البصيرة تقابل في كتب اللغة والقواميس: الإدراك، الفطنة، الدليل، الشاهد، وفي كتب التعريفات والمصطلحات: انفتاح عين القلب، سعة الإدراك، استشفاف النتيجة ورؤيتها من البداية، مَلَكة تقييم الأيام الآتية مع اليوم المعاش.
وتكسب البصيرة لدى محاورة أرباب القلوب إحاطة وعمقاً آخر، كالآتي:
البصيرة منبع العرفان الوحيد في دلالة الإلهام والتفكير، وهي المرتبة الأولى لإدراك الروح كُنه الأشياء، فهي شعور وجداني يشخّص ويرى القيم الروحية في المواضع التي يتعسر على العقل تجاوزها لتعلقه باللون والشكل والمظاهر والكيفيات. فهي إدراك منوّر بالتجليات الإلهية، المكتحل بإثمد ضياء الأنس للذات الإلهية، ففي الوقت الذي تتعثر الإدراكات وتسرح هائمة مرهقة في وديان الخيالات، في هذا الوقت يختلي هو بأسرار ما وراء الأشياء مستغنياً عن الدليل والشاهد ويجول في المواضع التي يحار فيها العقل، فيبلغ حقيقة الحقائق.
البصر، صفة نورانية من صفات الله الجليلة، وبصيرة كل مستعد حسب حصته من هذه الصفة الإلهية وفق ميزان ]نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم[ (الزخرف:32) وإن سيدنا محمداً عليه أفضل الصلوات وأتم التسليمات له أعظم حصة في مثل هذا التجلي القَدَري، والأكثر استفادة من هذا النبع اللاهوتي والأكثر ارتواء منه، ومن ثم فهو الذي أفرغ إلهامات روحه في صدور الجموع الحاشدة خلفه، وهو المرآة المجلوّة الوحيدة لتجليات الحق سبحانه، فلا شبيه له في هذا ولا مثيل. وقوله تعالى: ]قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِ[(يوسف:108) بيان يشير إلى مدى خصوصية وعظمة استفادة سلطان الأنبياء والتابعين له من هذه الموهبة والواردات الإلهية.
وبفضل هذا الإدراك النوراني، فإن المسافر الميمون إلى المعراج رأى في نَفَس واحد ما وراء ستار الوجود -الذي هو “عماء” للمحرومين من الإدراك- وجال فيه وطالعه كتاباً مفتوحاً أمامه.. وساح في ربوع الغيب حيث اللوحات المثالية لأركان الإيمان.. وخشع لصريف أقلام القدر الذي تنخلع له القلوب من الصدور.. ومرّ على خباءات الحور ومراتع الغلمان.. واستُقبل بحفاوة عند ]قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى[ (النجم:9) في النقطة التي تتناغم فيها مشاعر “لا مكان ولا آن ولا أرض ولا سماء”.. ووُدّع محمّلاً بالهدايا والعطايا.
وأحياناً يبلغ ما في البصيرة من ذوق المشاهدة إلى عمق آخر مع الفراسـة، بحيث إن الإدراك ينتبه ويتيقظ إلى “تأويل الأحاديث” (أي النفوذ إلى الجوانب الملكوتية للأشـياء واكتناه الأحـداث)، ويحيا الـروح في هذا المكان ذي الأبعاد الثلاثة، ببضعة أبعادٍ معاً. وإذا بالوجدان يصبح عينَ الوجود الباصـرة، ونبضَه الخافق، وعقلَه المكتنه.
أما الفراسة التي ترد بمعنى الحدس والإدراك، فهي تعني تحول الإدراك إذعاناً والبصيرة أكثر عمقاً. فالعيون ذات البصيرة المفتوحة على تجليات نور الحق سبحانه، هي لذوي الوجوه المقمرة الذين لا ينخدعون بالظلال ويرون بنور البصيرة بجلاء تام حتى في أشد الأمكنة عتامة.. ويتجاوزون الالتباسات.. دون أن يتعلقوا بالمتشابهات قطعاً.. ولا تأسرهم الجزئيات، فيدركون حالاً ويشاهدون السكّر في قصبه، والأوكسجين والهيدروجين في روح الماء. ولا تجول قلوبهم إلاّ في إقليم “الفرق”.
إن كل نقطة من سيماء الإنسان وفي وجه الكائنات، وكل كلمة، وكل سطر، لفظ مترع بالمعاني البليغة الكثيرة، بل هو كتاب مفتوح للذين يجولون في ظل قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ).( ) وبسرّ الحديث الشريف (اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ)( ) فإن ذوي المنـزلة الرفيعة قد تربعوا في نقطة ترصّد يشاهدون منها أقطار الوجود ويتعاملون مع حقيقة الأشياء، فيطّلعون على الوجه الحقيقي للوجود بما وراء الأستار، وينثرون النور على الأحداث مكتنهين الوجه الحقيقي لكل شيء فيبرزونه للعيان، ويسعون في ربوع فردوسية من لذة إلى أخرى، وأنف الذين يقضون حياتهم حول الثقوب السوداء راغم.
فالوجود، في نظر الروح التي لا تفتح عينها ولا تغمضها إلاّ بالفراسة، صفحات متوالية من كتاب. وجميع الأشياء، الحية منها وغير الحية كلمات مشعة بألف معنى ومعنى. وإن وجه الوجود وسيماء الإنسان بيان واضح لا يخدع. فرجال القلوب يبصرون بما لا تقدر على رؤيته كل عين، ويسمعون بما لا تسمع به كل أذن من الآيات التكوينية لذلك الكتاب، ومن جملها التي تبرق بالنور، حتى أن أعظم الأدمغة تعجز عن تصوره. ففي كل لحظة يشعرون بالعجائب ويحدسون توقعاتها – كل مؤمن حسب درجته – ويتلذذون بها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
اللّهم إنّا نسألك قلوباً أوّاهة مخبتة منيبة في سبيلك، وصلّ وسلم
على سيدنا محمد مرشد سبيلك وعلى آله وصحبه أجمعين.