أعدَّ موقع نسمات للدراسات الاجتماعية والحضارية (www.nesemat.com)، بالتعاون مع النسخة العربية لصحيفة “زمان” التركية (www.zamanarabic.com) مجموعة من التقارير، في محاولة لتسليط الضوء على ما تقوم به السلطة الحاكمة في تركيا من انتهاكات لأبسط قواعد حقوق الإنسان، والتخلي التام عن الديمقراطية كخيار أساسي، وتسارع وتيرة هذه الانتهاكات بعد الانقلاب المزعوم الذي شهدته تركيا في 15 يوليو 2016، بل واتخاذه ذريعة لتبرير ما تقوم به من حملات ظالمة على قطاعات عريضة من مؤسسات المجتمع المدني.
ويبدأ الموقعان اعتبارًا من اليوم نشر هذه التقارير، وأول تقرير من هذه السلسلة تقرير بعنوان: “انهيار دولة القانون في تركيا”، وهو تقرير مفصل يقع في 60 صفحة، يقدم للقارئ صورة حقيقية بالأدلة الرسمية والأرقام الحقيقية الصادرة عن السلطة التركية، والصحف اليومية التركية، كيفية اتخاذ السلطة التنفيذية للقضاء كأداة لمعاقبة خصومها، والزج بهم في المعتقلات دون اتهام أو دليل، مما يعد انتهاكًا غير مسبوق لحقوق الإنسان في تركيا، كما يتميز التقرير باللغة الأكاديمية، والاعتماد على تقارير دولية أصدرتها مؤسسات محلية وعالمية مرموقة تعنى بحقوق الإنسان.
يقدم التقرير نماذج واقعية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك غياب دولة القانون في تركيا، فلم يعد القانون يطبق، وأصبح القضاء المحلي غير فاعل، وعمل المحكمة مقيدًا بأجندة الحكومة السياسية، مما يعطي انطباعًا بأن القضاء التركي قد فقد استقلاله ونزاهته.
كما عرض التقرير في ثناياه نماذج موثقة من الانتهاكات التي طالت كل عناصر السلطة القضائية وأفقدتها استقلاليتها؛ وذلك بالعمل على تعيين قضاة مؤيدين للحزب الحاكم وموالين للحكومة في هيئة النيابة العامة وأجهزة القضاء المختلفة، وتخول لهم النظر في تلك الدعاوى.
لقد تناول التقرير انهيار دولة القانون في تركيا في خمس نقاط رئيسة.
1 ــ الضغط على هيئة الدفاع
حسب المبادئ التي أقرتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فإن الدفاع يمثل طرفا مهما ومساويا للنيابة العامة في جلسات المحاكمة العادلة، لكن في السنوات الأخيرة بتركيا وتحت ذريعة مكافحة الإرهاب لم يفقد محامو الدفاع قدرتهم على أداء مهمتهم في الدفاع عن موكليهم فحسب، بل صار أداء هذه المهمة جريمة. فعقب الانقلاب الفاشل في يوليو 2016 احتجزت الحكومة التركية أكثر من 1000 محام، وتم اعتقال 114آخرين، ووجهت إليهم مجموعة من الاتهامات من أمثال ارتباطهم بحركات اجتماعية معينة، أو الزعم بأنهم متواطئون في الجرائم الموجهة ضد المتهمين الذين يمثلونهم، وأحيانا أخرى يكون الاتهام الموجه إليهم أنهم دافعوا بحرارة عن موكليهم.
وفي تقرير أعدته اللجنة البرلمانية لمجلس أوروبا (PACE) عنونته بـ “ضمان (تأمين) اتصال المحتجزين بالمحامين” أعربت فيه عن قلقها إزاء الوضع الحالي في تركيا، لاسيما عقب الانقلاب الفاشل. كما جاء في التقرير على لسان الصحافية “مارياتا كارامانلي” من فرنسا: “بغض النظر عن الضغوط التي يتعرض لها المحتجزون وسوء معاملتهم، فإن أكثر ما يقلق هو عدم قدرتهم على إيجاد محامي دفاع يمثلهم أمام المحكمة.
كما عرج التقرير كذلك على عجز المحامين عن وقف تعذيب المشتبه بهم، ونقل عن محامية ما تعرض له موكلها من ضرب بالعصا على وجهه وفي أماكن متفرقة من جسده، وهو مقيد اليدين، ووصفت ذلك بالقول: ” .. وفي لحظة، لم أعد أتحمل أن أشاهد ما يحدث لموكلي وأدرت وجهي، لقد كان موضعًا مريعًا؛ لم يعد باستطاعتي إحصاء الضرب الذي وجِّه إليه، وما كان بإمكاني وقف ما يتعرض له من تعذيب، وفي النهاية استلبوا منه الاعتراف الذي أرادوه”.
ومن أكثر العوامل إثارة للقلق في هذا الملف أيضا هو عمل بعض المحامين ضد مصلحة موكليهم، فقد خاب أمل عدد كبير من المتهمين ممن تقدموا بطلبات وجهزوا ملفات من أجل تقديمها للمحكمة الدستورية حيث اكتشفوا أن المحامين الممثلين لهم لم يتقدموا بهذه الملفات إلا بعد انقضاء المهلة القانونية مما أضر بحقوقهم في التقاضي العادل.
2 ــ الضغط على الهيئة القضائية
ذكر التقرير ما يتعرض له الجهاز القضائي بأكمله من ضغوط مما أفقده استقلاليته ونزاهته وحوله إلى جهاز خاضع للسلطة التنفيذية، وقد تم ذلك من خلال، الفصل التعسفي للقضاة ووكلاء النيابة واعتقالهم، والقبض عليهم بمجرد الاشتباه.
إن القانون التركي رقم 2802 ينص على أنه “لا يجوز القبض على القضاة ووكلاء النيابة إلا في حالة تلبسهم بجناية ذات عقوبة مشددة”، لكن ما حدث هو أن قضاة تركيا قد تم اعتقالهم في اليوم التالي من محاولة الانقلاب الفاشلة، دون وجود دليل على أنهم شاركوا فيه بأي شكل من الأشكال، فضلا عن أنه في الوقت الذي قبض فيه عليهم لم يثبت انضمامهم لأي تنظيم إرهابي، أما ما يُزعم ظهوره من أدلة ملفقة بعد خمسة أشهر من حبسهم، فهي ليست أكثر من اعترافات انتزعت من معتقلين تحت التعذيب.
وفي 12 مايو 2015 شطب المجلس الأعلى للقضاء قاضيا وأربعة وكلاء نيابة من النقابة كانوا قد شاركوا في تحقيقات الفساد الكبرى في الفترة من17-25من ديسمبر 2013، التي أسفرت عن تورط عدد من وزراء الحكومة وأبنائهم، كما طالت الاتهامات أردوغان وأفرادًا من أسرته.
كما أنه وفي الوقت الذي يتم فيه التنكيل بالقضاة الذين يصدرون أحكامًا وقرارات لا تتطابق مع ما تراه السلطة التنفيذية الحاكمة، يتم ترقية وتكريم قضاة آخرين أصدروا أحكامًا تلائم أهواء السلطة؛ فمن ذلك، ترقية “خلوصي بور” قاضي محكمة الصلح الجزائية رقم 2 رئيسًا لمحكمة إسطنبول الجنائية العليا رقم 17 بعدما كان قاضيًا من الدرجة العادية، وذلك عقب إصداره قرارًا بإخلاء سبيل 6 أشخاص منهم الرئيس التنفيذي لبنك الشعب التركي الذي ألقي القبض عليه عقب تحقيقات الفساد المالي الضخمة في 17 ديسمبر 2013.
3 ــ أدوات الضغط
لم تسلم المحاكم التركية وقوانينها التي تنظمها من انتهاكات السلطة الحاكمة، تارة عن طريق استحداث محاكم خاصة عينت السلطة الحاكمة أعضاءها من موالين لها، كمحكمة الصلح الجزائية التي تعد بمثابة يد الحكومة الطولى لقنص كل من يراه أردوغان خطرًا على سياسته، أو من تسول له نفسه بانتقاده ولو على موقع “تويتر”. وتخضع قرارات هذه المحكمة لهيمنة السلطة التنفيذية مباشرة، وفي حال صدور قرار لا يتوافق مع السلطة التنفيذية يتم إقصاء القاضي الذي أصدر القرار مباشرة عبر نقله منها. وتارة أخرى عن طريق ممارسة الضغط على جميع عناصر المنظومة القضائية برمتها.
وتارة أخرى عن طريق الضغط على المنظومة القضائية برمتها بدءًا من المحكمة الدستورية العليا التي يتدخل أردوغان في التنظيم الداخلي لها، ويرفض وضع أي شروط موضوعية لقضاتها، وقضى تمامًا على استقلاليتها باعتقاله لاثنين من أعضائها وهما “ألب أرصلان ألتان” و “أردال ترجان”، ومرورًا بمجلس الدولة الذي خالف الدستور التركي حينما أعلن عدم اختصاصه النظر في القرارات الإدارية التي قضت بفصل 151.967 موظفًا، منهم 7.317 أكاديميًّا، و 4.463 قاضيًا ووكيل نيابة، كما خفضت صلاحيات القضاء الإداري بمرسوم طوارئ رقم 667، حيث تم أبطال صلاحية محاكم مجلس الدولة في إصدار الحكم بإيقاف تنفيذ قرارات السلطة التنفيذية ترى المحكمة أنها تعود بالضرر على الموظف، وانتهاءً بانتهاكات محكمة النقض، ومجلس القضاء الأعلى.
4 ــ ديوان المظالم
هي هيئة تم تأسيسها مع التعديلات الدستورية في عام 2010، للحفاظ على حقوق المواطنين من أي تعدٍّ قد تقوم به مؤسسات الدولة، لكنه بانتخاب “شرف مالكوتش” في ديسمبر 2016 رئيسًا لهذه الهيئة، فقدت كل اختصاصاتها، وأصبحت هيئة شكلية فقط، فـ”مالكوتش” هو كبير مستشاري أردوغان وصديقه المقرب، وحامت حوله شبهت فساد عدة، وصرح قائلا: “إن مراسيم الطوارئ هي لا يتجزأ من المنظومة القضائية، ولذلك فإن ديوان المظالم الذي يتولى رئاسته لن يصغى إلى أي شكاوى عن انتهاكات حقوقية تتعلق بمراسيم الطوارئ”.
5 ــ لجنة تظلمات حالة الطوارئ
أنشأتها الحكومة التركية بضغط من الاتحاد الأوروبي، لتلقي التظلمات بشأن مراسيم الطوارئ، وقد شهدت بطئًا كبيرًا في جميع مراحل عملها، وتأخرًا في توقيتات صدور قراراتها، رغم انتظار عشرات الآلاف من الناس القرارات التي ستصدرها اللجنة بشغف شديد، إلا أن اللجنة إلى الآن لم تراجع إلا 12 ألف تظلم، ورفضت قبول تظلمات 9 آلاف منهم، وقررت إعادة 310 منهم فقط إلى وظائفهم مجددًا، وما زال 96 ألف موظف متظلم في انتظار مراجعة طلباتهم والبت فيها.
هذه إطلالة سريعة على التقرير، ولا شك أن التقرير يعد مادة دسمة للباحثين والأكاديميين المعنين بما آلت إليه أوضاع حقوق الإنسان في تركيا، وسيكون مفيدًا كذلك لكل من يريد أن يطلع عن كثب على حقيقة ما يحدث في تركيا أردوغان، الذي يدعو إلى ضمان حقوق الإنسان في دول الجوار بينما هو بعيد كل البعد عن تحقيق ضمانات تلك الحقوق للإنسان التركي.