المحبة هي الحب، علاقة قلبية، هيام بأي شيء أو بأي شخص. والذي يهيمن على جميع مشاعر الإنسان هو العشق. والوصول إلى أبعاد عميقة بالاحتراق رغبةً في الوصال، هو الشوق والاشتياق. وعُرّفت المحبة أيضاً بأنها علاقة القلب بالمحبوب الحقيقي.. وشدة الاشتياق له بما لا يمكن مقاومته، والانصياع التام له في كل مسألة من المسائل خفية كانت أو جلية.. ومراقبة مراد المحبوب فيما يريد وغياب المحب عن نفسه حتى أعتاب الوصال. ويمكن إرجاع كل ما ذكر إلى نقطة واحدة وهي: الامتثال لدى الحضور الإلهي، والتجرد عن جميع الهموم والعلائق الفانية، مردداً: يا حق.
والمحبة الحقيقية إنما تتحقق بتوجه الإنسان بكيانه كله إلى المحبوب سبحانه والبقاء معه، وإدراكه له وانسلاخه من جميع الرغبات الأخرى ومن جميع الطلبات، بحيث إن قلب البطل الذي ظفر بهذه الحظوة ينبض كل آن بملاحظة جديدة تخص الحبيب.. وخياله يجول في إقليمه الساحر.. ومشاعره تتلقى كل لحظة رسائل متنوعة منه.. وإرادته تحلّق بهذه الرسـائل.. وفؤاده يسرح في متنـزهات الوصال.
فالمحب الذي اخترق أجواء نفسه بأجنحة المحبة ووصل إلى ربه في بُعد العشق والشوق لدى أدائه لحقوق سلطان قلبه ومسؤولياته نحوه، بأعضائه الظاهرة ومشاعره الباطنة، فإن قلبه منشغل به دون انقطاع وهويته محترقة بسبحات وجه الحق( ) وفي حيرة وإعجاب، وعلى شفتيه كأس العشق.. وعندما تنفرج أمامه أستار الغيب الواحد تلو الآخر ينتشي بمطالعة المعاني المترشحة من وراء هذه الأستار، وهو في ذوق المشاهدة التي لا تطال.
فإذا ما سار سار بأمر الحق سبحانه، وإذا ما وقف وقف بأمره، وإذا تكلم تكلم بنفحات منه، وإذا ما سكت سكت لأجله، فهو أحياناً في أفق “بالله” وأحياناً في أفق “من الله” وأحياناً في أفق “مع الله”.
نعم، إذا نسبت المحبة إلى الحق سبحانه فهي إحسان، وإذا أسندت إلى الخلق فهي خضوع وطاعة وانقياد. وما تقوله رابعة العدوية له أهميته في إبراز هذه المعاني:
تَعْصِي اْلإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هَـذَا لَعَمْرِي فِي الْفِعَالِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأطَعْتَهُ إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ( )
هذا وللمحبة ركنان مهمان:
- ظاهري، وهو تعقب رضا المحبوب كل حين.
- باطني، وهو الانغلاق التام تجاه ما لا علاقة له بمحبوبه في عالمه الداخلي.
فرجال الله يقصدون بالمحبة هذه الأخيرة، ويرون أن العلاقة إزاء اللذة والمنفعة بل حتى الأذواق المعنوية، ليست محبة، ولو أُطلق عليها هذا الاسم فهي محبة مجازية.
بيد أن المحبة الحقيقية أيضاً ليست على مستوى واحد لدى الجميع من حيث تعلقها بالمحبوب فهناك:
- محبة العوام، وهي محبة تتردد بين الهبوط والصعود، فهؤلاء يرون رؤى الإحسان تحت ظل الحقيقة الأحمدية، ويشاهدون علامات تخص بزوغ فجر المعرفة.. وفي موضع آخر يرتعدون بشهب الغيوب ويشعرون برعشات الحيرة من بعيد.
- محبة الخواص: فهم كالعُقبان المحلّقة في أجواء عالم المحبة يثرون عمرهم دوماً بالعمق والخصب بامتثال الأخلاق المحمدية r في عالم القرآن المنور، من دون أن يطلبوا عوضاً، مادياً كان أو معنوياً، جسمياً كان أو روحياً، أثناء تمثلهم، بل لا يطلبون ذوقاً، وإذا تمكنوا من أداء واجبهم على أفضل وجه يخفضون أجنحة التواضع إلى الأرض كالأشجار المثقلة بالعناقيد ويئنون باسم “الحبيب”. وإذا ما تزلزلوا بخطأ أو بخيبة وإخفاق يشددون الخناق على أنفسهم ويحاسبون أنفسهم أشد الحساب.
- خواص الخواص، فهم كالغيوم المحمّلة بالأمطار في السماء المحمدي.. بهذه المحبة يستشعرون الوجود، وبها يحيون، وبها يبصرون، وبها يتنفسون. في دور دائم لا نهاية له من الامتلاء والإفراغ، فإذا ما شحنوا بها شحنوا برغبات الشوق والمعاناة والوصال، ولدى الإفراغ يمتطون النور وينـزلون على الأرض فيحتضنون بحنان الموجودات جميعها حيّها وميتها.
وعلى الرغم من اختلاف مستويات المحبة، فإن من توجّه إليه تعالى بعشق وشوق يقابَل ويكرَّم حسب مستوى علاقته.
فالأولون: يجدون في بابه سبحانه الرحمة والعناية الخاصة بهم.
والثواني: يصلون إلى أفق إدراك الصفات الجلالية والجمالية، وينجون من الثغرات البشرية وظلماتها.
والثوالث: يتنورون بنور وجوده سبحانه، وينتبهون إلى حقيقة الأشياء ويربطون علاقات مع ما وراء الأستار.
بمعنى أن الله سبحانه يتجلى أولاً بسبحات وجهه سبحانه، فيحرق ويهدم الصفات الجسمانية والظلمانية لمن يحبّهم، ومن ثم يأخذهم بأنواره الجمالية إلى دائرة صفاته الجليلة كالسمع والبصر، فيجعل القطرة بحراً والذرة شمساً. أي ينبههم إلى ما في نفوسهم وكيانهم من العجز والفقر، ويوصلهم إلى الإذعان بعدميتهم، ويملأ قلوبهم بأنوار وجود الذات الإلهية.
فالمحب الذي نال هذه الحظوة، يصل إلى حياة أبدية لا يمكن وصفها بالوجود والعدم. لذا قد يتمتم بما يستشعره ويتحدس به بكلمات مشوبة بالحلول والاتحاد، كالحديد المحمرّ بالنار يظن أنه نار فيقول: أنا النار، وهو ليس بنار. ففي أمثال هذه المواقف، فالحذر واليقظة وموازين السنة النبوية هي الأساس. أما رجال الحق الذين غلب عليهم الحال وهم مخمورون بحظوظ المشاهدة، فقد يتلفظون بأمور مخالفة لهذه الحقيقة. ففي أمثال هذه المواقف، ينبغي البحث بإنصاف عن نيّاتهم وعدم الاستعجال في إصدار الحكم عليهم. وإلاّ سيُضمر العداء للكثيرين – من دون شعور – ممن نالوا المعية الإلهية، بمضمون الحديث الشريف (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)( ) ويكون قد أعلن الحرب على الله وفق مضمون الحديث القدسي (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ).( )
اللّهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر
والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
وصل وسلم على سيدنا محمد سيد المرشدين وعلى آله وصحبه أجمعين.