إن العزوف عن الحياة مرتبة أعلى من ترك الدعة والراحة وهو الآخر شرط مثله لمن يريد الجهاد في سبيل الله وضمن مرضاته ووفق موازينه. أجل إن جهاد الذين لا يستطيعون استصغار الحياة ويعجزون عن رؤية العقبى واضحة كرؤيتهم للدنيا، من الصعوبة جدا أن يعيشوا الجهاد بكل أبعاده. والدليل على هذا من خير القرون:
“قال عليّ : لما انجلى الناس عن رسول الله r يوم أحد نظرت في القتلى فلم أر رسول الله r فقلت والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى ولكن أرى الله غضب علينا بما صنعنا فرفع نبيه r فما في خير من أن أقاتل حتى أقتل فكسرت جفن سيفي ثم حملت على القوم فأفرجوا لي فإذا أنا برسول الله r بينهم”.
نحن مضطرون للمشاركة في الحياة الاجتماعية غير غافلين عن الجهاد المستميت المستديم. مضطرون إلى جهاد لا يُبغى من ورائه غير مرضاته سبحانه، مشحون بـ: “ليس في قلبي رغب في الجنة ولا رهب من جهنم”. وينبغي أن تكون أنبل غايتنا التضحيةُ بكل ما نملك في هذا السبيل. مرددين ما قاله ثابت بن الدحداح يوم أُحد والمسلمون أوزاع: “يا معشر الأنصار إليّ إليّ إن كان محمد قد قتل فإن الله حيّ لا يموت فقاتلوا عن دينكم”. فعلينا أن نغادر هذه الدنيا كما غادرها بابتسامة مشرقة مستنشقاً ريح الجنة دون أُحد.
إن استصغار الحياة بكافة مرافقها وإقامة التوازن بين الدنيا والعقبى بإعطاء كل منهما درجة من الإهتمام على قدرهما هي الحياة المثلى والعيش اللائق للمسلم. إذ تنحل كل الأمور بعد إقامة هذه الموازنة. فالأساس هو إقامة هذا التوازن باختيار الأولى والألزم لدى مواجهتنا الدنيا والآخرة معاً وبمقدار ما يتركان من ثقل في وجداننا. وهذا يقتضي تقييم الدنيا بقدر قيمتها والآخرة بقدر قيمتها.
فالذين يستطيعون إقامة هذا التوازن لا يغشاهم خوف أو قلَق. فلو انفلقت الدنيا على رؤوسهم لَما اضطربوا، ذلك لأن الخوف والقلق إنما ينشآن من عشق الدنيا والهيام بها بينما هؤلاء يستخفّون بالحياة. فلا ينتاب القلق والاضطراب من يعلم أن الحياة عابرة فانية. وأن الربح والفوز هو في دار الآخرة، فيجب بذل الجهود للحصول عليها. حيث الشوق إلى الآخرة نبع فياض مبارك للشجاعة والإقدام.
انظروا إلى هذا المثال: لقد ضحّى المسلمون بسبعين شهيدا في أُحد، والباقون أُثخنوا جروحاً. وهكذا رجعوا إلى المدينة. حتى كان الرسول r معصوب الرأس من جرح أصابه، والجميع منهكو القوى لا يقدرون على حمل سلاح. في هذه الأثناء إذا بخبر يشاع بين الناس مفاده أن أبا سفيان سيأتي مع جيشه إلى المدينة مرة أخرى. وما أن بلغ رسول الله r هذا الخبر حتى أمر بالخروج لطلب العدو و”أن لا يخرج معنا أحد إلا حضر يومنا بالأمس”. لم يتوان أحد قط عن إنفاذ الأمر. علما أن بعضهم قد فقد ذراعه وآخر فقد ساقه ورجله ولكنهم جميعا حضروا منتظرين في مكان التجمع، بل كان منهم من أتى زحفا. إذ لما كان الأمر هو الخروج للجهاد فلِمَ يقعد صحابي في زاوية ولِمَ يتخلف. لأنه ما من أحد منهم جبن أو أصابه الخور، على الرغم من أجسامهم المثخنة بجروح استنفدت طاقتهم ولكن أرواحهم كانت تطير بأجنحة الشوق. والقران الكريم يبين وضعهم بالآتي:
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾(آل عمران:173).
لقد ترك هذا الخروج أثره في صفوف العدو حيث ولّوا مدبرين ولم يعقّبوا على شيء لما ظنوا أن المسلمين قد خرجوا لطلبهم بمدد جديد. وهكذا سجل حفنة من الأُسود المضرجين بالجروح بجسارتهم سطورا ذهبية في التاريخ، فغدا المسلمون منتصرين في أُحد كذلك. حقا إن المسلم هو الفائز دائما. إذ يفوز بإحدى الحُسنيَين فيصبح شهيداً أو مجاهداً أو يصون عزّته وكرامته فيفوز أيضا. سأورد هنا إحدى مشاهداتي:
في غضون أيام الإرهاب والفوضى التي ضربت أطنابها في البلاد. حتى بدأ الإرهابيّون يفتّشون السيارات العابرة ويتخذونها ترسا لهم تجاه قوّات الجيش والشرطة. ولما أرادوا مرة حجز شاحنة مارة واتخاذها ترساً، إذا بسائق الشاحنة -ولا نعلم مبلغ إيمانه ودينه- يخرج عليهم وليس بيده سوى عصا غليظة فيشتت عشرين منهم أيما تَشتيت. هكذا المسلم مضطر في سبيل صيانة عزته وكرامته أن يبدي جسارة كما أظهرها هذا السائق صيانة لماله وعرضه وشرفه. وعلى المسلم أن يعرف كيف يتصرف تجاه الأعداء، فلا يستسلم للإرهابي ولا يقبع في بيته في خوف ووجل، بل عليه أن يكون معاوناً على الخير معينا على الحق.
ولأجل ألا نفسح المجال لتأويلات وتفسيرات خاطئة لا بد أن أوَضح أمرا: إنني لا أقول لأحد -أيًّا كان- تسلحوا وجوبوا الشوارع والأزقّة، لا أقول هذا قطعا. وإن ما أقصده هو أن الخوف والقلق غير وارد لمن آمن بالله.
وإذا أردنا أن نبين مثالا لهذا فسيّدنا الزبير بن العوام t في مقدمة الأمثلة:
كانت أزقة مكة في يوم من الأيام تهتز بخبر مذهل يصدم الناس كلهم. فقد أُشيع أن محمدا الأمين قد قتل. الجميع في حالة حيرة وذهول لا يعرف كيف يتصرف، غير غلام لا يتجاوز الإثنتي عشرة سنة من العمر يركض من زقاق إلى آخر وبيده سيف يجره. هذا الغلام هو الزبير بن العوام الذي حظي بعد مدة بلقب حواري رسول الله r وهو ابن عمة رسول الله صَفيّة وذلك بقوله r: “إنّ لِكلّ نَبِيّ حَواريّا وحَوارِيَّ الزُّبَيرُ”. كان ينتقل هنا وهناك كالمجذوب، ولم يكن أَحد يعرف ماذا يريد أن يصنع. وأخيرا وفي إحدى الأزقّة إذا به أمام رسول الله r فقال له: “إلى أين يا زبير؟”. فاضطرب الزبير إذ كان يظن أن سيّد الكَونَين رسول الله قد قتل. فقال: اذهبُ إلى قتل من أراد قتلك. فسأله رسول الله بابتسامة: بمَ ستقتل من أراد قتلي؟”قال وهو لا يكاد يرفع السيف بيد واحدة فاضطر إلى رفعه بكلتا يديه: بهذا السيف يا رسول الله. أجل إن الزبير قد انطلق إلى الأزقة حاملا سيفا لا يستطيع حمله، ذلك لأنه يعلم ان لا قيمة لحياة لا تنطوي على محبة رسول الله. فكل حياة بعد حياته لا قيمة لها.
نرى في اليمامة أيضا منظرا آخر في الزهد بالحياة. منظراً مهيباً لمن توجه إلى الآخرة. كان عمّار بن ياسر قد بلغ من العمر مبلغا ولكن ما كان يقول “لقد كهلت فلا حرج علي”. كانت الحرب قد استعرت على أشدها وبدأ الانحلال يطرأ على اليمين والشمال فإذا بالمسلمين يسمعون صوتا مألوفا لديهم ليس غريبا عليهم، يقول: “أيها المسلمون أَهُروبا من الجنة؟ فها أنا عمّار بن ياسر”.
«عن عبد الله بن عمر قال: رأيتُ عمّار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح “يا معشر المسلمين أَمِن الجنة تفرّون أنا عمار بن ياسر هلمّوا إليّ”وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تدبدب وهو يقاتل أشدّ القتال».
أجل لقد صدق قائد هرقل عندما قال: “أيها الملك لا طاقةَ لنا بهؤلاء، إنهم يحرصون على الموت كحرصنا على الحياة، ويحبّون الآخرة كحبنا للدنيا..”
لم يظفر عمار بما كان يتوق إليه في اليمامة. فقد قال له الرسول الكريم r “إن آخر شراب تشربه لبن..” وعمار كان يتوق إلى هذا اللبن، لا يدري أهو في مؤتة أم في اليرموك أم في اليمامة فيخوض حربا إثر حرب. ولكن لم يحْظ بالموت في كل هذه الحروب حتى بلغ صفّين وأخذ موضعه في صف سيدنا علي t وقد تجاوز التسعين من العمر آنئذ واشتعل رأسه شيبا وكأنه من نور لا يُرى فيه شعر أسود. حارب حتى المساء وعندها قال: “أليس شيء للشرب”فقدموا له قدحا من لبن، وما أن رأى اللبن حتى قال هذا آخر رزقك يا عمّار، لأنه قد سمعه هكذا من رسول الله r وبعد قليل شاهد الناسُ أُفول شمس أخرى مع أفول الشمس، هذه الشمس ستشرق على سفوح الجنة. عمار لا يعرف الموت. إذ كان على يقين أن الأجل لا يتأخر ثانية ولا يتقدم والقرآن الكريم يبين هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ اْلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾(آل عمران:145).
أجل إن الله I قد عيّن أجل كل مخلوق مذ خلقه. فكل يموت عندما يحين أجله. سيدنا عمر t توفى بطَعنة وهو يصلي بالناس مع أنه قد خاض حروبا كثيرة. وخالد بن الوليد t قد قضى عمره في القتال وليس في جسده موضع درهم لم يصب بطعنة سيف أو رمح، ولكنه عندما حان الأجل سلم روحه على الفراش.
إنني أسعى لعرض الأمر الآتي:
إن الأجل الذي قدّره الرب الجليل لا يستقدم دقيقة ولا يستأخر. إننا نموت في الوقت الذي عيّنه الرب الجليل. فلا يمكن أن يحدث شيء دون إذنه وأمره. فلا نجاة من الموت إذا أقبل ولا اللقاء به قبل أوانه. فالذين تعقبوا الموت لم يظفروا به كما لم ينجوا منه بالفرار منه، ولما كان الموت لا يحل بأحد إلا في وقته المعين فالأفضل أن يموت المرء عزيزاً. فموت المسلم عزيزا يخدم الإسلام ويفيده بمثل فائدة حياته في الأقل. لأن موته عزيزاً يرفرف على رؤوس الذين يأتون من بعده راية ذات عبرة. بل يكون عبرة ودَرساً لكل ناظر إليه. نحن لم ننس سيدنا حمزة t ولن ننساه أبداً. وكيف ننساه وقد سطر الملائكة الكرام بدمه في السماء: “أسَد الله”، بعد ما قُطّع أوصالا وهو يحارب بين يدي رسول الله. حتى اعتقد أناس وجرّب آخرون أن روحانية سيدنا حمزة -إذا ما استُمد منها- تتمثل لهم وتمدهم في أعمالهم. فذوو الأبصار المفتّحة يمكنهم أن يشاهدوه كل حين. فهو يحضر في أي مكان يذكر اسمه جزاء حسنا لمن ضحى بنفسه في طريق رسول الله فهذه المرتبة والشرف السامي يمنح -منذ ذلك الوقت- لكل من ضحى بنفسه ومات عزيزا كريما في سبيل دعوة الإسلام العظيمة التي آمن بها.