لو كان للعبد الضعيف أو لمحبيه أي هدف سياسي لظهرت بوادره خلال الخمسين سنة الماضية كتأسيس حزب سياسي مثلا. ولكن لم يحصل هذا.
عروض وفرص
ولقد عُرض عليّ وعلى الكثير من إخواني -في أوقات مختلفة- العديد من المناصب السياسية، وتم رفضها جميعًا. كما كان بإمكان “الخدمة” -لو كان لديها طموحات سياسية- أن تؤسس حزبًا سياسيًّا كما فعل الآخرون، وتستثمر الظروف المواتية عام 2001م، في وقت كانت الأحزاب الأخرى تتهاوى واحدة تلو الأخرى… أو على الأقل لكان لها عدد لا بأس به من المؤيّدين داخل الأحزاب السياسية التي حكمت في الماضي أو الحزب الذي يحكم الآن (حزب العدالة والتنمية)، ولكنها لم تفعل ولم ترغب في ذلك أيضًا.
شخصيًّا لا أتبنّى قناعة ممارسة السياسية باسم الدين، أو توظيف الدين لتحقيق مكاسب سياسية، أو ممارسة السياسة بشعارات دينية. وهذا لا يعني أنني أرى أن الانخراط في مجال السياسة أمر غير مشروع. فمع أننا لا نشارك في السياسة ولا نقوم بإنشاء حزب سياسي، لكن لا نرى منع أحد من القيام بذلك؛ لأنه في الديمقراطيات لا يمكن ممارسة السياسة من دون أحزاب، طبعًا “الخدمة” ليس عندها هدف سياسي بمعنى تأسيس حزب، لكن القيم والمبادئ الإنسانية والديمقراطية، والتي تشكل الديناميكية الأساسية للخدمة، تتلامس مع الممارس السياسي بطريقة أو بأخرى.
لو كان للعبد الضعيف أو لمحبيه أي هدف سياسي لظهرت بوادره خلال الخمسين سنة الماضية كتأسيس حزب سياسي على الأقل، ولكن لم يحصل هذا.
السياسة الحزبية والمجتمع المدني
وأفراد الخدمة باعتبارهم مواطنين يتمتعون بكافة حقوق المواطنة وواجباتها كان -وما زال- لهم مطالب من مؤسسات الدولة، شأنهم في ذلك شأن نظرائهم من المواطنين العاديين أو التربويين أو كل ناشط مجتمعي. وقد كانت هذه المطالب دائمًا تدور في إطار القوانين المرعية وتُطلَب عبْر السبُل والطرق المشروعة. ولم يحاولوا ألبتة اللجوء إلى أيّ وسيلة غير قانونية أو غير أخلاقية لتحقيق هذه المطالب.
وبطبيعة الحال، يتوقع المواطنون الذين تعلّقت قلوبهم بـ”الخدمة”، من القائمين على شؤون البلد، السعيَ إلى تعزيز سيادة القانون وحقوق الإنسان والحريات والسلام وحرية الفكر وبناء المشاريع ودعم الاستقرار والأمن في البلاد والحيلولة دون الانزلاق إلى الفوضى أو حدوث الأزمات، والتأكيدَ على تقبّل الجميع والاعتراف بوجودهم.
كما يحق لهؤلاء الناشطين في الخدمة الاحتكام إلى الوسائل المدنية والديمقراطية المتاحة لهم، للإفصاح عن آرائهم حول أوجه القصور في هذا الصدد حال وجودها. إذ إن التعبير عن الآراء في هذا الصدد، ورفْعَ مستوى الوعي العام، هو واجبٌ وطني، وواحدٌ من أهداف المجتمع المدني أيضًا. ولا يلزم بالضرورة تأسيس حزب سياسي من أجل القيام بهذه المهمة، كما لا يمكن اتهام هؤلاء الذين يقومون بهذه المهام بأنهم يقتحمون السياسة، أو يريدون تقاسم السلطة، أو يعملون على تدخّل غير المنتخَبين في عمل الـمُنتَخَبين ديمقراطيًّا. فما ذكرناه آنفًا، هو ما عليه الحال في أيّ نظام ديمقراطي حقيقي، وفي أيّ دولة من دول العالم المتقدّم من حيث الديمقراطية.
عُرِض عليّ وعلى العديد من إخواني -في أوقات مختلفة- مناصب سياسية مختلفة، وتم رفضها جميعا.
الحدود الفاصلة بين السياسي والمجتمعي
إنّ الأحزاب السياسية والانتخابات الحرة هي شروط أساسية للنظام الديمقراطي، ولكنها لا تكفي بمفردها، فالأداء الفعّال والسلس للمجتمع المدني هو أمرٌ مُهم كذلك. ومن الخطأ القول إن الانتخابات هي الطريقة الوحيدة لمساءلة السياسيين أمام عامّة الناس، حيث إنّ المجتمع المدني يستمر بمراقبة السلطة الحاكمة ليرى ما إذا كانت تفي بوعودها أم لا، وذلك من خلال الإعلام والمناشط المجتمعية المختلفة وفعاليات عديدة أخرى في إطار القانون، مثل عرائض الاكتتاب ورسائل شبكات التواصل الاجتماعية.
وبالرغم من أن نشطاء الخدمة التقوا على مبدأ عدم الانخراط في السياسة الحزبية وعدم السعي نحو السلطة، لكن هذا لا يعني أن يتخلّوا كمجتمع مدني عن مسؤوليتهم وصلاحيتهم في مساءلة السلطة السياسية ورقابتها. وبما أن الخدمة ليست تكوينًا بنيويًّا ولا تنظيمًا مركزيًّا هرَميًّا، فليس هناك وجهة نظر سياسية واحدة يتبنّاها جميع المشاركين فيها، كذلك ليس من المعقول القول إن حركة كهذه منحازة إلى حزب بعينه فضلًا عن أن تكون منخرطةً فيه، فللمتعاطفين معها اختياراتهم السياسية الخاصّة، ولا تفرض الحركة أي وجهة نظر معينة عليهم، ولا تتدخل في هذا الموضوع على الإطلاق.
كما أن برنامج الخدمة وتقويمها الزمني لا يتحدَّد وفق التغيّرات الانتخابية والسياسية، بل يتحدّد حسب المشاريع التي تدور في فلك القواسم الإنسانية المشتركة. كذلك، فإن الحركة لا تتدخل في الشؤون الداخلية أو التطورات السياسية في أي بلد نهائيًّا، فحيثما تتّجه تركّز جهدها على تنفيذ مشاريع مدنية تطوّعية في مجالات تعليمية وثقافية وإنسانية. ولكونها تتمسك بهذا المبدأ ولا تفرّط فيه، فهي اليوم تحظى بقبولٍ لأنشطتها في أكثر من 160 بلدًا حول العالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: كلمات شاهدة، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.