إن من يجاهد في سبيل الله ويبتغي مرضاة ربه بامتثال دعوته، لا يُنظر إليه نظرة إنسان اعتيادي في مستوى بقية الناس، ذلك لأنه اتخذ الغاية التي بُعث بها الأنبياء والرسل الكرام -صلوات الله عليهم- هدفاً له. ولنمثل هذا بمثال للتوضيح:
من المعلوم أن لكل إنسان مسلكاً معيناً ووظيفة تخصه، ولهذه الوظيفة خصائصها، فمثلاً الحلاق، أو النجار، أو السرّاج أو صاحب مهنة أخرى، كل منهم له هدفه المعين. ويقدّر وضعه الحالي وفق ذلك الهدف. ومن جانب آخر فإن كل مهنة تحرز الأهمية بنسبة بعدها وقربها من ذلك الهدف المعيّن لها. فأهمية مهنة الحلاقة -والحلاق أيضاً من جهة- تقاس بالنسبة لذلك الهدف. وقس عليها المهن الأخرى؛ فالنائب في البرلمان مثلاً، أو رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية -إن عدّت الرئاسة مهنة ووظيفة- يجري المقياس نفسه على هذه الوظائف كلها، أي تُحرز الأهمية وفق الهدف المعين.
إن مهمة النبوة أقدس وظيفة عهد بها إلى أشخاص أخيار مصطفَين من بين الناس. أما وظيفتهم فهي التعريف بالله، وبالدين الذي تلقوه منه سبحانه. فهم بهذا التبليغ يعلّمون الإنسان الذي بدأ من نطفة مستقذرة وينتهي إلى جثة نتنة، طرق البلوغ إلى عالم الخلود، إلى عالم الأبدية والاستقرار في مواطن السعادة والرفعة الدائمة. وبذلك تطمئن قلوبهم المحتاجة والمشتاقة إلى البقاء والأبدية، بالإيمان بالبقاء والدنوّ إلى الأبدية.
إن الهدف المقدّر في مهمة النبوة هو الإيمان بالله ومعرفته تعالى وإبلاغ الإنسان طريق الخلود بتلك المعرفة والإيمان. ووصوله إلى الله سبحانه بعد عبوره من هذه الدنيا. وإراءته جلوات البقاء والخلود في هذا العالم الفاني، واستشعاره بألوان الوجود في الفناء. حتى يبلغ بأفكاره مبلغ الهالة المشعة بالأبدية ولا يرى نفسه إلاّ تحت ظل قوس نصر الخلود العظيم.
فالذين يفجرون هذه الماهية المغروزة في فطرة الإنسان المرشح للخلود، هم الأنبياء والرسل الكرام الذين قلدوا وظيفة النبوة.
فالنبوة بهذا هي أقدس وأنـزه مهمة عند الله، حتى إنه سبحانه وتعالى وجّه الأنظار بعد ألوهيته جللالهدو إليها. هذا وإن أقدس وظيفة في هذه المهمة المقدسة هي الجهاد. إذ هو الواسطة والوسيلة التي توصل إلى النقطة النهائية المهمة المقدسة، فهي إذن مقدسة ومنـزهة مثلها.
ومما يفيد قدسية هذه المهمة الآية الكريمة:
﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَاْلإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(التوبة:111).
بمعنى أن الذين يبيعون ما لديهم من وجود مادي من نفس ومال سيفوزون مقابلها بالجنة وسيحظون برضى الله جل وعلا.
والقرآن الكريم باستعماله كلمتي “البيع والشراء”يسمو بمرتبة الإنسان إلى مرتبة المخاطب لربه الجليل الذي يعقد معه سبحانه المواثيق والعهود. والرسول يذكر في حديث شريف له: «كلُّ الميّت يُختم على عمله إلاّ المُرابِطَ، فإنه يَنمُو له عملُه إلى يوم القيامة ويؤَمَّن مِن فَتّان القَبر».