الحياء هو الخجل، الحِشمة. وفي الاصطلاح الصوفي، اجتناب ما لا يرضاه سبحانه خشية منه ومخافة ومهابة. فاستناد هذا الحس إلى شعور الحياء المغروز في طبيعة الإنسان يجعل ذلك الشخص رابط الجأش وأكثر انسجاماً وموافقة للأدب والاحترام. ولا شك أن إنماء مثل هذا الحس، حس الحياء، عسير لدى المحروم منه أساساً، أو لدى المحيط الذي حرمه منه أو الأشخاص الذين أضاعوه.
ويمكن أن نقسم الحياء وفق ما يُفهم من الإشارات المذكورة أعلاه إلى:
- الحياء الفطري، ويطلق عليه أيضاً الحياء النفسي، الذي يمنع الإنسان من اقتراف ما يعيبه أو يُستَعار منه.
- الحياء الناشئ من الإيمان، الذي يشكّل عمقاً مهماً للإسلام.
وما أن يتغذى الحياء الفطري بالحياء الموجود في روح الدين الإسلامي، حتى ينمو ويشبّ مشكّلاً سدّاً مانعاً عظيماً تجاه العار والعيوب. في حين لو أنفرد الإنسان بإحداها، قد يتزعزع تحت تأثير بعض الأحوال والشروط، وينقلب على عقبيه وربما ينهار كلياً.
نعم، إن ما في طبيعة الإنسان من حسّ التضايق والتحرج لا يدوم إن لم يربّ بالشعور الإيماني الذي توضّحه الآية الكريمة: ]أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى[ (العلق:14) وبمفهوم الإحسان الذي تعبّر عنه الآية الكريمة: “إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيبًا” (النساء:1) ذلك لأن وجود الحياء ونموه ودوامه مرتبط بالإيمان. وفي الصحيح: (مَرَّ النَّبِيُّ r عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ). وفي حديث آخر أنه r قال: (الإيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ). وعلى هذا يصح أن نقول: إن الحياء الفطري، -كالنوى الخيرّة الاخرى المخبوءة- في طبيعة الإنسان، ينمو ويستوي على سوقه بنسبة تغذّيه وتقويته بمؤثرات المعرفة التي تجعل الإنسان إنساناً، حتى يصبح بُعداً للحياة القلبية والروحية، ويقيم سداً مانعاً لكثير من نـزوات النفس الطائشة. وبخلافه أي إن لم يُنَمَّ هذا الشعور بالإيمان والمعرفة، ولم يُقوّ بشعور الإحسان، ودُفع إلى الضمور والعماء بالانغماس في متاهات نفسانية، فلا محالة من وقوع ما يندى له الجبين في مستوى الفرد والمجتمع. والرسول الكريم r فخر الإنسانية، ومثال الحياء، ينوّه إلى هذا الأمر في قوله r : (إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ). الحياء والحياة كلمتان متناظرتان، ومن هذا القرب فإن حياة القلب لا تكون إلاّ حسب ما فيها من قوة خُلُق الحياء الذي ينشأ وينمو بوابل من مطر الإيمان والمعرفة. نعم، إنما تستمر الحياة وتدوم بمقوماتها وكذا يوجد الحياء ويحيا بمقوماته، وإلاّ فلا محالة ينقرضان.
سُئل الجنيد عن الحياء، فقال: “رؤية الآلاء ورؤية التقصير، فيتولد من بينهما حالة تسمى الحياء”. أي أنه حالة قلق برؤية آلاء الله سبحانه المادية والمعنوية التي تنـزل علينا بجنب تقصيراتنا ونواقصنا تجاهه سبحانه.
والحياء لدى ذي النون المصري هو الشعور بالتوحش الدائم في القلب من الأطوار غير اللائقة، والعودة إلى مراقبة توجهاتنا.
ولدى آخر: تنظيم الإنسان لحياته وفق علمه باطلاع الله على السر والعلانية، واتخاذ معاملاته سبحانه له أساساً في حياته. فقد ورد في الأثر الآتي: “كان سليمان الداراني يقول قال الله عز وجل إنّك إن استحيَيتَ مني أنسيت الناس عيوبَك”. ومن المفيد أن نذكّر هنا بقول الله سبحانه لسيدنا عيسى u وهو : “يَا عِيسَى عِظْ نَفْسَكَ فَإِنِ اتَّعَظَتْ بِهِ فَعِظِ النَّاسَ وَإِلاَّ فَاسْتَحِ مِنِّي”.
وهناك تقسيمات أخرى مختلفة في موضوع الحياء، نذكر منها:
حياء “الزلة” المترشح من أطوار سيدنا آدم u، لحين مجيء الأمر بالغفران.
وحياء “التقصير” كحياء الملائكة الذين يسبّحون الليل والنهار لا يفتُرون، ومـع ذلك يقولون “ما عبدناك حـق عبادتك”.
وحياء “الإجلال” لأرباب المعرفة الذين يقولون “ما عرفناك حق معرفتك” مع بالغ عمقهم في التعظيم.
وحياء “الهيبة” لأرباب الروح والقلب الذين يستشعرون به، فيحيون سائحين في أفق التجرد عن رغباتهم الشخصية.
وحياء “المنّة” لأصحاب اليقين الذين يعيشون كل آن في تلونات البُعد في القُرب والقُرب في البُعد، فيستشعرون منتهى القُرب مع أنهم في منتهى البُعد.
وحياء “عدم الوفاء” النابع من القلق من عدم إيفاء حق المحبة اللائقة بالمحبوب الحقيقي سبحانه.
وحياء “الإخلال بالإخلاص” لمن يحملون همّ عدم الاختيار الجيد عند مقام الدعاء والطلب.
وحياء “الغيرة” للأرواح العالية التي تستشعر أنها في أحسن تقويم، فلا يقدر على ملاءمة هذه الحظوة مع أعمال تافهة لا تناسبها.
فالمرتبة الأولى للحياء، حياء يتولد من نظرة الإنسـان إلى نفسه بنظر الحـق سـبحانه. فإن محاسبة الإنسان لنفسه بمقاييس الله الرقيب عليه وموازينه يـتـولـد منها حياءٌ مطبوع بالحـذر، بحيث يعدّ مثل هـذا الإنسان حياً بمشاعره وأفكاره على الـدوام.
المرتبة الثانية: حياء يتناسب تناسباً طردياً مع مشاعر القُربة والمعية الإلهية، وهذا ميسّر لمن يسيح في أفق ]وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ[ (الحديد:4) وقد قال سيد السادات r: (اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الإسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ).
المرتبة الثالثة: تتحقق بحدس في أعماق الشهود للحياة الروحية والقلبية، وتستمر إلى الأبد تحت جناح السير الروحاني في طريق الوصول إلى هدف ]وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى[ (النجم:42). إذ حظ الإنسان ونصيبه من الإنسانية الحقة هو بقدر حظه من الحياء، فإن عجز سالك الحق عن التوجه وتنظيم سلوكه في جميع محاولاته، الإيحابية والسلبية، وفق الآخرة والغيوب، وعجز عن التفاني التام في المحوية ومن العيش في أدب جمّ، فإن وجوده عارٌ – من زاوية- بالنسبة إليه، وحمل ثقيل بالنسبة لغيره. وعلى هذا قيل:
فَلاَ وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ وَلاَ الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ
الحياء خُلُق إلهي وسر من أسرار الله سبحانه، فلو عرف الناس أينما تعلق الحياء، لكانت حركاتهم وسكناتهم أكثر دقة وحساسية. وننقل هذه الواقعة لتنوير ما ذُكر:
يحاسب الله يوم القيامة شيخاً فيقول: لم اقترفت هذه الذنوب؟ فينكر الشيخ ذلك بأنه لم يذنب. ويقول له أرحم الراحمين: خذوه إذن إلى الجنة. فيستفسر الملائكة: يا رب إنك أعلم بما أذنب. فيقول الله لهم: ولكنه من أمة محمد، نظرت إلى شيب رأسه ولحيته فاستحييت أن أُطلعه على ذنوبه. وحسب رواية كنـز العمال: أن جبريل u عندما أخبر النبي r الخبر بكى، “فقيل: يا رسول الله ما يبكيك؟ قال: “بكيتُ لمن يستحي الله منه ولا يستحي من الله”.
الخلاصة:
إِنَّ الْحَيِيَّ مِن أَسْمَاءِ اْلإِلَهِ وَقَدْ جَاءَ التَّخَلُّقُ بِاْلأَسْمَاءِ فاحظَ بِهِ
اللّهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع
ومن دعـاء لا يُسمع ومن نفس لا تشبع.
وصلّ اللّهم على خير خلقك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين آمين.