سؤال: أين منزلة الاستغفار من الأعمال التي يتمّ إنجازها لخدمة الدين؟
قد يقع عند أداء وظيفةٍ ما خدمةً للدين ما لا يرتضيه الله، فيعرقل الذنب هذا الأمر مرارًا؛ لذا قرن القرآن الكريم الفتح بالاستغفار؛ فقال تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ (سُورَةُ النَّصْرِ: 110/1-3).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه: “إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ” إلّا يقول فيها: «سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»”[1].
وهكذا فهذه الروح روحٌ نبويّة، ونقيضها روح فرعونيّة تغتبط وتبتهج وتنتشي فرحًا بالنجاح والانتصار، ولا شك أنَّ الروح الفرعونية تعيق السلوكيات الإيمانية؛ من ذلك أن شعور راكب السيارة أو الطائرة بالصَّلَف والغرور وانشغاله باللهو والمرح وهو متوجه إلى مكانٍ ما لخدمة الدين يُعَدُّ من الهواجس الشيطانية لا الرحمانية. أجل، فهذه الخِدْمات العارية عن الاستغفار والمراقبة هي أساس التعثر وانغلاق السبل، وأجزم أن هذا هو سبب الأزمات التي نعيشها.
أجل، هذه مرحلةٌ دقيقة، فعلى المجتمع وخاصة رجال الخدمة أن يقيِّموا أنفسهم فكريًّا وعقديًّا وعمليًّا وعاطفيًّا؛ ولا بد من إصلاح كل ما فسد، وتقويم البنية الروحية جميعها لترميمها أو إعادة إنشائها؛ وبعد عملية جراحية خطيرة على هذا النحو سترتعد أعماق كلّ منا عند كل كلمة يتلفظ بها وكأنه صائم أفطر بماء عذب فجرى الماء في عروقه، وسيرقى إلى مرتبة عالية حتى إنه يستغفر الله لصلاة أداها في خشوع، إذ لا أحد يعرف أين رضا الله تعالى: أفي إقامة الصلاة على هذا النحو أم بشكل آخر؟ المهم هو حضور القلب بين يدي الله، والوعي بأننا نقوم بعمل جد عظيم تحصّنًا من الشيطان والغفلة الشيطانية؛ فالمسألة ليست مسألة إحساس فقط، ولست أريد أن أقول: “الأصل عدم الإحساس بأي شيء قط”، بل أقصد أنّنا إن عجزنا عن إدراك لطائف الاستغفار والرقي بها في كل نجاح ليتحقق التكامل بين المجتمع والكمال الشخصي، فهذا نوعٌ من الغفلة، والله لا يحب الغافلين؛ حتى إن قولنا “ما أجمل ما يجريه الله تعالى على أيدينا” قد يُعدّ أيضًا نوعًا من الشرك الخفي، وكلما تعمّق استغفارنا أمكننا التحصُّن من أضرار خواطر مهلكة كهذه.
أمر آخر: من كفران النعمة وسوء الأدب مع الله تعالى أن نقول ونحن نتصدى لمصائب حلّتْ بنا: “لماذا حلّت بنا هذه الأمور؟ ماذا فعلنا؟!”؛ فلنبادر بالاستغفار لنهزم خواطر وهواجس كهذه حين تدب فينا لنقطع الطريق عليها؛ يا تُرى هل تلمسنا الخطأ في أنفسنا في كل هذه الأحداث؟ وهل اتخذنا من أنظارنا كشّافًا نفتّش من خلاله جوَّانيّتنا باستمرار؟ ألم يأمُرنا القرآن الكريم بمحاسبة أنفسنا قائلًا: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 5/105)؟ إذًا لم لا نراقب جوَّانيتنا امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ”[2]، ولم لا نفكّر فيما يدور بخلدنا؟
ولو أُغفِلت هذه الأمور لبرزت الأنانية وانخدع الإنسان بما حقَّق مِن نجاح ولَنسي ربّه وعنايته. أجل، إنه سينخدع لأن تلكم الأشياء هي وساوس الشيطان التي همس بها في أذن الإنسان ولبّس عليه الحق بالباطل؛ انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكّة فاتحًا، حتى إن جبينه المبارك كاد يلامس مقدمة الرَّحلِ في تواضع جمّ[3]؛ فلنطلب رضاه تعالى في كلّ شيء نفعله.
أجل حسبنا رضاه سبحانه، وما دام الأمر كذلك فلنجعله أصلًا في كلِّ أمورنا، ولا بد أن يكون هذا هو الأساسَ والهدف، وأن تتوجّه كلّ سلوكياتنا وخواطرنا إليه سبحانه وتعالى.
[1]صحيح البخاري، تفسير القرآن، 110؛ صحيح مسلم، الصلاة، 219.
[2] صحيح مسلم، البر، 33-34؛ سنن ابن ماجه، الزهد، 9 (واللفظ لمسلم).
[3] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/405.