سؤال: في ضوء التطوّرات الراهنة كيف ترون عمليات الإحياء للقيم الأخلاقية والروحية؟[1]
الجواب: للمسألة وجهان: أحدهما خاصٌّ بنا، والآخر لا طاقة لنا به، فمن الوجه الأوّل نقول: لا بدّ من تنفيذ هذا الأمر لله استجابةً لأمره فحسب، وإذا لم يكن ابتغاء مرضاة الله تعالى وإعلاء كلمته وراءَ ما يَقضّ مضجعنا ويَذهب بمهنئنا ويحول بيننا وبين اللذات ويرهقنا ذهنيًّا وجسديًّا، فإنه يذهب سُدًى. أجل، إن إخلاص النية هو روح كلّ عملٍ فعلناه أو سنفعله، فإن غابت هذه الروح لم تعد لأعمالنا أية قيمة إيجابية ألبتة.
يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 8/24). أجل، إنها مسألة إحياء، ومسألة بعثٍ وانبعاث، ويمكن أن يتجلّى هذا الانبعاث من خلال الدين بأن يغدو روحًا للحياة كما نصّت الآية.
ولا ينبغي أن نخلط رغباتنا وتطلعاتنا الخاصة بما نضطلع به من أعمالٍ يُبتغَى بها رضوان الله أي نيلُ مرتبة الرضا التي هي أعظم المراتب: فمثلًا قد نرى أن حقيقة دخول الكافرين جهنمَ تؤدّي إلى اكتئابٍ جزئيّ لدى بعضٍ من ذوي النفوس الحسّاسة؛ وهذا خللٌ في الموازين، وهكذا الحدود الشرعيّة قد نضيِّق نطاقَها بدعوى القضاء على البغاء الممقوت بل قد نفكّر في تقييد بعض الحلال، وكلّ هذا يُخلُّ بالتوازن؛ فالذي لنا وعلينا هو تنفيذ ما أُمرنا به في حدود ما نُؤمر ونُكلَّف به فحسب.
أمَّا ما لا طاقة لنا به فهو هداية الناس جميعًا لرسالتنا، إنه أمرٌ يفوق قدرتنا، بل ليس من شأننا، فهدايتهم أو عدم هدايتهم موكولٌ إلى الله عز وجل، إن حظيت أحاديثنا بالقبول علينا أن نعرف ونعتقد أنَّه لا يد لنا في ذلك قطّ، فهو ليس ثمرة ذكائنا ولا معرفتنا ولا مهاراتنا، وإنما هو لطفٌ ربانيّ، أمّا إن لم نحْظَ بحسن القبول فلنراجع أنفسَنا ونحاسبها، لنمحِّص مشاعرنا ونياتنا وعباداتنا؛ لنراقب أنفسنا ونحاسبها دائمًا، ولا نيأس ألبتة، فكم من قاماتٍ باسقة وعمالقةٍ في الفكر والمنطق لم يتبعهم إلا بضعة أشخاص قلائل، وكم من أهل الإلهام والواردات عبروا من هذه الدنيا ورحلوا عنها ولم يتبعهم إلا قليل أو لم يتبعهم أحد؛ فالإيمانُ نورٌ يقذفه الله تعالى في قلب العبد، فتنوير القلب بذلك النور أمرُهُ إليه وحده سبحانه، فهو وحده منوِّرُ النور.
ثم إنّ هذه الخدمة خاصَّة برسول الله صلى الله عليه وسلّم ابتداءً، ثم حمَلَها فردٌ ذو قوة قدسية، وارثٌ للمنهج المحمدي في القرن العشرين، الكتابُ والسنة مصدره، والحكمةُ مسلكُه، بنى حياتَه على ذلك ليمثِّل الحقيقة الأحمديّة، ثم سار بعناية الله تعالى في هذا الطريق، ولم ينسب إلى نفسه شيئًا، بل لطالما كان يُحاسب نفسه قائلًا: “يا نفسي المرائية! لا تغتري قائلةً: إنني خدمت الدين؛ فإن الحديث الشريف صريح بـ”أَنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ”[2]، فعليك أن تَعُدِّي نفسكِ ذلك الرجل الفاجر، لأنكِ لستِ مزكّاةً[3]، وأمضى عمره يحاسب نفسه ويراقبها ويقول لها: “لا تَرَي نفسَك مظهرًا لتلك المحاسن وتلك الطيبات؛ فيا نفسي لا تقولي إنني مَظهر الجمال؛ فالذي يحوز الجمال يكون جميلًا، كلا إنك لم تتمثلي الجمال تمثلًا تامًّا؛ فلن تكوني مَظهرًا له بل مَمَرًّا فحسب”[4].
وجاءت الأجيال اللاحقة فألفَتْ أنفسها في ربيع هذه الخدمة الجميلة، وباتت تنتظر قائلةً: تُرى هل يكلفنا المولى بشيء أيضًا؟ فإذا بالحق تعالى يستعمل عباده مرّةً أخرى في أمرِه، فإنّ ما نراه اليوم ما تحقق إلا بمحض عنايته ولطفه سبحانه، ويمكن أن يقال: إنها ثمرات قد تَفُوق سعي الأقطاب، وجهد المقرّبين، ومساعي الأبرار.
إذا الحــقُّ تجــلَّــى يــسَّــــــــــر الأمـــرَ
وسبّب الأسباب وأجزل الأجرَ
ولا يُتوقع مثل هذا الأمر من أناسٍ بعضُهم عليلُ المزاج، كُتب لهم أن يسيروا في هذا الطريق الذي نسأمه أحيانًا ونهمّ بالهروب والفرار منه، ثم ندرك تفرّق غيره من السبل وضلالها فنعود إليه ثانيةً؛ ولو تنزّلَتْ نفحاتُ التشريف والإحسانِ بإخلاص قومٍ وجِدِّهم لِما يضطلعون به من أعمالٍ، فبدَهيٌّ أنَّ الله تعالى هو مَن فَعَلَ كلَّ شيءٍ؛ فعلى المرء ألا يعكِّر هذا العملَ بتشوّفاته المستقبلية وأوهامِه وغيرها من خواطر مختلفة، وألا يُفسِدَ بسيّئ رغباته كثيرًا من ثمار جَنْيِه، فإن صفا العمل ولم يُدنَّس فقد تُحقِّقُ لنا النجاةَ في الآخرة أنواع العناية واللطف التي ما زالت تُمطرِنا زخًّا زخًّا، ونبعُ اليمن والبركة والخير هذا من شأنه أن يسدّ حاجات الأجيال القادمة المعنوية والأخروية، فإن دنسناه تعذرت الاستفادة منه حالًا ومآلًا.
ينبغي أن نُعنَى بهذا، وأن نراقب أنفسنا ونحاسبها، نفعل هذا ولا نفتأ نراقب أنفسنا، ومن شأن سحائب اللطف التي تتنزل علينا زخًّا زخًّا أن تُحرّك وتُوقظ شعورَنا بالعبودية أكثر مما نحن عليه الآن، فتتعمق عباداتنا أكثر فأكثر، وتغدو سجداتنا بابًا للوصال برب العالمين لا نبرحه أبدًا؛ فبالشكر تدوم النعم وتزداد، أمّا إن كنا نهذّ صلواتنا هذًّا، وتجرفنا فلتات مشاعرنا الشهوانية، ولا همّ لنا إلا الأجوفان، فهذا -نسأل الله السلامة- يعكِّر صفو الخدمة في سبيل الله.
[1] جمع هذا السؤال من حديث جرى في شهر يونيو عام (1994م).
[2] صحيح البخاري، الجهاد، 182، القدَر، 5؛ صحيح مسلم، الإيمان، 178.
[3] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: الكلمات، الكلمة السادسة والعشرون، الخاتمة، ص 543.
[4] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي: الكلمات، الكلمة الثامنة عشرة، المقام الأول، الملاحظة، ص 248.