لا شك أن لكل فرد من الأفراد وظيفة تناط به في هذه الحياة الدنيا التي لا قرار فيها لشيء. فالأموال تنفد والعمارات تخرب، ولا ينفع الإنسان إلاّ ما أرسله من ههنا إلى هناك. فما عليه إلاّ العمل الدائب والسعي الجاد ليتمكن من إرسال شيء إلى هناك قبل الرحيل إليه.
ومما ينبغي أن يُعلم قطعاً: أن كتاب أعمال الإنسان يغلق بموته، وسينفرد بما عمل، ولا يستثنى من هذا إلاّ من دافع عن دينه وأمته وعرضه وشرفه وعن كل ما يجب أن يحافظ عليه. فالذين نذروا أنفسهم لله وبذلوا ما يملكون في سبيله وفي سبيل نشر الإسلام العظيم، لا يغلق كتاب حسناتهم قطعاً، وقد ورد في حديث شريف ما يوضح هذا بجلاء:
“كلُّ الميِّت يُختم على عمله إلاّ المُرابِط، فإنه يَنْمُو له عملُه إلى يوم القيامة ويُؤَمَّن من فَتَّانِ القَبر”. فإنه سنّ سنة حسنة وشق نهجاً وسبيلاً إلى الخيرات، فكل حسنة يعملها من يأتي بعده يُكتب مثلها في كتاب حسناته، فضلاً عن ذلك فهو آمن من فتنة القبر وعذابه، لأنه لم يمت موتاً حقًّا حتى يرى عذاب القبر، بل بدّل مكاناً بمكان فحسب، فما تركه من جليل الأعمال يعيش كل حين في قلوب الناس.
فالذي يقول إن محمداً والخلفاء الراشدين والصحب الكرام رضوان الله عليهم أجمعين قد ماتوا وانتهوا، فهو الميت حقاً، ذلك لأنهم قد سنّوا سنناً حسنة عظيمة. وفتحوا سبلاً منيرة لا نعرج على شيء في طريقنا في الحياة إلاّ ونرى ما يخصّهم من آثار جليلة. وكلما رأينا آثارهم سجدنا سجدة شكر لله قائلين: ليرفع الله ذكركم، ويرضَ عنكم أجمعين… فقد مهّدتم لنا السبيل إلى الله تعالى ويسّرتم لنا الطريق إليه لنلجها بأمان واطمئنان.
ولهذا تتضاعف حسناتهم وفضائلهم ومزاياهم وترتفع حتى تبلغ العرش الأعظم. فهؤلاء بلا شك آمنون من عذاب القبر، لأن هذا العذاب يخص الأموات. نعم، إن عذاب القبر لأموات الروح وأناسي الجسد الذين لم يصبغوا حياتهم بالدين الذي هو صبغة الله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة:138). فهؤلاء لم يحتسبوا حياتهم للحقيقة الأحمدية، ولم يتخذوا القرآن دستور حياتهم. أما الذين نذروا حياتهم لهذه الحقائق وبذلوها في سبيل الله، فهم في منجاة من عذاب القبر. يقول سيد الكونين سيدنا محمد في الجهاد:
“مَن رابَط ليلةً فى سـبيل الله سـبحانه كانتْ كألْف ليلةٍ صيامِها وقيامِها”.
فعليكم إذن أن تصوموا ألف يوم وتقيموا ألف ليلة كي تبلغوا ثواب المرابط ليلة واحدة في سبيل الله تجاه العدو الذي يريد الحلول في بلدكم وتخريب أمتكم. بل هذا أرضى لله وأكثر قبولاً عنده.
من المؤمنين من يوفي بمهمة الجهاد حق الوفاء فينال الفضائل التي ذكرناها آنفاً. ومنهم من يعجز عن القيام الفعلي بالجهاد ولكن ينال جزاء عمله مثل أولئك فضلاً منه . بمعنى أن من يعمل في سبيل الإيمان والقرآن -ولو حمل حجَرا للبناء- لا يضيع عمله هباءً قط.
فمن يتبنَّى القضية التي يشاور بشأنها ويعمل على إنجازها ويصبح وسيلة في خدمتها يكافأ -كلٌّ- حسب نياته ويثاب على عمله. فبدءً من الكاتب الذي يجاهد بقلمه وحتى الناشر له. كلٌّ يأخذ ثوابه كاملاً غير منقوص.
ولهذا ينبغي على كل مسلم أن يشترك في هذه المأدبة العظيمة بما منحه الله سبحانه من إمكانات وقابليات، ليغنم النتيجة الحاصلة من عمل الجميع.
يروي أبو هريرة في حديث المعراج:
“…. فسار وسار معه جبريل عليهما السلام. قال: فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا عاد كما كان. فقال النبي r: يا جبريل، ما هذا! قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يُخلفه، وهو خير الرازقين”.
بمعنى أن الرسول r لما ارتقى بالمعراج سماءً سماءً بعبوديته وعبْديته إلى الله منسلخاً من عالم الناس مرتقياً إلى عالم الملكوت، فرأى مناظر شتى، واطلع على مشاهد كثيرة. فشهد في هذه الأثناء أن قوماً يزرعون في اليوم ويحصدون ما يزرعونه في اليوم نفسه. وما أن يجنوا الحاصل حتى تزرع البذور مرة أخرى وتثمر مرة أخرى. وعندها استفسر الرسول الكريم من جبريل: يا جبريل من هؤلاء؟…
ومن هنا فالمؤمن إذ يضحّي بحياته كلها وأذواقه وراحته وشبابه في سبيل الله، عليه أن يعتقد أنها لا تذهب هباءً منثوراً ولا تفنى فناءً قط بل ما إن يرحل إلى العالم الآخر يرحل إليه مطمئن القلب حيث سيرى أنه لم يهدر مثقال ذرة من عمله قط. نعم، إن الله الحفيظ على كل شيء والرقيب على كل شيء سيحافظ على ما بذله المؤمن في سبيله. نعم، الله يحفظ عمل المؤمن ويجازيه خير الجزاء كما لو خرَّ له ساجداً –إن كان السجود وارداً في الجنة- لا يرفع منه رأسه إلى الأبد فأنه لا يوفي شكره لله على ألطافه العميمة وإنعامه السابغة عليه. وأعتقد أن اللذة الروحية الحاصلة من هذه السجدة لا تتخلف عن لذات الجنة الأخرى.
والرسول r يبيّن في حديث شريف الشركة في ثمرات الجهاد فيقول:
“مَن جَهّز غازيًا في سبيل الله فقد غزَا ومن خَلَفَ غازياً في سبيل الله بخَير فقد غزَا”.
نعم، إن من لا يقدر على الإشتراك في الجهاد بالذات ولكن يستطيع أن يعاون من هم في الجهاد ويحتضن بمؤسساته المجاهدين ويقيهم، فإنه يكون معهم في الجهاد فعلاً. فالذين عاونوا مجاهدي بدر وجهّزوا مجاهدي أحد وبذلوا أموالهم لمجاهدي تبوك سيسيرون معاً إلى الرب الجليل ويحشرون معاً. ذلك لأنهم استجابوا لأمر الله ورسوله في الجهاد وإن لم يشتركوا مع المجاهدين فعلاً لأعذار لهم، إلاّ أنهم لم يتخلفوا عن الجهاد.
نعم إن الذين خرجوا للجهاد في تبوك سيجدون أزواجهم وأولادهم وشيبهم وشبابهم معهم يوم القيامة. إذ الصبيان أتوا بسكاكينهم وحرابهم ووضعوها أمام الرسول الكريم r وأتت العرائس بقراطهنَّ، وحتى الشيوخ أتوا بما لديهم من عصي.. فبذل كلٌّ ما لدَيه لله ووضعه أمام الرسول قائلين لتكن لنا مشاركة في الجهاد. فهؤلاء جميعاً سيعاملون معاملة من جاهد جهاداً فعليًّا. يذكر ذلك الرسول الحبيب في حديث آخر:
“إنّ بالمدينة لَرجالاً ما سِرتم مَسيرا ولا قطعتُم واديا إلاّ كانوا معكم حَبَسَهم المرَض” وفي رواية أخرى “إلاّ شارَكوكم في الأجر”.
بمعنى أن الأعذار كالشيخوخة والعجز والفقر والأنوثة أو ما شابه، مما يقيد المرء عن الاشتراك في الجهاد الفعلي، لا تنقص من ثواب المجاهدين، حيث سيَقبلهم الله الجليل كالمجاهدين فعلاً ويثيبهم على عملهم حسب نياتهم. وهذا ما نفهمه من بشارة الرسول الكريم في الحديث السابق. ونعدّ إيماننا هذا -كما هو الوارد في الحديث الشريف- من قبيل الدعاء بحقنا. ولاسيما في الوقت الحاضر الذي تُرك فيه الجهاد كليًّا. فنحن نعتقد يقيناً أن من اشترك جزئيًّا أو كليًّا في هذا العمل -العمل للإيمان والقرآن- سينال ثواب الجهاد كاملاً، ونسأل الرب الكريم ألاّ يخيبنا في يقيننا هذا.