناس وقوم يحبهم ويحبونه. لذا كانت أوصاف هذا القوم مهمة. ودوام الآية يبين أهمية هذا الموضوع.
هذا القوم جماعة نـزيهة وطاهرة إلى درجة أنه في مقابل أن الله تعالى عندما أحبهم واختارهم كجماعة، فهم يحبون الله تعالى من أعماق قلوبـهم، وتصف آية أخرى هذا الحب فتقول بأنـهم لن يكونوا في صف أعداء الله حتى وإن كان هؤلاء الأعداء آباءهم أو أجدادهم أو إخوانـهم أو أبناءهم أو عشيرتهم. فحبهم معقود لله تعالى وحده: يحبون لله ويبغضون لله، يعطون لله ويأخذون لله. ولا يشغل قلوبـهم ولا معاملاتهم شيء سوى حب الله، فلا شيء هناك يتقدم على هذا الحب، أو يحل محله. هذه هي الصفة الأولى والصفة الأهم في الجماعة التي ستأتي عندما يحين موعد قدومها والتي هي على اثر مدرسة الصحابة الكرام، أي صفة حب الله تعالى وابتغاء مرضاته على الدوام، وترجيح هذا الحب وهذا الرضا على ما عداهما.
والصفة الثانية لهم هي أنهم أذلة على المؤمنين، ومتواضعون مع جميع المؤمنين غاية التواضع. واسـتنادا إلى نظرة الأستاذ النورسي الذي يقول: “الإكراه مع البدو والإقنـاع مع الحضر ومع المدنيين”نستطيع تقديم تقييم آخر فنقول:
كانت جبهة الأعداء في وقت الصحابة متكونة من البـدو، لذا كانت الغلبة عليهم تقتضي نوعا من استعمال القوة ضدهم. كما كان الانشقاق قد بدأ بالظهور بين أفراد العائلة الواحدة نتيجة لظهور الإسـلام والإيمان. وكانت “العصبية الجاهلية”أي الرابطة القومية والقبلية عنصرا مهما من عناصر ربط المجتمع وتوحيده. لذا كان استعمال الشدة مع تلك الظروف ضد الكفر والإلحاد ضروريا ومهما. لذا يجوز أن هذا هو الحكمة من وضع القدر الإلهي كإشارة وكرمز أبا بكر رضي الله عنه -المعروف برقته- في المقام الأول ويضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه -المعروف بشدته ضد الكفار- في المقام الثاني.
ولكن العالم الآن قد تمدن وتحضر في معظمه، لذا فالغلبة الآن تتم عن طريق الإقناع وعن طريق العلم وعن طريق المحاورة والكلام أكثر مما تتم عن طريق القوة والعنف. وفي مقابل هذا فقد نمت الفردية بين الناس وضعفت العلاقات الرابطة بينهم. وبما أنه أصبح الدور الآن هو دور الجماعة والشعور الجماعي أكثر من دور الأشخاص والأفراد المتميزين والفريدين، فإن المطلوب ليس التصرف برحمة وشفقة نحو المؤمنين بل بأسلوب أكثر لينا وتواضعا، أي أذلة على المؤمنين،لا يقابل الشتم منهم إلا بالسكوت ولا يقابل عدوانهم إلا بالصبر، أي يضع رأسه تحت أقدام المؤمنين. ودرجة الرحمة المطلوب تأسيسها بين المؤمنين أعلى بكثير من درجة الشدة المطلوبة نحو الكافرين والملحدين. علماً بأن أول شرط في تأسيس الوفاق في هذه الخدمة المدنية بعد حب الله وابتغاء رضاه هـو تأسيس جو هذا التذلل بين المؤمنين. أي حال التواضع الشديد. ومهما بذلنا من جهد في هذا السبيل فلن يغلى على هذا الهدف. ونستطيع أن ننظر إلى نصيحة الأستاذ النورسي بضرورة قراءة رسالة الأخوة والإخلاص كل أسبوعين مرة في الأقل من هذه الزاوية. ويحتمل أن أكبر امتحان لنا سيكون في موضوع علاقات الأخوة الموجودة فيما بيننا.
ثم تقول الآية بأن المؤمنين يكونون ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ وهذا حسبما نفهم شيء أقل من الشدة. وكما قلنا أعلاه فإن مقابلة الأفكار المعادية في عصرنا الحالي والتغلب عليها يكون في الأكثر عن طريق الحوار والإقناع وليس عن طريق استعمال الشدة، لذا يكون حملنا لعزة الإسلام وكرامته كافيا تجاههم. وفي دوام الآية نجد أن صفة ﴿يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ﴾ مرتبطة بهذه الملاحظة. وكما نعلم جميعا فقد جاء وقت استهين فيه بالمؤمنين، وأصبح قول “إنني مسلم”سببا للاستهانة والتحقير. لذا رجحنا في طريق خدمتنا الإيمانية عدم الالتفات للجاه أو المنصب أو البزات الرسمية أو العناوين والرتب، بل اعتبرنا الإسلام السبب الوحيد للعزة، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. لذا يجب ألا نشعر أمام الملحدين وغير المؤمنين بشعور النقص، على العكس من هذا يجب أن نحس تجاههم في أعماق نفوسنا بعزة الإسلام، وبهذا الشعور نقوم بوظيفتنا في الإرشاد في البيت والمدرسة وفي السوق والشارع، وفي أي مكان نوجد فيه، وأن نمثل ديننا في عملية الإرشاد دون أن نخشى لومة لائم. وعندما يعدد القرآن صفات هذه الجماعة يقوم بالإشارة إلى بعض الحوادث الجارية في زماننا بشكل إعجازي… أجل! لو تم تناول هذه الآية من هذه النقطة فقط لرأينا أنـها مفتوحة لمعانٍ كثيرة.
وهناك جهة إخبار غيبي في هذه الآية مما يشكل موضوعاً مستقلاً بنفسه. ومهما كانت الحادثة التي نـزلت بسببها هذه الآية، فإن حكمها حكم عام مثل العديد من الآيات الأخرى. فقد أُريد من هذه الآية لفت نظر المؤمنين إلى أمر في غاية الخطورة وبأسلوب مؤثر يهز النفوس. وهذا الموضوع الذي تم تنبيه المؤمنين إليه بجانب كونه موضوعاً كبيراً ومتشعباً فإنه منتشر في كل زمان وعهد بمقياس واسع يكفي لهز أنفس المسلمين. وهو منتشر إلى درجة أن الارتداد الذي بدأه بنو مدلج بزعامة أسود العنسي، ثم بنو حنيفة بزعامة مسيلمة الكذاب وطليحة ابن خويلد الذي أشعل نار الفتنة والانحراف بين بني أسد والقبائل التي ارتدت في عهد أبي بكر رضي الله عنه وكان منها فزارة وغطفان وبنو سليم وبنو يربع وقسم من بني تميم، وكندة، وبنو بكر وغسان… كل هذه القبائل أخذت نصيبها من هذا الارتداد. حتى إن الأمويين والعباسيين والعثمانيين ومن جاءوا من بعدهم أخذوا نصيبهم من هذا الأمر، وإن كان بشكل نسبي واضافي، وذاقوا مرارته.
لذا فهذه الآية تقول لكل من يترأس الأمة الإسلامية:
أيها المؤمنون! من يرتد تماما أو جزئياً عن هذا الدين فليعلم بأن الله سوف يقوم باستبداله بقوم آخرين لا يعلم أحد زمانهم وفي أي عهد، ولا يعلم أحد مكانهم ومن أين يأتون، ولكنهم قوم نجباء لهم صفات معروفة، يحبهم الله ويحبونه، وهم متواضعون وأذلة للمؤمنين، وأعزة على الكفار وعلى الملحدين المعتدين وثابتون على الإيمان ويشكلون عنصراً مهماً في التوازن الدولي. هدفهم رضاء الله ووظيفتهم إعلاء كلمة الله، فهم مجاهدون على الدوام في سبيل الله، لا يهمهم سخط الناس ولا لومهم بل يهتمون فقط بأداء مهمتهم على أحسن وجه. وهذا فضل من الله تعالى يختص به من يشاء.
ويستفاد من هذا التوجيه العام بأن وقائع الارتداد عن الدين لن تبقى منحصرة في الأمثلة التاريخية السابقة بل ستتكرر على مدار التاريخ في جميع الأقوام التي تأخذ مكانها في التاريخ، وأنـهم سوف يُستبدلون بقوم يحبهم الله ويحبونه.
﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾(الْمَائِدَة:97)
يمكن تقييم هذه الآية من وجوه عديدة:
1- الكعبة في موضع القلب من هذه الأرض. وهي عمود نور يطوف حوله الإنس والجن من مركز الأرض حتى سدرة المنتهى. وفي كل آن وحين يشتاق للوصول إلى حرمها البلايين من الأرواح الطاهرة المرئية وغير المرئية. لذا يمكن القول من هذه الزاوية فقط بأن الكعبة مسقط سدرة المنتهى على الأرض. فكأن الله تعالى جعلها شارة تشير إلى الهدف مثلما تشير الضفيرة والشعيرة في البندقية لذا نستطيع أن نقول بكل اطمئنان بأن وضع الكعبة كوضع وحدة مقياس، وأن وجود العديد من الأشياء ومنها الدنيا مبرمجة حسبها… أجل! فإن لم تكن الكعبة موجودة فقدت هذه الأشياء معانيها، لذا نرى في أحاديث نبوية عديدة بأن هدم الكعبة علامة من علامات القيامة. ومعنى هذا هو: “إن انهدام الكعبة يعني انقطاع آصرة الأرض مع السماء. ولا معنى لوجود دنيا لا ترتبط بالسماء. وما دامت الدنيا قد فقدت المقياس الذي يوصلها إلى هدف وجودها، إذن كان لزاماً عليها أن تنمسح من مسرح الحياة. إذن فالكعبة بهويتها هذه هي الركن والمستند الوحيد لبقاء الدنيا وهي تؤدي بجانبها الملكوتي هذا مهمتها ووظيفتها هذه. أي لو فقدت الكعبة غاية وجودها في يوم من الأيام عادت ورجعت إلى أصلها. وأود هنا تقديم مشاهدة تؤيد هذه الحقيقة، وتعود هذه المشاهدة إلى قطب من مريدي الإمام الربـاني فنراه يقول: “كنت أطوف بالكعبة، وفجأة شاهدتها وهي تتعالى نحو السـماء… كانت تتعالى من جهة ومن جهة أخرى تشكو من عدم قيام الناس بوظيفة العبودية الحقة… أمسكت بطرف ستارها وتوسلت إليها أن ترجع”فهل رجعت بروحها وسرها وهل بقيت في مكانها أم لا؟ يصعب الإجابـة على هذا السـؤال دون وجود مشاهد من ذلك النمط والمستوى.
ولا أظن أن الوضع الحالي يختلف عن ذلك. ولكننا نأمل في اللطف الإلهي الواسع. ومن يدري فلعل الوضع الأليم الحالي للمؤمنين ينبع من تعرض الكعبة إلى مثل هذه الاستهانة وعدم التوقير!
2- يستطيع الإنسان أن يعيش الإسلام في حياته الفردية والشخصية كذلك، ويمكن أن ينجح في أداء الفرائض المكلف بها، ولكن لا يمكن أن يكون مظهراً للألطاف الإلهية بالمعنى العام وأن يمثل هذا المظهر بالمعنى الكامل إلا بالجماعة. والكعبة في موقع قَيُّوم مثل هذا التجمع وتكوين الجماعات وصيانتها والمحافظة عليها، اعتباراً من توجه ملايين الناس إليها في الصلاة وانتهاءً إلى قيامها بجمع الملايين في الحج والعمرة فتكون وسيلة وواسطة لتمتين شعور الجماعة وتقويتها وإدامتها. ويجب ألاّ ننسى هنا حكمة كون الحج مؤتمراً عالمياً عاماً. أجل إن أداء الحج على وجهه الكامل يعد عقداً لمؤتمر عالمي للمسلمين. ولو كان للمسلمين هذا الشعور لكان من الممكن العثور على حلول لبعض مشاكل العالم الإسلامي. وإذا كان الحج لا يستطيع اليوم أداء هذا الدور فهذا ينبع من نقص الوعي عند المسلمين، والا فهناك مثل هذه الإمكانيات وهذه القدرة على الدوام في الحج. وهكذا يتبين أن الكعبة بامتلاكها هذا الوصف وهذه الميزة تعد قياماً للناس ومصدر قوة للناس واقتدار لهم.
3- تعد الكعبة قياماً لكل مؤمن على حدة من ناحية قيامها بتقوية قواه المعنوية. لأن كل مؤمن متوجه للكعبة يرى توجه الملايين من الناس -ومن ضمنهم مئات الآلاف من الأولياء والأصفياء ومن الذين تفتحت قلوبـهم وعيونـهم على الحقائق- حجة بالغة ضد الشبهات التي قد تحوك في صدره فيصل إلى الراحة النفسية ويطمئن قلبه. بل يستطيع الإنسان أن يسكت صوت النفس والشيطان في داخله الذي يوسوس في صدره بأن الكعبة لا تملك أي قدسية لأنـها ليست سوى بناء من حجر وتراب. أجل! فهو يقوي إيمانه ويقول في نفسه إنه لو لم يكن للكعبة مثل هذه القدسية فهل كان في إمكانـها أن تكون مركز جاذبية واهتمام لمئات الآلاف من كبار المرشدين المعنويين والعبقريين؟.
4- وللكعبة -بوصفها قياماً للناس- علاقة وثيقة جداً بحركة الإحياء والتجديد أيضاً. ووحدة القياس لمعرفة مستوى تحقق حركة الإحياء هذه تتناسب طردياً مع فهمها لحقيقة الكعبة. فإن بلغ هذا الفهم الذروة في يوم من الأيام سيكون البعث والإحياء في الذروة أيضاً.
والخلاصة إن الكعبة كانت على الدوام نور العيون وشفاء الصدور ومنبع الحماسة والقوة. وبها حافظ المؤمنون على التناغم بين الدين والدنيا وقامت على الدوام بمهمة التوازن في قلوب المؤمنين. والذين توجهوا لله توجهوا بها إليه، وبها تتم فريضة الصلاة والحج. وهي وما حولها ملاذ الذين يبحثون عن طمأنينة القلب وسكونه. هي مؤنسة القلوب التي تئن من ألم الغربة، ومزيلة وحشتها. وفي الخط الموصول بين القلب وسدرة المنتهى هي المحراب وما وراء المحراب، وهي مجمع أفضل الأصوات وأغناها بالتضرع والدعاء الذي يكاد يسمع بأذن الروح من بنائها وأحجارها القائمة في أبرك بقعة على الأرض.
ندعو الله تعالى ألا يحرمنا من وصايتها علينا.