الإرادة هي قابلية الطلب، الرجاء، القدرة على تحقيق الرغبات والطلبات، أو الترجيح بين شيئين. وقد عُرّفت لدى الذين يحيون في مستوى القلب والروح بأنها استعلاء على مطالب النفس، وعصيان على الرغبات البدنية، وإيثار رضاه تعالى على مطالبه ورغباته، والفناء فيه سبحانه وفي مراده في كل الأمكنة والأزمنة.
والمريد، هو المتجرد عن حوله وقوته، المستسلم المنقاد لإرادة القدير المطلق الذي بيده مقاليد كل شيء، من الذرات إلى المجرات.
أما المراد، فهو الروح السعيد المشحون بما يريده تعالى، المنغلق كلياً عما سواه، فلم تبق لديه رغبة ولا شهية غير رضاه تعالى، فغدا مرادَ الله ومطمحَ نظره سبحانه.
والإرادة هي أول منـزل لسالكي الحق، وأول محط للذين نشروا أشرعتهم نحو الخلود، وذلك حسب حقيقة قوله تعالى: ]يُرِيدُونَ وَجْهَهُ[ (الأنعام:52؛ الكهف:28). فالذين توجهوا إلى اللامتناهي يمرّون بهذا الميناء وبهذا المدرج للطيران، وبقوته العمّركزية (القوة الدافعة عن المركز) يرتفعون ويسيرون نحو الهدف.. هذا السير يتناسب طردياً مع صفاء الشخص ودرجة علاقته بالمادة وقوة الدفع للمركز. وحسب توفيق الحق سبحانه وقوة إرادة الفرد، يقطع بعضهم هذه المسافة بسرعة المشي على الأرض، وبعضهم بسرعة القمر الصناعي، والصاروخ، والضوء. وبعضهم يقطعونها بما يفوق جميع مقاييس الكم.. فالمعراج للنبي، ونهاية المراتب للولي والسير والسلوك للدرويش.. أمثلة ساطعة على الإرادة المعززة بتوفيقه سبحانه والمريد والمراد.
هناك علاقة بين المريد والإرادة، لكنها علاقة اشتقاق لغوي على الأكثر. فكما أن الأسباب أصبحت أمام نظر العقول السطحية، ستاراً للعزة الإلهية وعظمتها، فإن إرادة الإنسان كذلك التي هي وجود إضافي، ظل لظل إرادة مَن هو ]فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ[ (البروج:16). وكما أن الظل تابع للأصل، فالإرادات المخلوقة تابعة للإرادة الخالقة، فما يُتوهم في الظل من لمعات وحيوية وجاذبة لا تختلف عما هي في الصور المنعكسة على المرايا، إلاّ أنه ليس يسيراً إدراك المبتدئين لهذا.
فالمريد لن ينجو من “الفرق”، ما لم يربط إرادته بالإرادة المطلقة، فيبلغ أفق المراد، وما لم يرتفع من البدن إلى الروح، ومن الجسم إلى القلب، ومن الفكر إلى الوجدان، إذ يرى الإرادة شيئاً وصاحبَ الإرادة شيئاً آخر والمراد شيئاً آخر.
نعم، إن السالك مريد في بداية الطريق، ومراد في نهايته.. فهو مريد لدى سعيه لتمليك طبعه العبودية، وهو مراد عندما تبلغ علاقته مع الحق سبحانه حالة لا تنفك عن الفطرة.. وهو مريد لدى بحثه عن طرق التحبب والرجاء، وهو مراد عندما يرى آثاراً منه تعالى في كل شيء، فيشرع بنسج بديع من الذوق الروحاني ذهاباً وإياباً بمكوك المعرفة والمحبة.
وضمن هذه المسافة الشاسعة بين بداية علم اليقين إلى نهاية حق اليقين ابتداءات وانتهاءات نسبية كثيرة. فمثلاً: قوله تعالى: ]رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي[ (طه: 25) بالنسبة للكثيرين انتهاء، ولكنه ابتداء بالنسبة إلى الحظوة بـقوله تعالى: ]أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ[ (الانشراح:1).. وكذا قوله تعالى: ]رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ[ (الأعراف:143) نهاية بالنسبة لمقامه، ولكنه يعدّ ابتداء حسب أفق قوله تعالى: ]مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى[ (النجم:17).. وهكذا قوله تعالى: ]إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[ (الشعراء:62) الذي هو تعبير عن إدراك للمعية، لا يقاس مع الحقيقة السامية في قوله تعالى: ]لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا[ (التوبة:40).
نعم، إن الأساس في المبدأ، هو الصدق والوفاء والعزم.. وفي المنتهى، الجدية، التمكين والأدب. فالذين قصّروا في المبدأ يظلون في الطريق، بينما في المنتهى يعاتَبون ويؤنبون.
إن من أهم المنابع المغذية للإرادة هو الحساسية والدقة في أداء التكاليف، مع التوسل والتضرع إليه تعالى. وأسبق من هذا، هو أن العناية الإلهية مرتبطة بالأخذ بالنوافل بدقة متناهية كي تكون عين الإنسان التي يبصر بها وأذنه التي يسمع بها ولسانه الناطق بها ويده التي يبطش بها.( )
اللّهم ألهمني رشـدي وأعذني من شـر نفسي،
اللّهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وصل اللّهم
على سيدنا محمد المختار وعلى آله وأصحابه المقربين الأبرار.