سؤال: كيف نفهم الحديثَ الشريف: “مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ”؟[1].
الجواب: هذا الحديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن، ومعناه أن على من رأى أمرًا ينكره الدين أن يغيّره بيده؛ فإن لم يستطع تغييره بيده، بأن لم يكن قادرًا على الدخول في الأمر فعلًا، فليغيِّرْه بلسانه أي بالقول اللين والنقاش الحسن والمجادلة الحسنة والوعظ والنصيحة، فإن لم تُتح له الإمكانيات والمناخ لتغييره بلسانه أيضًا، فعليه أن يبغضه بقلبه، وهذا أضعف مراتب الإيمان.
إننا مُنِينا بجرثومة تقرض حياتنا الاجتماعية، جرثومةٍ تقوِّض بنيان المجتمع رويدًا رويدًا كالزنا والمخدرات والربا والاحتكار، وإنّ أعداءَ الأمَّة وحبائلَ الشرِّ لَتُعْنَى بإحياء هذه الأمراض، وتعلمون وتشهدون يقينًا كيف تُزلزل هذه العللُ المجتمعَ وتقصمُ ظهرَه، ومن المستحيل تغيير هذا بيد الفرد، فتعيّن على أصحاب المسؤوليات أن يغيّروه باللسان، أي بالموعظة الحسنة، وذلك بأن يبيِّنوا أنَّ الربا جرثومةٌ تقرض الحياة الاجتماعية، وأن الزنا سرطان وغرغرينا، فيثير اشمئزاز الناس منه ويبغضهم فيه ويخوّفَهم منه ويصرفهم عنه، وذلك بالكلمة الطيبة والقول اللين ومنهجِ التبليغ المستفاد من مقاصد القرآن الكريم.
أجل، كانت للحكام كلمتهم في هذه الأمور يوم ساد الإسلام، وقام الجيش وقوات الأمن بمهمتهم أيضًا، وحالوا دون انتشار ذلك المنكر في حياتنا الاجتماعية، وهذا من ضروب التغيير باليد، وهذا الضرب من التدخل لتغيير المنكرات لا نراه في يومنا هذا، كما لا يُرَغَّب في الأمور الحسنة والفضائل كما ينبغي، ولو أنك اليوم منعت شارب الخمر في السوق لوجدته يلطمك، فتغيير المنكر باليد له زمانه ومكانه.
أما تغييره باللسان؛ فإذا كانت الدولة لا تقوم بمسؤوليتها ووظيفتها هذه، أي لا تقوم بمهمة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” فلا تأمر بما أمر الله، ولا تحظر ما حرم الله، بل تفتح أبوابها لجميع الأمراض التي تنقرضُ بها الحياة الاجتماعية، فمثلًا يُرتكب الزنا تحت قانون ونظام معين، وكذا الخمر والربا… تُرتكب هذه الموبقات ولا تستطيعُ تغييرها بيدك، فواجبك أن تغيّرها بلسانك.
والحمد لله كثيرًا أن لنا اليوم أن نتحدث ونبيّنَ هذه الأمور، بينما هناك فترات وبلاد يتعذر الحديث فيها عن هذا في العالم الإسلامي وخارجه أيضًا؛ ففي هذه الحالة يجب علينا قطع صلتنا بمن يرتكبون تلك الموبقات إلا للإرشاد والتبليغ، والشعورُ بلوعة الأسى عليهم لِزامًا، وهذا أقل الواجب، أمَّا مجالسة مرتكب المنكرات واستحسان سيئاته -عافانا الله- فهو انحطاطٌ وسقوط، ومثلُهُ استحسانُ مَنْ يرتكب موبقة الزنا ويضعف أمام شهوته؛ وبهذا قد يعُمّ العذاب الإلهي الخلقَ عامَّةً.
وهنا أستميحكم عذرًا في أمر آخر: قد يرتكب مجتمعٌ مفاسد شتى؛ ولو أنّ فيه وعيًا جماعيًّا فعّالًا مرِنًا سريع الحركة يدفع تلك المفاسد ويقضي عليها لارتدَّت تلك المصائبُ بهذا الفكر وهذه الحركية اللذَين هما بمثابة مانعِ الصواعق فينجو المجتمع، هذا وقد تحلّ بنا المصائب والبلايا ولا تردُّها الموانع إن لم يكن ثمة وعيٌ جماعيٌّ نشِطٌ على ذاك النحو يقاومُ مساوئَ المجتمع، أو مرشدون مناضلون يتصدّون لهذه المفاسد كأنَّهم رجال إطفاءٍ يكافحون الحرائق.
لذا يتعذَّر على المؤمن أن يُجالس مرتكبي المنكرات جهرًا، أو يتواصلَ ويلتقي معهم من أجل علاقاتٍ شخصيّة، والواقع أن المؤمن يمكنه أن يتواصل مع الجميع بدرجةٍ ما، بل مع مرتكب الموبقات أيضًا بنيّة تعريفه بمحاسن الإسلام، وإنقاذه من السَّفه المنغمس فيه، على أن يكون هذا كله لوجه الله ليس إلّا، وبهذه النية يغدو تواصُلنا مع هذا المسيء عبادةً.
نعم، إنَّ بغضَ القلب لمرتكبي المعاصي هو أضعف الإيمان. أجل، سنبغض من لا يحبون الله ويحقرون نظام الكون الإلهي، ولهذا البغض شرط: أن يدفع صاحبه إلى إزالة تلك المساوئ عن أصحابها؛ يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ”[2]، أي كما أمرني اللهُ تعالى بالفرائض أمرني بإدارة البشر بحكمةٍ وإحكام.
أجل، يجب أن نحدِّثَ ذلك الإنسان بالكلمة الطيبة لا بغلظةٍ وفظاظةٍ، لا بدَّ أن نُدني منه حقنةً مليئة بالنور بلطفٍ وإحسان حتى يمكن علاجه بها، وكي لا تُقابل مقترحاتنا وأفكارنا بردّ فعلٍ عكسيّ؛ من أجل ذلك أمر الحقُّ تعالى سيدَنا موسى وهارون عليهما السلام بقوله: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (سُورَةُ طَهَ: 20/44)، أي حاوِرا فرعون، وحدِّثاه عن الحق والحقيقة دون أن تُقَطّبا وجهكما… حدّثاه حتى يكون للتبليغ معنًى، وكي لا تذهب الجهودُ المبذولة في هذا السبيل سدًى…
مجمل القول: تحدثْ وقابلْ مَن تحدثه وتلتقي به من أجل الله فحسب؛ وتحمّل كل شيء في سبيل الدلالة على الله وتبليغ أوامره، وواجِه كلَّ شيء، وأَبْغِضْ من تبغضُه من أجله تعالى فحسب.
[1] صحيح مسلم، الإيمان، 78؛ سنن الترمذي، الفتن، 11؛ سنن أبي داود، الصلاة، 239.
[2] البيهقي: شعب الإيمان، 11/22؛ الديلمي، مسند الفردوس، 1/176 (واللفظ للديلمي).