أ. الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر
الجهاد الأصغر ليس هو شكل الجهاد الذي يؤدَّى في جبهة القتال فحسب، فهذا النمط من الفهم يقلّص أُفق الجهاد، حيث إن مَيدان الجهاد واسع جداً يمتد من الشرق إلى الغرب، وعلى سعته وشموله قد يكون كلمة واحدة أو سكوتاً وصمتاً أو تبسّماً وطلاقة وجه أو امتعاضاً ونفورا أو تركاً لمجلس أو مشاركة فيه.. وباختصار هو القيام بأي عمل من الأعمال لوجه الله، وتقويم الحب في الله والبغض لله في هذا السبيل… ومن هنا فإن كل جهد يبذل لإصلاح المجتمع في أي ميدان كان من ميادين الحياة ولأي شريحة من شرائح المجتمع. كل ذلك هو من مضمون الجهاد الإسلامي. بمعنى أن ما يُؤَدَّى في ميدان العائلة والأقارب القريبين والبعيدين والجار ذي الجنب والصاحب بالجنب، كل ذلك هو من الجهاد الأصغر. فهي كدوائر متداخلة واسعة سعة الأرض كلها.
نعم، إن الجهاد الأصغر في معنى من معانيه جهاد مادي. أما الجهاد الأكبر الذي يشكل الجانب المعنوي من الجهاد فهو جهاد الإنسان لنفسه وعالمه الداخلي. فمتى ما أُوفى حق هذين الجهادين معاً فقد تأسس التوازن المطلوب. وبخلافه، أي إذا ما نقص أحد هذين الجهادين اختلت الموازنة الموجودة في روح الجهاد.
فالمؤمن هو الإنسان الذي يجد هدف حياته ضمن هذه الموازنة في أدائه الجهاد، ويدرك أنه متى ما ترك الجهاد فُقدت الحياة. نعم، المؤمن كالشجرة المثمرة تحتفظ بحيويتها طالما تثمر، وإذا انقطعت عن الإثمار يبست وفنيت.
إذا شئتم أمعنوا النظر في وجوه جميع المتشائمين، تجدوهم قد تركوا الجهاد، فقطع المولى الكريم عنهم فيوضاته لأنهم لا يبلّغون الحق والحقيقة إلى غيرهم. فأظلم عالمهم الداخلي وغدَا قاسياً جاسياً. وانظروا إلى المجاهدين تجدوهم في نشوة وحبور دائمين وعالمهم الداخلي مملوء بالنور ومشاعرهم نابضة بالحيوية والرقة، لما يسعون إليه من تحويل الفرد الواحد إلى الألف. نعم إن كل جهاد يولّد لديهم جهاداً آخر، وكل خير يكون وسيلة لخير آخر، لذا فهم يجولون ويصولون في الخيرات. والآية الكريمة تخاطب وجداننا بهذه الحقيقة:
﴿وَالَّذِيـنَ جَاهَـدُوا فِينَـا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِـنِينَ﴾ (العنكبوت:69).
ب. الطرق المؤدية إلى الله.الطرق المؤدية إلى الله مختلفة ومتنوعة وهي بعدد أنفاس المخلوقات. ولا ريب أنه I يهدي الذين يجاهدون في سبيله إلى إحدى هذه الطرق أو إلى عدد منها، فيضع سبل الخير كلها أمامهم ويحفظهم عن طرق الشر.
إن طريق الله سبحانه هو الصراط المستقيم، فمن وجده فقد وجد الصراط السوي الوسط. نعم، فكما أن الصراط المستقيم هو الوسط بين الإفراط والتفريط في القوة الغضبية والعقلية والشهوية، كذلك هو الوسط في الجهاد والعبادة، حيث يأخذ المؤمن الوسط دائماً. أي أن الله سبحانه يهدي الإنسان إلى صراطه السوي الوسط.
إن الجهاد الموجّه إلى الخارج مهما بلغت فيه التضحية والفداء فإنه بمجموعه يعدّ ضمن الجهاد الأصغر، وكونه جهاداً أصغر إنما هو بالنسبة للجهاد الأكبر، وإلاّ فليس فيه جهة صغيرة قطّ. بل العكس هو الصحيح لأن ما يُكسبه من نتيجة هي عظيمة للغاية، وكيف لا تكون عظيمة وهي ترشح المجاهد للدخول إلى الجنة، وإذا ما استشهد فله الحياة الكاملة في البرزخ. ولا شك أن المقصود هو نَيل رضى الله في ختام الجهادَين. وكيف يكون صغيراً جهاد له هذه النتائج الجليلة؟
فالجهاد الأصغر إذن هو تنفيذ أوامر الدين عملياً وأداء ما كُلّف به الإنسان. أما الجهاد الأكبر فهو إعلان الحرب على جميع العقبات والعوائق الكامنة في النفس الإنسانية التي تعيقه عن الكمالات من حقد وحسد وأنانية وغرور وكبر وفخر وأمثالها من الأمور التي جبلت عليها النفس الأمارة بالسوء. فهذا الجهاد عسير وشاق ولهذا سمّي بالجهاد الأكبر.
إن دوَران الحياة في فلك الأنانية خطر جسيم، والإنسان طالما هو في حومة الجهاد المادي لا يجد فرصة -في اغلب الأحيان- للإنصات إلى مطاليب نفسه، فيكون قد تجاوز هذه الخطورة، ولكن ما إن يُترَك الجهاد المادّي حتى تشرئب النفس بعنقها وعندها يداهم الخطر صاحبها حيث يعني هذا ضمور حيانه القلبية والروحية.
فالشخص المعرّض لمثل هذا الموقف تحيط به الأفكار الفاسدة من جهاته الأربع وتتعرض حياته المعنوية إلى الشلل. ولهذا يصبح من الصعوبة بمكان أن يحافظ الإنسان على نفسه من دون القيام بالجهاد المادي. لذلك فإن أصعب المصاعب هو ما أشار إليه الرسول r عند رجوعه من إحدى الغزوات حيث قال: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”.
والحديث الشريف يعني: أننا آمنا وشرُفنا بالجهاد والاشتراك في الغزوات، وربما غنمنا بعض الغنائم.. وبعد ذلك ربما يسري إلى نفوسنا حب الدعة والراحة والارتخاء بل ربما يراود بعضنا الشعور بشيء من الإعجاب، فيتسرب من نفوسنا الأمارة -بطرق شتّى- إلى أرواحنا ويفسدها. بمعنى أن مخاطر مهلكة كثيرة تنتظرنا بعد الجهاد المادّي. فالنضال الذي سنخوضه بعد ذلك هو أصعب وأكثر جدية، فلا بد إذن من الاحتفاظ بحالة الحذَر الدائم والاستعداد المستديم.
فالمخاطب بهذا الحديث الشريف، فضلاً عن الصحابة الكرام، هم الذين يأتون من بعدهم، ونحن منهم بالذات. ولهذا ينبغي أن نظل حذرين جدًّا في استعمال هذا الميزان. فإن كان الإنسان يوجه حركاته في الجهاد إلى الخارج وحده بعيداً عن مراقبة النفس، فهذا يعني أنه على شفا جرف من الخطر الجسيم.
ج. ما يخصه r
كان أناسي خير القرون -عصر النبوة- كالأُسد في الوغى، ولكن ما إن يرخى الليل سدوله حتى تراهم كالرُّهبان المتبتّلين يقيمون الليل كله في عبادة وذكر وتسبيح إلى الفجر، وكأنهم كانوا فارغين في النهار وليسوا أولئك المجاهدين الذين اقتحموا المهالك، بل زهّاداً منقطعين للعبادة وحدها..
نعم هكذا شاهدوا الأمر من رائدهم ومرشدهم ونبيهم الكريم r. ولنعرض هنا بضعة نماذج:
كان رسولنا الكريم أنموذجاً ومثالاً للشجاعة فيَروي سيدنا علي t وهو البطل الشجاع ويقول: “..كُنّا إذا احْمَرَّ البَأْسُ ولَقِيَ القَومُ القَومَ اتّقَينا برسول الله r فما يكون منّا أحدٌ أَدنى من القَوم منه”.
ومثلاً في غزوة حنين “..طَفِقَ رسولُ الله r يَرْكُض بَغلَتَه قِبَلَ الكُفّار قال عبّاسٌ وأنا آخذٌ بلجام بَغلة رسول الله r أَكُفُّها إرادةَ أنْ لا تُسْرِعَ… وأبو سفيانَ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطّلب يقُودُ به فنـزل فاستَنْصر وقال:
أنا النّبيُّ لا كذِبْ أنا ابنُ عبدِ الـمُطَّلب..”
فهذا المثال الرائع والأنموذج الكامل للشجاعة والإقدام والبطولة، كان في عباداته كذلك في منتهى العبودية حتى يُسمع في صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء ويدفع مَن حوله إلى رقّة القلب كلما سكب الدموع، وكان يصوم أياماً حتى يقال إنه لا يفطر بل كان يصوم حتى صوم الوصال،وكان يقيم الليل كله أحياناً حتى تتورم قدماه. “عن عائشةَ رضي الله عنها أنّ نبيَّ الله r كان يقومُ من الليل حتّى تتَفطّرَ قَدَماه، فقالتْ عائشةُ: لِمَ تَصْنعُ هذا يا رسولَ الله وقد غفَر اللهُ لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أُحِبُّ أنْ أكون عبدا شَكورا!”.
وفي أثناء وجوده في غار ثور من دون مبالاة بما يخفيه من حيّات وهوام، وقد بلغ المشركون باب الغار، فجزع أبو بكر t خشية أن يطّلع عليهم أحد. فقال له رسول الله r في منتهى الاطمئنان والسكينة: “يا أبا بكرٍ ما ظنُّك بِاثنَين اللهُ ثالثُهما.. لا تَحزَن إنّ الله معنا”.
فهذا الإنسان الذي لا يعرف الخَوف قطعاً عندما يسمع القرآن يرق قلبه حتى تنهمر الدموع منه وتكاد تتقطع أنفاسه. “عن عبد الله بنِ مسعود قال: قال لِي النّبي r: اقْرَأْ علَيَّ. قلتُ: يا رسول الله آقْرَأُ عليك وعليك أُنْزل؟ قال: نعم. فقرأتُ سورةَ النّساء حتّى أتَيتُ إلى هذه الآية ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا﴾ قال: حسْبُك الآنَ. فالتفَتُّ إليه فإذا عَيناه تَذرِفان”.
إنه إنسان القلب الحيّ والضمير اليقظ، وهو السابق الأول دوْماً في الجهاد المادي والجهاد المعنوي. فحينما يحث أمته على الاستغفار يكون هو في المقدمة ويقول: “واللهِ إنّي لأَستغفرُ اللهَ وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّةً” ألا ما أعظم هذا الكلام في حثّه على التأمل والتدبر.
إن الذي ظفر في الجهاد الأكبر يمكن أن يُنظر إلى أن جهاده الأصغر -على الأغلب- محقق ظفره فيه، بينما لم يُشاهد أحد خسر في الجهاد الأكبر وظفر في الجهاد الأصغر إلا نادراً جداً. فهؤلاء لا يبلغون النتيجة وإن أمكنهم قَطع بعض المسافة إليها.
“عن ابن عمر -يخاطب أمنا عائشة رضي الله عنهما-: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله . فبكت وقالت: كلّ أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي حتى مسّ جلده جلدي، ثم قال: ذريني أَتَعبَّدْ لربي [ألا ما ألطفه يستأذن زوجته ليتعبّد ربه]. قالت: فقلت: والله إني لأحب قُربَكَ وإني أحب أن تعبد لربك. فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء. ثم قام يصلي، فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح. قالت: فقال: يا رسول الله ما يبكيك؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر. فقال: ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أُنـزل عليّ في هذه الليلة ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾(آل عمران:190) ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها”.
وأحياناً كان الرسول r يقوم -دون أن يوقظ أهله- ويتوضأ ويقف لعبادة ربه. تقول أمنا عائشة أيضا رضي الله عنها سمعتُه يدعو: “اللهم أعوذ برِضاك من سخَطك وبمعافاتك من عُقوبتك وأعوذ بك منك (أي من قهرك بلطفك ومن جلالك بجمالك ومن جبَروتك برحمانيّتك ورحيميّتك) لاَ أُحْصي ثناءً عليكَ انتَ كما أثنَيتَ على نفسك». وهذا هو الرسول الكريم r وهذا هو جهاده الأكبر وهذه هي عظمته.
د. والذين اتبعوه
لقد سعى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين سعياً حثيثاً لاتباع الرسول الكريم خطوة فخطوة، وبذلوا وسعهم ليعيشوا حياتهم كما كان الرسول r يعيشها، لأنهم كانوا مدركين جيداً أن رفقته في الدار الآخرة إنما تكون باتباعه في هذه الدار اتباعاً تامًّا. حتى كان منهم من أمثال “ثوبان”الذي خطر بباله يوماً مفارقة الرسول فانقطعت شهيّته واستولى عليه الهم والغم. وفي إحدى الغزوات لم يصحب الرسول r. وعند عودته كان الجميع يتتابعون إلى زيارته، وكان من هؤلاء ثوبان وقد نحل جسمه واصفر لونه حتى كأن لم يبق منه غير الجلد والعظم. فسأله الرسول الرؤوف الرحيم: ما هذا يا ثوبان؟ قال ثوبان: لقد أهمني أمر فأوقعني فيما ترون، إذ قلت في نفسي: إنني لا أطيق فراق رسول الله r ثلاثة أيام، فكيف أقوى على فراقه في عالم خالد، حيث يكون هو في مقام رفيع وفي جنته الخاصة به، بينما أنا واحد من عامة الناس فلا يمكن أن أدخل جنته حتى لو دخلت الجنة. (بمعنى إنني سأفارقه إلى الأبد..ففكرت في هذا يا رسول الله فوقعت في هذه الحالة. فأجابه الرسول r هذا الجواب الشافي الخالد: “المرءُ مع من أحبّ”.
إن محبة المرء تكون بالتشبُّه بالمحبوب، وجعل حياته أنموذجاً يقتدى به في حياته. والصحابة الكرام كانوا حقًّا على هذا الشعور تماماً.
مثال آخر: “عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ قال: خرَجنا مع رسولِ اللهِ r فِي غَزوةِ ذاتِ الرِّقاعِ فأُصِيبَتِ امرأةٌ مِن المشرِكِين فلما انصرف رسولُ اللهِ r قافِلاً وجاء زَوجُها وكان غائِبًا فحلف أنْ لا ينتهِيَ حتّى يُهْرِيقَ دَما فِي أصحابِ محمّدٍ r فخرج يَتبعُ أثَر النبِيِ r فنَـزل النبِيُّ r مَنـزِِلاً فقال: من رجلٌ يكلؤنا ليلتنا هذِهِ فانتدب رجلٌ مِن المهاجِرِين ورجل مِن الأنصارِ فقالا: نحن يا رسول اللهِ. قال: فكونوا بِفمِ الشِّعْبِ. قال: وكانوا نزلوا إِلى شِعْبٍ مِن الوادِي فلمّا خرج الرجلانِ إِلى فمِ الشِّعْبِ قال الأنصارِيُّ لِلمهاجِرِيّ: أيُّ الليلِ أحبُّ إِليك أنْ أَكْفِيَكَهُ أوَّلَه أو آخِرَهُ؟ قال: اكْفِنِي أوّلَه. فاضْطجع المهاجِرِي فنام وقام الأنصارِيُّ يصلّي وأتى الرجلُ فلمّا رأى شخص الرجلِ عرف أنّه ربِيئَةُ القَومِ فرَماه بِسَهْمٍ فوَضعه فِيهِ فنَـزَعه فوَضعه وثَبَت قائِمًا ثم رماه بِسَهمٍ آخرَ فوضعه فِيهِ فنـزعه فوضعه وثَبَت قائِما ثم عاد له بِثالِثٍ فوَضَعه فِيهِ فنـزَعه فوضعه ثمّ رَكَع وسَجَد ثم أهبَّ صاحِبَه فقال: اجْلِسْ فقد أُوتِيتَ. فوَثَب فلمّا رآهما الرجلُ عرف أنْ قَد نَذَروا بِهِ فهَرَب فلمّا رأى المهاجِرِيُّ ما بِالأَنْصارِيّ مِنَ الدماءِ قال:سبحَان اللهِ ألا أهبَبْتَنِي. قال:كنتُ فِي سورةٍ أَقرَؤها فلم أُحِبَّ أنْ أَقطعَها حتى أُنْفِذَها فلما تابعَ الرّمْيَ ركعتُ فأُرِيتُكَ، وَايْمُ اللهِ لَولا أنْ أُضَيِّعَ ثَغْرا أَمرَني رسولُ الله r بحفظه لَقَطَعَ نفسي قبل أنْ أَقْطعَها أو أُنفِذَها”.
بمعنى أن الاطمئنان وسكينة القلب قد غمراه، وكأن القرآن ينـزل عليه وهو يتلوه في الصلاة، وكأن جبريل عليه السلام ينفثه في روعه، فينتشى بنشوة الوجد حتى لا يجد ألَم السهم الذي انغرز في جسده.
وهذا هو موقف من جمع بين الجهادين، الأصغر والأكبر. بل هذا هو الوجه الحقيقي للجهاد.
“قالت حفصة بنت عمر لأبيها: يا أبت إنه قد أوسع الله الرزق وفتح عليك الأرض وأكثر من الخير فلو طعمت طعاما ألين من طعامك ولبست لباسا ألين من لباسك فقال: سأخاصمك إلى نفسك أما تذكرين ما كان رسول الله r يلقى من شدة العيش. قال فما زال يذكرها حتى أبكاها ثم قال إني قد قلت لك إني والله لئن استطعت لأشاركنهما -أي الرسول r وأبا بكر- في عيشهما الشديد لعلّي ألقى معهما عيشهما الرخي” هذا هو سبيل رسول الله والصحب الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. إنهم في حضور دائم مع الله واتصال مستمر وثيق معه. فكانت عباداتهم وأذكارهم من الكثرة والعمق بحيث من يشاهدهم يحسب أن ليس لهم شغل يشغلهم غير العبادة والذكر، هذا مع كمال إيفاء أمورهم الدنيوية والمعيشية حقهما من الاهتمام.
نعم، إنهم يمثلون خلاصة الإخلاص ولبّه، إذ ما كانوا يعملون عملاً إلاّ وفق مرضاة الله سبحانه، فكان كل عملهم في مراقبة عميقة دائمة لله. فها أمامنا مثال الإخلاص سيدنا عمر بن الخطاب t. إنه قطع الخطبة يوماً دون سبب. وقال: كنتَ يا عمر راعياً لإبل أبيك الخطّاب.. ونـزل من المنبر. فعندما سئل: ما الذي دفعك إلى هذا القول؟ أجاب: خطر ببالي أنني خليفة!
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيتُ عمر بن الخطاب t على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا. فقال: أتاني الوفود سامعين مطيعين فدخلتْ نفسي نخوة فأردت أن أكسرها”.
وقطع عمر بن عبد العزيز الخطبة على المنبر إذ خاف على نفسه العجب. وكتب مرة كتابا فخاف فيه العجب فمزقه وقال: اللهم أني أعوذ بك من شر نفسي.
إن جهاد هؤلاء الأطهار الذين بلغوا الكمال روحاً وتكاملوا بها، لن يبقى بلا ثمر، لأنه في سبيل الله. وعلى هذا فالذين يتباهون ويتفاخرون بأعمالهم باسم الجهاد هنا وهناك، ولم يصلحوا شؤونهم الداخلية ولم ينجوا من الرياء والعجب والغرور والكبر، أعمالهم تخريب أكثر من أن تكون تعميراً. بل حتى لو بلغوا مبلغاً معيّناً في مرحلة ما، فلن يبلغوا الغاية والنتيجة قطعاً.
ﻫ. جلب العناية الإلهية ودعوتها
الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تجمع الجهادين معاً كثيرة جدًّا. ومما لا شك فيه أن سورة النصر في مقدمة هذه الآيات:
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾(النصر:1-3).
فهذه السورة تبشر بمجيء نصر الله وفتحه حينما يدخل الناس أفواجاً في دين الله. وهكذا كان. فحينما أزيلت العوائق أمام الجهاد الأصغر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ الحق، ودخل الناس في الإسلام أفواجاً، ففي هذه المرحلة يكون الأمر الإلهي هو:
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفرهُ﴾ لأن جميع هذه الأمور ما هي إلاّ إحسانًا ونعمة إلهية بحتة، إذ هو الذي خلقها كلها.
فعلى الإنسان الذي ظهر على الأعداء في الخارج، أن يظهر على نفسه أيضا في عالمه الداخلي، ليتم جهاده ويكتمل.
وفي ضوء هذا تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: كان الرسول r بعد نـزول هذه السورة يردد باستمرار: “سُـبحان الله وبحَمْده أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه سُبحانكَ اللّهم أستغفرك وأتوب إليك”.
وفي حديث آخر يجمع الرسول r هذين الجهادَين معاً فيقول: “عَينان لا تَمَسّهما النارُ عَين بكتْ من خشية الله وعيْن باتتْ تَحْرسُ في سبيل الله”.
نعم، إن جهاد من يسهر على الحدود والثغور ويرابط في ميدان الحرب، وفي أخطر المواقع جهاد مادي. فالذي يؤدي هذا الجهاد لا تمس النار عينه.
وعين أخرى تحقق الجهاد المعنوي الأكبر، عين تبكي من خشية الله.
فهاتان العينان -في هذه البشرى النبوية- سواء في عدم مسهما النار.
نعم، محال لدى الرحمة الإلهية ووعد الله القاطع أن تمس النار هاتين العينين كمحالية عودة اللبن إلى الضرع! وواقع من يجاهد في سبيل الله أشعثَ أغبرَ لا يختلف عن هذا، فقد بشّر الرسول الكريم r في أحاديث كثيرة أن النار وهذا الغبار والتراب في سبيل الله لا يجتمعان.
نعم لا تمس النار تلك العيون التي تذرف الدموع ساخنة من خشية الله، وتحرس وتراقب مواقع دخول العدو مرابطة في الثغور والمواقع الخطرة. فالذي ينذر نفسه لهذه الأمور ويجابه المهالك التي تحدق بالبلاد ويتصدى لها بإنشاء مؤسسات يتربى فيها أبناء أمته بمستوى يليق بالإنسان، ويتجافى عن حظوظ نفسه وأذواقها لأجل الآخرين ويهتم براحة الآخرين وعيشهم الهنيء.. فهؤلاء لا تمس عيونهم النار. وعلى هذا فالذين يرون الجهاد جدالاً ونقاشاً هنا وهناك إن لم يراقبوا أعمالهم ويقوموها بموازين الجهاد الذي ينادون به، فإنهم لا يعملون إلاّ لقتل الوقت وخداع أنفسهم. فالذين لم يحسموا الأمر مع نفوسهم ولم يلجموها بالمراقبة الدائمة ولم يرغموا أنف الرياء ولم يسحقوا روح الافتخار ولم يجعلوه تحت أقدامهم، ولم يقلعوا من أرواحهم الكبر على الآخرين والتظاهر أمامهم.. فأعمالهم لا تنفع شيئاً سوى كونها مصدراً لإحداث القلاقل والاضطرابات.
ومن جهة أخرى فالذين ينسحبون من الميدان ويقبعون في زاويتهم آخذين نصيبهم من الجهاد من جهته المعنوية وحدها ويقولون: لا يصح الانشغال مع الغير قبل جهاد النفس.. فهؤلاء الذين يروْن إحراز درجات معنوية لأنفسهم وبلوغ المراتب الرفيعة التي يرونها فوق كل أمر، ويعزفون عن إرشاد الناس، هم بلا شك على خطأ واضح حيث يخلطون الإسلام بالروحانية الصوفية (ميستيزم).
إن الفكر المهيمن على القائلين بإصلاح أنفسهم قبل دعوة الآخرين مكتفين بالجانب المعنوي من الجهاد فحسب وهو: أن كل إنسان يحاسب بمفرده “فكل شاة برجلها ستناط”أو “كل شاة معلقة من عصبتها”، كما هو المثل العامي المشهور. وإن من لم يصلح نفسه أعجز على إصلاح غيره. لذا على المرء أن يلتفت إلى إصلاح نفسه أولاً.
فنقول لمن يستغرقه هذا الفكر: اعلم أن الإنسان حينما يظن أنه أنقذ نفسه فقد وقع من فوره في أخطر دوامة، فمن يطيق أن يدعي خلاص نفسه والقرآن الكريم يقول: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾(الحجر:99).
نعم إن الإنسان مكلف بالعبادة حتى الرمق الأخير، فلا يستطيع أن يحجم عن أي عمل كان في معنى العبودية لله، حتى يُرفع الستار ويُدعى إلى العالم الآخر. فكيف يمكن لمن تستمر عليه مهمة التكليف هكذا، أن يقول: أكملت إنقاذ نفسي. إذن فإن جهاد الإنسان مع نفسه وسعيه لتطهيرها وتزكيتها من الأخلاق الرذيلة، ومحاولته إصلاحها وتقويمها سيدوم مادامت فيه الحياة.
نحن إذن مضطرون إلى العيش الدائم بين الخوف والرجاء، فكما لا يخطر ببال المؤمن الاطمئنان إلى النتيجة فليس من صفاته القنوط أيضا، إلاّ أن الخوف لا بد أن يكون أرجح في ميزانه في الدنيا. تأملوا في حال سيدنا عمر بن الخطاب وهو في أنفاسه الأخيرة فيضطرب خشية الحساب، ولم يخفف قلقه واضطرابه هذا إلاّ بشارة ابن عباس له إذ قال: أشهد لك يوم القيامة بأنك صالح. نعم ألم يذكّرنا القرآن الكريم بـ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾(الرحمن:46)؟
و. فهم السلف
لم يفهم الجهاد على وجه واحد من هذين الوجهين أحد من المرشدين الحقيقيين العظماء الذين ربّاهم الإسلام. فلم يتخلفوا عن نشر الحق والصدع به قط حتى لو كانوا وراء قضبان السجون. وكذلك لم يرخوا عنان العلاقة القوية مع ربهم ولم يهملوا قطعاً دائرة القلب مهما بلغ ميدان عملهم من التوسع. بل أصبح كل ما أفيض عليهم في هذا المجال جزءً من تكامل زلال المعرفة والعرفان عندهم فعاشوا دوماً بشعور الإحسان الإلهي، مستحضرين مراقبة الله لهم كل آن ومتقربين إليه سبحانه بعملهم هذا. إلى أن صار الرب جل وعلا بصرهم الذي يبصرون به ويدهم التي يبطشون بها.. فبارك الله فيهم حتى عُدّ الفرد منهم بألف.
ز. ما يجب على إنساننا اليوم
إن إنساننا في الوقت الحاضر، إن كان يريد أن يجاهد في سبيل الله حق جهاده وبما يرضيه -وهذا ما يجب عليه- عليه أن يراقب نفسه مراقبة جادة ويحاسب رغباته حساباً عسيراً، في الوقت الذي يزاول نشر الحق وتبليغ الحقيقة للآخرين. وإلاّ فهناك احتمال قوي أن يخادع نفسه، وعند ذلك لا ينتفع بعمله ولا ينتفع به غيره.
المجاهد يحمل من الإخلاص ما يجعله يختار الله على كل ما سواه، فهو إنسان خالص مخلص، ذو قلب حيّ.. وبذلك يكون الجهاد مثمراً وباقياً. فهو بدلاً من أن يملأ عقول الآخرين بأكوام من الغث والسمين من المعلومات، عليه أن يقرّ في قلوبهم وعقولهم الإخلاص وحسن النية وروح المحاسبة الداخلية والشعور بأن يكونوا من رجال القلوب.
نعم، الجهاد موازنة بين فتح الداخل والخارج. ففيه بلوغ الكمال ودفع الآخرين إليه. فبلوغ الإنسان ذاته جهاد أكبر ودفعه الآخرين إلى الكمال جهاد أصغر. فإذا ما افترق أحدهما عن الآخر ينتفي معنى الجهاد عملياً. فيتولد من أحدهما الذل والمسكنة ومن الآخر العنف والإرهاب. ونحن ننتظر ولادة روح محمدي r، وهذا لا يمكن إلاّ باتباع الرسول r في هذا الأمر كما في كل أمر.
فما أسعد أولئك الذين يبحثون عن وسائل لإنقاذ غيرهم مثلما يبحثون عنها لإنقاذ أنفسهم. وما اسعد الذين لا ينسون أنفسهم في خضم العمل لإنقاذ غيرهم.
الجهاد ماض إلى يوم القيامة. لأنه مهما بذلنا من جهد في سبيل إنقاذ الإنسانية فلا بد أن يظل كفار يصرّون على كفرهم. وهذا يعني استمرار الجهاد، إذ نحن مكلّفون بتعريف ربنا الجليل إلى الناس كافة. فإن اعترض أحد سبيلنا في التبليغ، وأراد أن يصرفنا عن مهمتنا الخالصة النقية، فلا مفر من اللجوء إلى الجهاد الماديّ. نحن مضطرون إلى الانتصار والظهور في كلا الجهادَين المادي والمعنوي، إذ بخلافه نفقد حق الحياة ومتطلباتها كبشر. فلقد ضحى أجدادنا في فترة من الزمن بحياتهم لأجل هذا، إذ لما أراد “الصليب”أن يعترض هذا المفهوم الإنساني الذي يحملونه، وجدوا إزالة المانع في إعداد القوة. وهذا هو معنى الحروب التي خاضها أجدادنا وهذا هو مغزاها.
وحاشا أن تكون لهم غاية سوى التبليغ، وحاشا أن يكون الدافع عندهم حب الاستيلاء والسيطرة على الأماكن، بل كانوا عشاق “إعلاء كلمة الله”وما كان يهمهم شيء إلاّ إبلاغ حقيقة “لا إله إلاّ الله”إلى أرجاء الأرض كافة، حتى لا تبقى عليها نقطة مظلمة لم تتنور بنور الإيمان. فكأنهم كانوا مؤذّني أزمانهم على منائر، رافعين صوتهم بالأذان معلنين الإيمان إلى أرجاء الأرض كافة. نعم إن كلمة “لا إله إلاّ الله”هي التي رنّت في الآفاق من منائر هذه الأمة بلسان الجيش وقرقعة الأسلحة، فلم يك فينا يوماً حب الاستيلاء والسيطرة على الأقوام. فالأذان الذي رفعه السلطان محمد الفاتح وأمثاله من منائر الدولة العثمانية قد بلغت أصداؤه أقصى الظلمات في العالم فنوّرها بـ”لا إله إلاّ الله”حتى إننا نشاهد من لبّى هذا النداء وشهد هذا الأذان الرفيع في ميدان واسع يمتد من غابات بلغراد إلى سفوح هملايا، بل نسمع صداه حتى من موجات المحيطات المتلاطمة.
نعم، الجهاد ماض إلى يوم القيامة، لأجل إنارة كل زاوية مظلمة، وحمل نور اسم رسول الله r إلى كل بقعة، وإضاءة كل ناحية في العالم بنور القرآن المبين، والمؤمنون سيمضون بالجهاد المادي أيضا ليحققوا دورهم في إقامة التوازن بين الأمم والدول ليحظوا باسم “الأمة الوسط”.
ونحن كأمة مكلفون بإحراز هذا الموقع الرفيع.. وهدفنا هو هذا لا غير.. لأن الله I يقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَـطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾(البقرة:143).
هذا يعني: إننا جعلناكم وسطاً لما يحدث بين الدول، وعنصر توازن بين الأمم وشاهداً للاستقامة.. فهو سبحانه يدعونا لنرتقي قمة هملايا ونبلغ ذروة “حراء”لنشارك مشاركة شعورية بما كان الرسول r يستشعر به، فيدعونا إلى التكامل بذاتنا وفطرتنا الموهوبة لنا. ونحن بدورنا إما أن نعقد العزم ونجدده لنرتقي تلك القمة، أو نتقاعس راضين بما نحن فيه فنتردى إلى أسفل سافلين وننسحق تحت الأقدام.