أيٌّ من المعاني والحقائق ينهض بإنسان هذه الأمة ويمده بالحياة والبقاء؟ إن المعنى الذي كان يسري في عروقه -حتى البارحة- ويحدد وجهته، ويحفظ حيويته، كان ينبعث من عالمه الفكري وعمقه الوجداني، بل إن الميزة الوحيدة التي اشتهر بها -وهي الفاعلية- لم تكن إلا نبعًا يَمتاح من ذلك العمق الجوّاني ذي الأبعاد المتعددة، شأنُه في ذلك شأنُ الزمن في تداخل أبعاده.
إن هذا المعنى منقوش في روح ماضينا بمئات من النماذج الحية، نقشَ الزينة على الحرير بدقة بديعة، وهو الذي ضَمِن لنا أفضل الرجال تنشئة في العلم والحكمة والسلوك عبر التاريخ في كل ساحات الحياة.
إن شهامة صلاح الدين التي أبداها لقلب الأسد “ريتشارد”، ذلك المتجبر الذي لم يكن يرى إلا ذاته، والتي أذهلته وأخرست لسانه، وأجبرته على طأطأة رأسه خجلاً.. وأصالة “ألب أرسلان”(1) وسُموّه الأخلاقي الذي دفع “رومين ديوجين” إلى الإجهاش بالبكاء شكرًا له وعرفانًا لصنيعه.. ورقيّ “كيليج أرسلان”(2) وإنسانيته حين منح الأسرى حريتهم عقب قتال بطولي شرس أمام حصن أنطاليا ضد الصليبيين الهَمَج.. تلك المواقف النبيلة كلها، لم تكن سوى انتصارات باسم تلك الروح وذلك المعنى.
وما كانت القوة العظمى التي شحنت جيش محمد الفاتح -أعظم جيش في العالم وأحدثه تقنيًّا آنذاك- بِطاقةٍ جديدة أثناء حصاره أسوار بيزنطة الشاهقة، ومنحته مفاتيح عصره وأقفاله، إلا قوة الروح التي كان يمثلها ربانيون أمثال “أق شمس الدين”(3). فلم يكن “الفاتح” ممثل الجبروت المادي المتوحش قط، بل كان رمزًا لتلك الروح السامية، وذلك المعنى العميق الذي تَمثّل في عبقريته العسكرية وحكمته الإدارية. ولو لم يكن كذلك، لما اختلف دخوله إسطنبول عن دخول قيصر روما. لقد دخل العاصمة البيزنطية العريقة بسماحة الروح الطاهرة صلى الله عليه وسلم وعفوِها، تلك التي فتحت مكة المكرمة لتمنح المهزومين حقوقًا لا تحصى، وتشملهم بنبل فريد.
كيف يمكن أن نفسر -ما لم نستحضر هذه الروح وذلك المعنى- سلوك “ياوُز”(4) يوم عاد من الديار المصرية فاتحًا متوَّجًا بلقب الخليفة الأوحد ورمز العالم الإسلامي أجمع؟! كانت الجماهير تنتظر قدومه في إسطنبول لتحتفل بالنصر المبين، وكان بعضُ من لا يعرفون تواضعه، يتوقعون منه أن يدخل العاصمة مرورًا تحت أقواس النصر منتشيًا بهتاف الرعية باسمه وتهليلهم بمجده، لكنه أبى إلا أن ينزل في أُسْكُدار بالضفة الآسيوية من إسطنبول، وينتظر حتى ينقضي النهار وينتصف الليل، ويأوي أهل المدينة إلى مضاجعهم، ويطمئن إلى أنهم قد أخلدوا إلى النوم، فيعبر إلى الضفة الأوروبية من العاصمة بهدوء كامل ودون أن يشعر به أحد.
فأكرِم بعَودٍ مظفَّر عن جميع صور الرياء والتباهي جدُّ بعيد! إنه لَعود حميد تُسَرّ به السماوات، وتهلل له الأرواح الطيبة تكريما! أمَا وقد تسامى هؤلاء الأبطال الأماجد على ذواتهم، وعاشوا بهجة ألف نصر ونصر في قلوبهم، فما أهمية أن يهلل أهل الفناء لهم، أو يستقبلوهم بباقات الورود ودقات الطبول، أو يقفوا بين أيديهم تحية وإجلالا؟!
في تلك الحقبة من الزمان، يوم كانت تلك الروح نابضة في أجسامنا، جارية في عروقنا، مختلطة بدمائنا، مقيمة عروشها في خلايا أدمغتنا، كنا نغوص في أعماق قلوبنا متجاوزين عمقًا تلو آخر من ناحية، ونسعى إلى تثبيت مكانتنا بين الأمم فيما يتعلق بمصير العالم من ناحية أخرى. آه لتلك الروح الغالية! أكان يخطر ببالنا لحظة أن نتنازل عن ذرة واحدة منها؟ انظروا كيف بهتت وتداعت وتفتتت؟!
لعله يجافي الإنصافَ أن نبحث عن أسباب هذه الفاجعة لدى الأرواح المحتسِبة. تلك التي فتحت مجموعة من البلدان في سفرة واحدة، ثم نأت بنفسها بعيدًا عن تهليل الجماهير باسمها دافنة كبرياءها في تراب أُسْكُدار؛ بل الإنصاف أن نبحث عن أسباب الكارثة لدى أرواح ميتة غامضة الجوهر، متآكلة الشخصية، سَدَنةٍ على أعتاب الكبر، قد استولى عليها التعاظم واستهواها التباهي؛ إن حققت نصرًا صغيرًا بحجم البيضة ضخّمته كي يبدو عظيمًا، وملأت أرجاء الأرض صخبًا وضجيجًا، ودخلت عاصمتها دخول الفراعنة الجبابرة.
أولئك يحملون في أيديهم كأس حياة الأمة بأنفاسهم المُحيِية، وهؤلاء أورام خبيثة استقرت في دماغ المجتمع فأصابت أطرافه كلها بالشلل.
أجل، لم يحطّم القيمَ الروحية التي كانت الضمان الأوحد لحيوية الأمة وبقائها بعلمائها ووزرائها ورجال دولتها ورعيتها، إلا روح “الدَّوْشِرْمَة”(5).. تلك الروح المنحوسة حين أقامت المُراءاةَ مقام المروءة، والغدر محلّ الشجاعة، والقوة الغاشمة بديلاً عن الفكر الروحي، والشعوذة موضع الكرامة، والإلحاد والشك مكان الإيمان واليقين، طعنت الأمة في قلبها. وغدت الحشود التي وجدت نفسها في فراغ مظلم، فريسةً لتشاؤم مخيف، ويأس قاتل، وشلل تام. وأضحت الروح في ذلك المجتمع مهيضة الجناح، وبات الوجدان مقفرًا من اللذائذ اللدنية، والقلب مسرحًا لآلاف النزوات النكدة التي تلهث وراء مآرب دنيئة.
في مشهد للحياة رديء متخلف كهذا، نظرت الحشود التي نشأت ونمت في أحضان الخمول والجهل والفوضى محرومة من العشق والتوقد والحماس.. فلم تجد أمامها سوى مجموعة من فناني الحناجر يرفعون عقائرهم بالكلمات القدسية المباركة، لكن بأنفاس لا أثر للروح فيها ولا الربانية مطلقًا، يبتغون من وراء ذلك تجارة دنيوية محضة، فانخدعت بنغماتهم، وحسبتها انتصارًا عظيمًا للمُثُل التي تبنتها والرؤى التي تعلقت بها، فهبّت فرحة مبتهجة تهلل بأسمائهم دون فتور، وتبجّل أفعالهم دون انقطاع، مواصلة نومها العميق.
آه لهؤلاء المشعوذين المحتالين! وَوَا أسفًا على تلك الحشود المسكينة المضلَّلَة المظلومة!
كل ذلك قد وقع ولم يكن بد من وقوعه، لأن المجتمع عندما شعر بضرورة تجديد ذاته، وهمّ بأن يشرع في ذلك، لم يجد أمامه نورًا يهتدي به، ولا مفكرين يأخذون بيده ويبصّرونه بالطريق. كان الغرب حينئذ يجدد ذاته جملة وتفصيلاً، وكان “ديكارت” -رمزُ الفكر الفلسفي الغربي آنذاك- لا يسمي الفكر فكرًا ما لم يكن حرًّا، في حين طُوِيت صفحة التفكر عندنا ووضعت جانبًا منذ زمن بعيد. وبينما كان المفكر الغربي -في تلك الفترة- يغوص في أعماق الأشياء والحوادث، ويحلّق في كتاب الكون بعشق وشوق منقبًا عن المسالك الهادية إلى الخالق العظيم؛ كنا أمة نمرح في أحضان “عهد الّلاله”(6) غافلين لاهين، بل متباهين بتفشّي ألف زذيلة ورذيلة على أنها ثورة حقيقية كبرى. وبينما كان الجزء الآخر من العالم يمرر الآيات الكونية من موشور الفكر، وينطلق لفتح الأكوان كافة؛ كان المشهد عندنا مزريًا مأساويًّا، حيث تحوّل الانحطاط النفسي والتصحر الروحي إلى دوامة مرعبة تتحدى جميع قيمنا الحيوية وتهددها بالانقراض.
أما إنساننا المسكين، فقد كان في مأزق يستدعي الإشفاق عليه حقًّا. كيف لا، وخصومه قد استفاقوا من رقدتهم وانقضّوا عليه كالغيلان، وخِلاّنه قد غرقوا في لهو ولعب يحاكي أساطير ألف ليلة ولية. ومن ثم كان في هذا المناخ القاتم، يبتعد عن ذاته شيئًا فشيئًا كل يوم، ويدفن قيمه الروحية واحدة تلو أخرى في مقبرة الماضي مهيلاً عليها التراب، يدمر ضمانه الوحيد لبقائه في هذه الحياة.
عند حلول تلك الكوارث، لم يكن ثمة أحد من أبطالنا الذين عرفناهم بانتصاراتهم الروحية.. أولئك الذين كانوا يترصدون أدنى مشاعر الكبر والعجب إذا استثارتها في أرواحهم إنجازات كبرى وانتصارات باهرة جعلت مقاليد العالم في أيديهم، فيتصدّون لها، ويدفنونها في ضفة الأناضول داخلين عاصمة الدولة بتواضع منقطع النظير(7)؛ ولا أولئك الذين يأخذون بتلابيب أنفسهم عقب انتصار عظيم، ينهرونها بشدة، ويفترشون الأرض بدهليز مظلم يقضون ليلتهم فيه(8)؛ ولا أولئك الذين يذوبون خجلاً ويتصببون عرقًا إزاء تهليل الشعب بأسمائهم وتمجيده لانتصاراتهم؛ بل كان بدلاً عنهم أفراد من المرتزقة ذوي حسابات آنية مؤقتة، وأرواح مراهِقة وقعت في أسر رغباتها الدنيئة، وقلوب ضعيفة لم تذق في حياتها متعة العيش من أجل الآخرين.
إن الأجيال التي ما فتئت تبحث عن ذاتها منذ ذلك اليوم، خُدعت مرة تلو أخرى، وضُلّلت مرات ومرات. لم يبق أذى إلا ذاقته، ولا مرارة إلا تجرعتها. ولو لم تمتد يد العناية تنجدها وتدلها على طريق الانبعاث في البعد الروحي والبعد الإيماني والأخلاقي، لضاعت ضياعًا مؤكدًا، وكانت اليوم أثرًا بعد عين. أجل، لضاعت بدولتها، ومؤسساتها التربوية، ومنظومتها الأخلاقية والحقوقية، ورؤيتها العلمية والفنية.
فالمهمة الكبرى اليوم، أن نساعدها على أن تعي ذاتها وتتوحد مع روحها، وننقذها من أسر المادة، ونشحن قلبها بالمثُل العليا والغايات السامية. آه، ليتنا تمكنا من القيام بهذه المهمة السامية دون خلل أو نقصان!
(*) نشر هذا المقال في مجلة سيزنتي التركية، العدد 50 (مارس 1983).
الهوامش
(1) السلطان الثاني للدولة السلجوكية العظمى (1029-1072م)، وقد انتصر على الإمبراطور الروماني “رومين ديوجين” في معركة ملاذكرد سنة 1071، ما فتح أبواب الأناضول للأتراك. ووقع رومين ديوجين أسيرًا في المعركة، فأحسن السلطان معاملته، وأطلق سراحه معززًا مكرمًا. (المترجم)
(2) وهو السلطان السلجوكي العظيم (1113-1192م). (المترجم)
(3) وهو شيخ السلطان محمد الفاتح، وكان من العلماء المحققين والعارفين الربانيين، ويعتبر الفاتحَ الروحي لإسطنبول. (المترجم)
(4) وهو السلطان العثماني سليم الأول الذي حكم الدولة العثمانية من 1512 إلى 1520، ولقّب بـ”ياوُز”، ومعناه القوي الشجاع. (المترجم)
(5) وهي الممارسة التي بموجبها كانت الدولة العثمانية تجنّد أولادًا من عائلات مسيحية، يتم تحويلهم بعد ذلك إلى الإسلام ويدرّبون كجنود إنكشارية. تنبع هذه الممارسة من الرغبة بإنشاء طبقة عليا من المحاربين تكون موالية للسلطان. سار هذا التقليد قرونًا طويلة دون أي إشكال، لكنه في القرون الأخيرة أصبح إشكالاً كبيرًا وسبّب للدولة العثمانية كوارث جسيمة. يستخدم فضيلة الأستاذ عبارة “روح الدوشرمة” للإشارة إلى حالة الابتعاد عن الجذور الثقافية الأصيلة، والسعي وراء كل ما هو محدث ولو ناقض ثقافتنا، واستيراد كل ما هو أجنبي دون طلب تأشيرة، وإقامة الزائف الدخيل مكان الحقيقي الأصيل. (المترجم)
(6) وهي الفترة من 1718 إلى 1730 من الدولة العثمانية، كانت فيها زهرة اللاله أو التوليب أو الخزامى رمز الفترة، حيث ساد السلام بعد توقيع معاهدة مع الإمبراطورية النمساوية، ما أتاح المجال لإيلاء مزيد من الاهتمام بالفنون، وازدهرت زراعة أزهار التوليب بشكل كبير في إسطنبول، وساد في المدينة الإسراف واللهو والمجون، وانتهت الفترة بثورة الإنشكاريين حيث خلعوا السلطان أحمد الثالث، ونصبوا السلطان محمود الأول مكانه. (المترجم)
(7) إشارة إلى السلطان سليم الأول (1512-1520). (المترجم)
(8) المقصود السلطان سليمان القانوني الذي حكم الدولة العثمانية من 1520 إلى 1566، وهو أطول مَن حكم الدولة العثمانية. (المترجم)