الاستقامة التي تعني السداد والاعتدال عُرّفت لدى أهل الحقيقة: تجنب الإفراط والتفريط في كل الأمور؛ في الاعتقاد، في الأعمال، في جميع المعاملات والأحوال والكلام، بل حتى في الأكل والشرب، مراعياً السير في طريق الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، فهؤلاء، يُبشَّرون في العقبى وتحتفي بهم الملائكة صفاً صفاً، فيبتهجون بهذه البشائر في يوم يخيّم فيه الخوف والهلع وتتوالى فيه العقبات من كل جانب، وذلك لإيمانهم بربوبية الله سبحانه وتصديقهم بوحدانيته جلّ وعلا، ولسلوكهم مسلك الأنبياء في إيمانهم وأعمالهم ومعاملاتهم. كما تخبر به الآية الكريمة: ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنـزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ[ (فصلت:30).
الاستقامة في مرتبة الطبع: إقامة التكاليف. وفي مرتبة الذاتية (الإنيّة): الاطلاع على حقيقة الشريعة. وفي مرتبة الروح: الانفتاح للمعرفة. وفي مرتبة السر: تذوق روح الشريعة. ونلمس الصعوبة البالغة في رؤية هذه المراتب ورعايتها في قول ذلك العظيم روحاً ومعنى r، حيث قال بمغزى عميق: (شَيَّبَتْنِي هُودٌ)( ) مشيراً به إلى الآية الكريمة ]فَاسْـتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ[ (هود:112). أوَ ليست مشاعره وفكره وأحواله وأطواره كلها كانت على الاستقامة ؟ ويسأله صحابي جليل يريد النجاة والفوز بالسعادة الأبدية قائلاً: (يَا رَسُولَ اللهِ حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ. قَالَ: قُلْ رَبِّيَ اللهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ) فاختصر r في جملتين اثنتين من جوامع الكلم، الاستقامة التي هي جامع أسس العقائد والأعمال.
نعم، إن لم يكن سالك طريق الحق مستقيماً في حالته، ضاع سعيه وخاب جهده. كما يُسأل عن إضاعته للزمان من غير طائل.
الاستقامة شرط في البداية وزاد في الطريق للحصول على النتيجة، فهي منطلق الطريق. أما في نهاية السلوك فهي عوض معرفة الحق سبحانه وثمنها، وشكرٌ – يعدّ واجباً – لبلوغ معرفة الحق.
ومن أهم علامات الاستقامة: خلو الحياة من الروَغان في البداية، ومراقبة النفس في أثناء الطريق، والكفّ عن كل ما لا علاقة له بالله سبحانه من فكر وسلوك.
وما ألطف ما قاله أحد أولياء الحق:
كَسِي دَانَم زِ اَهْلِ اِسْتِقَامَتْ كِه بَاشَدْ بَر سَرِ كُويِ هِدَايت
بَا اَنْوَار هُوِيت جَان سُپرده زِاُوسَـاخِ طَبِيعَت پَاك مُرْدَه
أي: أعلمُ أن أحدَ رجال الاستقامة، قد أقام على رأس قرية الهداية، كان يُودِع روحه وأسلمها وديعة إلى الأنوار الذاتية، فمات طاهراً من لوثات الطبيعة.
نعم، على العبد أن يكون طالب الاستقامة، لا طالب الكشف والكرامة، ذلك لأن الله هو الذي يطالب بالإستقامة والعبد مولع بالخوارق. فأيهما يُفضّل: ما يطلبه الله أم ما تعلقت به قلوبنا ونظل لاهثين وراءه؟
ولما قيل لأبي يزيد البسطامي: إن فلاناً يسير على الماء ويطير في الهواء، قال: والأسماك والضفادع كذلك تسبح في الماء، والذباب والطيور تطير في الهواء “ولو رأيتم أحداً فرش سجادته على الماء وهو يعوم أو تربع في الهواء، فلا تقتدوا به حتى تنظروا ما في أحواله من استقامة ومطابقة للسنة النبوية”.( ) فيرشدنا بهذا إلى التواضع الجمّ على خط الاستقامة وميدان العبودية دون التحليق في أجواء الكرامات والخوارق.
الاستقامة، في طريق القربة (إلى الله) هي المرتبة الأخيرة لثلاث مراتب:
المنـزل الأول: التقويم، يوفق السالك في هذه المرتبة على تأديب نفسه إلى حدّ ما بتوالي أدائه لأقسام الإسلام النظرية والعملية، حتى يجعلها جزءاً لا يتجزأ من طبيعته.
المنـزل الثاني: الإقامة والسكون، يبتعد السالك عن المساوئ التي تخص عالم الأمر -كالرياء والسمعة والعجب التي لا تأتلف قطعاً مع العبودية- فيهذّب قلبه من الشرك وشوائبه.
المنـزل الثالث: الاستقامة، هذا المقام هو مقام انفراج أبواب السر لسالك طريق الحق، ونقطة قطب لنـزول الواردات الإلهية باسم الكرامات والإكرامات. فالاستقامة بهذا المعنى، وبالشكل المتعارف بين أهل الحق، هي إدامة الحياة في دائرة “يد الله” ووفق “قدم صدق”،( ) منخلعاً في كثير من الأوقات من العاديات، حيث إن هذا الإقليم إقليم الخوارق الذي تنـزل فيه الألطاف الإلهية غدقاً… فالأزهار فيه لا تذبل، والمروج فيه لا تعرف القر والحر.. بل ربيع دائم مقيم يزهر. هذه الديمومة وعدم الموت تبيّنها الآية الكريمة ]وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا[ (الجن:16)، فورود (أسْقَيْنَاهُم) بدلاً من (سَقَيْنَاهُم) يشير إلى هذه الحقيقة، أي إلى الدوام، كما أن (غَدَقًا) يعني الماء الغامر الكثير. وكذا الـ(س) الموجودة في (اسْتَقَامُوا) الدالة على الطلب تذكّرنا بالآتي: أنتم لو طلبتم إقامة حياتكم على التوحيد، وراعيتم العهود التي بينكم وبين الله ورسوله r، وحافظتم على الحدود الإلهية، سيسيل عليكم هذا النبع دون انقطاع.
وسيدنا الرسول r يقول مشيراً إلى هذه الحقيقة: (لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ)( ) وكذا يقول: (إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ أَعْضَاءَهُ تُكَفِّرُ لِلِّسَانِ تَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّكَ إِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا).( )
وأخيراً لنستمع إلى تذكير حيوي من “أسعد مخلص باشا” إذ يقول:
الصدق والثبات ضروريان في الاستقامة
ثبت قدمك في المركز وطرف البركار في الدوران.
اَللّهم اهدنا الصراط المستقيم، وصلّ وسلّم على سيدنا محمد سيد المتقين وآله وأصحابه أجمعين.