سؤال: ما الذي ينبغي مراعاته عندما نقع في الذنوب ونريد الإقلاع عنها و التوبة منها؟
الجواب: التوبة أكبر حصن لنا لمواجهة الذنوب، وثمة أمور لا بد من مراعاتها في هذا لما لها من أهمية عظيمة في حياتنا القلبية والروحية:
1- الندمُ على فعل الذنب
ولهذا الأمر صلةٌ قويّةٌ بحالة الإنسان الروحية وقتئذ، أي عندما يسجد العبد نادمًا على ما اقترف، ويجأر ويبكي، ويبتهل متضرعًا يرجو مغفرة ذنبه، ولا يقنع بالآهات والبكاء والندم، ولا تُطفِئ الصرخات نار الفؤاد، فعسى أن يكون هذا الحزن الذي يزلزل جوانيتكم أرجى لقبول التوبة وأمضى لها عند الله تعالى.
قد تمر بالسوق، فيقع بصرك على الحرام خطأً، فتحدِّث نفسك قائلًا: “آهٍ! ماذا فعلتُ؟! زلّ نظري إلى الحرام وارتكبت إثمًا بينما ينبغي أن أتوجّه إلى الله تعالى في كل لحظة بعدد ذراتي، وقد كان بوسعي أن أغضّ بصري، أو أختار طريقًا سليمًا آمنًا ولو كان طويلًا… إلخ”، ثم تسارع إلى مصلى هناك لتخرّ ساجدًا تئنُّ وتتأوَّه، فإن ضاقت عليك الدنيا من هذا الحزن الذي أحاط بقلبك، لم يبقَ بينك وبين التوبة الحقيقية إلا ذِراع. أجل، التوبة في الأصل ندم وحسرة وحرقة في القلب.
والمهم هو أن تستشعر أن العيش في الذنوب كالعيش مع العقارب والثعابين، وتلك هي نظرة المؤمن للذنوب، وهكذا فلتكن، وإلّا فهو شكّ بعاقبة الذنوب وعقوبتها.
إن من الأهمية بمكان إظهارَ الندم على فعل الذنب بتسارعِ دقات القلب وسرعةِ تدفق الدم في الأوردة وتغير دورته.
2- أَجَلُ الذنبِ لا بد أن يكون قصيرًا
إذا ما زلّ أحدكم في موضعٍ ما، وارتكب ذنبًا وانزلقت قدمه في مستنقع الذنوب، فلينهض من فوره، دون انتظار، وليتطهّر بالتوبة والاستغفار، ليتطهّر ولا يؤجِّل ألبتة؛ فمن ذا الذي يملِكُ سندًا أو وثيقةً تؤكِّدُ أنَّه لن ينتقل إلى ربِّه بعد ساعةٍ وهو يحمل وِزرًا على ظهره أثقل من جبل قَافْ؛ إنَّ الأرواحَ الطاهرةَ تجافيها الراحةُ، ولا تَغمض لها عين مالم تتطهر مما ارتكبته من الذنوب.
إنَّ إطالةَ عمر الذنب ولو ثانيةً يضرُّ صاحبَه ولا ينفعه، والأنكى أنَّه توقيرٌ لسوءِ الأدب الذي ارتكبه المذنب في حق الله تعالى، فلا حقَّ لأيِّ ذنبٍ أنْ يعيشَ ولو ثانيةً؛ إذ إنَّه سيغدو ثعبانًا سامًّا يقرِضُ القلب ما لم يُمْحَ بالتوبة فورًا، وإذا ما تكدَّرَ القلبُ مرَّةً تهيَّأ لأكدارٍ أخرى، وهكذا يتردَّى الإنسان في دائرةٍ فاسدةٍ، ويولّد كلُّ ذنب ذنبًا آخر إلى أنْ يتجلَّى سرُّ الآية الكريمة: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ: 83/14).
ولذلك فمِنَ الأهميّةِ القصوى جذبُ مشاعر الناس وأفكارهم إلى هذه الساحة دائمًا، وتوضيح تلك الحقائق لهم، وتحذيرهم من الذنوب ليكونوا يقظين فطنين لها؛ بل إننا حتى لو تمتّعنا بقوّة الولاية لكان علينا أن نُظهِر لهم الوجه القبيحَ للذنوب ما أمكن وأن نصرِفَهُمْ عنها.
أجل، ها هم أولاء ذوو القلوبِ الفطنة اليقظة والأرواح الحساسة كأني بهم يشتمّون رائحةً كريهةً يجلبها الذنبُ.
3- بغض الذنب
إنّ بُغضَ الذنب من أهمِّ عوامل التوبة عن الذنب، وعدم بغضه يثبّط العزم عن الفرار منه فرار الناسِ من الثعبان والعقرب، فإن عجز الإنسانُ عن الفرار والتقوى استحالت توبته وعزمه وتصميمه على عدم ارتكاب ذلك الذنب مرةً أخرى، وكما يُوَلْوِلُ وينوحُ مَن انكسرت له زهريّة كريستال نادرة جدًّا فكذلك الأمر هنا أيضًا، والمقصود أن مصباح الحياة الذي بأيدينا يتّسخ وينكسر مع كلّ ذنبٍ نرتكبه؛ وفي هذه الحالة ينبغي على الأقل أن نشعر بالحزن والأسى على ما نرتكب من الذنوب بقدر الحزن والأسى الذي نشعر به عند انكسار زهريّة الكريستال، وإلا عُدَّ ذلك استخفافًا بالذنب وإهمالًا.
4- التوازن بين الذنب والتوبة
لا بُدَّ لكلِّ ذنبٍ من توبةٍ بقدر عمقه وقبحه ووقاحته؛ لأنَّ الوقوع في الذنبِ كالتردِّي في بئر مليءٍ بالزِّفت، فالسقوط في بئرٍ كهذا يسير، أمَّا الخروج منه فعسيرٌ جدُّ عسير.
5- الاعتراف بحقيقة الذنب
إنَّ كلَّ خاطرةٍ تعترضُ بها قلوبُنا على حكم الذنب أقلُّ ما يُقال فيها إنّها ذنب يعدل ارتكاب ذلك الذنب، فلو حدَّثَ زانٍ نفسَهُ من حينٍ إلى آخر قائلًا: “لماذا حرَّمَ الله الزِّنا؟”؛ ولو أنّ امرءًا لا يُفرِّق بين الحلال والحرامِ قال في نفسه: “ليته لم يُشرَعْ شيءٌ اسمُهُ حرام، كم سيكون الأمرُ ممتعًا حينئذ!”؛ فهذه ذنوبٌ أعظمُ من ارتكاب الذنوبِ نفسِها.
إذًا لا بُدَّ أن نتصدَّى للذنوبِ وأن نصمُدَ أمام أنفسنا قائلين: “أيها الذنب سعيك هباء، فالأبواب موصدة أمامك والدخول مستحيل!”.
ولبديع الزمان في هذا الموضوع تشبيهٌ ذو مغزًى عميق؛ يقول: “اجتنبوا -يا إخوتي- الأسباب التي تقدح بالإخلاص وتَثْلِمه كما تجتنبون العقارب والحيات”[1]؛ وعدوله عن لفظ الأسد أو النمر هنا إلى لفظ العقرب والثعبان لافتٌ للنظر جدًّا؛ لأن الأسد والنمر يهجمان ببسالة وإقدام، فنشعر بهما قبل أن يهجما فنحتاط؛ والعقرب والثعبان والحيّة على خلاف ذلك؛ إذ لا يُعرف من أين ومتى تَدْهَمُنا؟ وهكذا الذنب، فهو غدّار مثل العقرب والثعبان.
والحاصل أنَّه لا بُدَّ أن تكون اليقظةُ الدائمةُ إزاءَ الذنوبِ شعارَ المؤمن، وليُعلَمْ أن هذا من الوفاءِ بعهدِ الله تعالى.
يمكن أن ننظر إلى هذه المسألة في ضوء الحديث الشريف: “أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ”[2].
معلومٌ أنّ كلمتي “ذَنْب” و”ذَنَب” من جَذْرٍ واحد، والذنبُ الإثمُ، والذَنَبُ الذيلُ، وعلى هذا فالعبد الذي يقول “رباه أذنبتُ” كـأنه يقول: اللهم إني ثعلب بذَنَب، أو عقرب يلدغ، ها أنا ذا قد ترديتُ إلى هذا الدَّرْك”، أي كأن العبد باعترافه بذنبه يُقرّ أنه بوقوعه في الذنب قد حقّر وأسفَّ بالمستوى الإنساني والمقامات الإنسانية الموهوبة له، واعترف بأنه أعرض عنها وتبنَّى البهيمية بإرادته، فتردى إلى هذه الدَّرَكَة.
وأما من ارتكب ذنبًا ولم يشعر به، فالحقيقة أنه مُنِيَ بالصفعة الواردة في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 7/179)، وصار أدنى من الحيوان رتبةً؛ ولهذا الحكم مثال بديع دلت عليه نتائج استطلاع رأي الشباب في أوروبا في السنوات الماضية، فلقد أظهر الاستطلاع أن سمات الشباب الأوروبي هي سمات كلب ضال في الشوراع؛ ولا غروَ فكلُّ طريقٍ غير طريق الحقيقة يؤدي إلى نتائج مجافية للحقيقة جِذْرِيًّا.
[1] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي، اللمعات، اللمعة الحادية والعشرون، ص 221.
[2] صحيح البخاري، التوحيد، 35؛ صحيح مسلم، التوبة، 29. (واللفظ لمسلم)