سؤال: ترون أن “ثمّة ثلاثة عناصر مهمة تُحيي الأمم: الدين والحكمة و القوة”، فليتكم تبيّنون لنا هذا؟
الجواب: أولًا: الدين: “وضعٌ إلهيّ سائقٌ لذوي العقول باختيارهم المحمودِ إلى ما هو خيرٌ لهم بالذات”، وهذا التعريف الإجمالي موافق لما في الكتاب والسنة ولو لم يرد فيهما بهذا اللفظ؛ فالدين نظام إلهي أو مجموعة أنظمة إلهية، وأهم ما يميزه عن الأنظمة البشرية أنه وضع إلهي؛ لذا أُطلق على الأنظمة الأخرى “الوضع البشري” أو “القوانين الوضعية” أي قوانين وضعها البشر؛ وسَوْقُ الناس بالدين إلى الخير أمرٌ خاصٌّ بالله سبحانه وتعالى، لكن هذا السوق لا ينفي إرادة الإنسان، فالناس ذوو إرادة وإن كانت نسبيةً؛ لذا لا يُساقون كالجمادات من نقطة إلى أخرى؛ والنتيجة أن الدين نظام إلهيّ كليّ متمثلٌ بالكتاب والسنة، وصفوة اجتهادات السلف الصالح فيهما.
ثانيًا: أما الحكمة فلها تعريفات، قال الله عز وجل مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (سُورَةُ النِّسَاءِ: 4/113)، فعطف الحكمةَ على الكتاب؛ لذا قال كثيرٌ من المفسّرين: إن الحكمة غير الكتاب، لأن المعطوف غير المعطوف عليه، وقال تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/269)؛ والسنةُ مصدرٌ لخير عظيم وفير يُضاعِفُ الواحدَ إلى الألف، ويوسّع الدائرة، فهي تفصِّل مجمل القرآن، وتخصص عامَّه، وتعمّم خاصَّه، وتقيد مطلقه، وتطلق مقيده؛ لذا يرى المحدثون أن السنة هي المقصود من الحكمة المذكورة في الآية؛ فالسُّنةُ خير كثير، ورسولنا صلى الله عليه وسلم هو أول وأعظم ناهلٍ من هذا الخير.
وقد حُملت الحكمة أيضًا -كما أشار الأستاذ النورسي- على أنها تبيان القضايا الإسلامية التي عُلّمْناها حقًّا وحقيقةً بالكشف والمشاهدة، والاطلاع على ما وراء الحجب؛ إننا نرى حولنا بابًا ونافذة وأربعة جدران فحسب، أما الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فيقول: “إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ”[1].
وقد بُحث في مفهوم الحكمة الاطلاع على ما وراء الحجب بهذا المعنى، ويتحقق هذا الاطلاع بانكشاف الحدس وسعة الخيال وبالكشف والمشاهدة، وما نعلمه نحن علم اليقين ونستدل عليه بالعقل يكتشفه أهل الله في ضمائرهم، ويحسّون به، بل يعيشونه، وهذا خير كثير أيضًا.
واستُخدمت الحكمة بمعنى الفلسفة أيضًا، فمعظم المحقّقين تصدوا للفلسفة منذ زمن بعيد. نعم، تسللت إلينا أفكار فلسفية من تهاوننا حينًا من الدهر، لكن علمَ الكلام وما فيه من أدوية وعلاج يشبه المضادات الحيوية قضى على تلك العدوى والفيروسات والجراثيم؛ فإذا تحدّث الفلاسفة مثلًا عن التسلسل أبطله علماء التوحيد، وواجهوهم بسهولةٍ بما زعموه دليلًا على فلسفتهم.
وما زالت مقاومةُ العلماء المحققين كالإمام الغزالي للتهافتات الفلسفية ملحمةً تتناقُلها الألسنة. أجل، إن الإمام الغزالي عَلمٌ بارز في إبراز تهافت الفلاسفة، فقد فضح أمام الناس تهافتهم وترديهم، وتصدّى المفكرون الكبار كالإمام الغزالي وبديع الزمان لبعض العقليين والوضعيين القدامى والمحدثين، واختبروا مسائلَ العلوم “المنطقية” و”العقلية” بطرقٍ ومناهج ليست من الكشف والمشاهدة في شيء، بل كأنهم خبراء في تلك العلوم أيضًا، ولو عُد هذا فلسفةً، فهي فلسفة توافق قيمنا ومبادئنا، ويمكن إدراجها وبحثها في مفهوم الحكمة.
وما كاد الإمام الغزالي يكفِّرُ الفلاسفة إلّا لأن في آرائهم ومعتقداتهم ما يلزم عنه الكفر مثل دعواهم أن العمل بالنص هو ضرب من الحماقة، وأنّ عِلم الله محدود، وأن الفلاسفة أفضل من الأنبياء، وإنكارهم حشر الأجساد؛ إلّا أن تصرفاتهم هذه ردّ فعل لأهل الظاهر منا من جهة ما. نعم، علينا ذكر السابقين بالخير وحسن الظن بهم، إلّا أنهم يستحقون وصفهم بـ”ذوي العقول المتحجرة” التي تُجمّد الفكر الإنساني مطلقًا، حتى إنها توجب العمل بكلّ ما صحّ، وتعجز عن الترجيح عند تعارض النصوص والروايات؛ إن إفراط هذه الفئة من أهل السنة هي من أسباب تفريط الفلاسفة.
هذا وإن لم نعد الفلسفة المشوبة بالبِدَع حكمة، لكنا نعد من مفهوم الحكمة النظر في قضايانا المعاصرة في ضوء المنطق لمواجهة تلك الأفكار، أي ننظر فيها من خلال مبادئ العلوم التجريبية والاجتماعية في ضوء منهج “عقلي” و”منطقيّ” موافق للكتاب والسنة.
ومن مفهوم الحكمة أيضًا البحث عما بين قوانين الكون وقوانين الحياة البشرية ومبادئها من تطابق، وإدراك فإبرازِ ما بين الكتاب المسطور والمنظور من توافق. أجل، لو تبدت لامرئ اختلافات بين الكتابين بأن كان يرى أحدهما نقيضًا للآخر دومًا لاستحال أن يُوفَّقَ هذا في الحياة الدنيا ولو كان من أهل الجنة.
إن إدراك تطابق الكتابين وتطبيقه على الحياة وقوانينها لهو أهم ركن في الحياة الدينية وفي تحقّق الفلاح في الدارين، ومن ثمرة هذا الإدراك ونتاجه المهم: التفقه والفقه الإسلاميّ، فالفقه الحنفي هو فقه القياس والرأي، حتى إن الحنفية أصابهم نقد كثير في هذا، والحقُّ أنها مدرسةٌ فقهية تبرز العلاقة بين الدين والإنسان والكون على أفضل وجه، وغدَت الأساسَ الديني والقانوني لإدارة الدول الكبرى مثل دولة السلاجقة والعثمانيين بل العباسيين أيضًا، لأنها ملائمة للتطوّر والتمدّن أيّما ملاءمة.
إنما اتخذت دول الخلافة فقه الحنفية أصلًا التزمته لمرونته وسعته في القضايا الكليّة؛ وليست مواد القانون آخر العصر العثماني سوى تنظيم لمدوَّنات القرن السادس الهجري، وهذا وجهٌ آخر من الحكمة.
ثالثًا: إنّ منزلة القوة تلي الدين والحكمة، إذ لو لم تُجهّز قوانين الحكمة ودساتير الدين والدولة بالقوة، لبقي كل شيء حبرًا على ورق، ولما أمكن التأثير على الناس كما ينبغي، وتعسَّر أو تعذَّر تطبيق الحكمة في الحياة؛ فلو انتفت القوة فأنى للحكمة المكنونة في أدراج المكتبات والعقول والقلوب أن تُطبّق على الحياة؟ فالماضي والحاضر شاهد على هذا؛ ذلك أن عتاة القوة الغاشمة لم يسمحوا بهذا؛ إذ أداروا ظهورهم للعلم والحقيقة، وظنوا أن كل شيء يمكن حله بقوّة الذراع؛ ولهذا فما تفعله أيّ أمةٍ في سبيل قيمها الوطنية والدينيّة قد يذهب كثيرٌ منه سدًى ما لم تُعْنَ تلك الأّمةُ بالقوة عنايتَها بالحكمة.
ثم إنه ينبغي أن تجتمع الثلاثة وتتّفق: الدين والحكمة والقوة معًا، وإلا غدت القوة بلا دينٍ ولا حكمةٍ سيفًا مصلتًا للظلم والقمع، والحكمةُ بلا دينٍ خداعًا، والدينُ بلا قوة أمرًا وجدانيًّا صِرفًا، فلا تتحقّق غايةُ وجوده كاملًا.
[1] سنن الترمذي، الزهد، 9. (وروى بعضه البخاري ومسلم في صحيحيهما، انظر: صحيح البخاري، الكسوف،2؛ صحيح مسلم، الكسوف، 1).