سؤال: ما معنى النية التامة؟ وما هي خصائص النية التي قيل فيها إنها خيرٌ من العمل؟
الجواب: أجمع الفقهاء والمحدّثون أن المراد من النية قصد القلب ، أما النية التامة فهي توجُّهُ الإنسانِ إلى الله تعالى المقصود بالذات المعبود بالاستحقاق في كل أعماله، وتحرّيه مراد الله فيها، ولا يعزب عن علمكم أن أشهر حديث خاص بالنية قد صدّر به الإمام البخاري رحمه الله كتابه “صحيح البخاري”، والذي يقول فيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ” ، فلو قصد الإنسانُ بصلاته أن يخدع الناس أو يتظاهر أمامهم بتديُّنه فلن يُثاب على أيٍّ من تلك الأعمال في الآخرة؛ لأن قلبه كان متعلّقًا برضا الناس، وليس برضا الله تعالى؛ وهذه هي إحدى صفات المنافقين الذين يفتقدون إلى الإيمان عند وضوئهم وصلاتهم ودعوتهم وخدماتهم للإنسانية ولِأمتهم، ولما كان الحديث الشريف يبين أن لكلِّ امرئ ما نوى فإن الأعمال التي يُرجى منها أغراض وأمنيات دنيوية لا قيمة لها عند الله سبحانه وتعالى.
درجات النية وفقًا لأفق المعرفة
من المسلَّم به أن نية الجميع لا تكون على نفس المستوى لأن نية الشخص تتناسب طرديًّا مع أفق معرفته؛ بمعنى أن النية تختلف وفقًا لدرجة الإيمان والتعمق في معرفة الله وارتقاء القلب بشعور الإحسان، فيجب على من اتسعتْ لديه آفاق المعرفة الإلهية أن يستهدف من نيته الوصول إلى أعلى المستويات؛ لأن مَن يُخلص النية التي يمكن أن نسميها “بسملة العبادات” سيؤدي عباداته من صلاة وصوم وزكاة بمزيدٍ من الوعي والشعور.
ويرى المذهب الحنفي أن التلفظ بالنية مستحبٌّ عند بدء الصلاة ، لكن الإمام الرباني أحمد السرهندي وهو مِن الشخصيات الشامخة بين أرباب المعاني لا يجيز في النية النطق باللسان ؛ لأن المراد من النية قصد القلب، وهذا يستلزم من الإنسان أن يمحو من قلبه كلَّ ما سوى الله تعالى، وأن يقصده تعالى فقط، ويتجه إليه فحسب، ويفكر فيه لا غير، أما التلفظ باللسان من شأنه أن يشغل ذهنَ الإنسان، وإن حدث ذلك صار من الصعب أن ينسلخ القلبُ عن مثل هذه المعضلة، ويتوجه إلى ربه بشكلٍ تام، وهذا ما تقرره الملاحظة العميقة التي أشار إليها الإمام الرباني في مسألة النية.
وإنني شخصيًّا أحبّذ هذا الرأي وإن كنت أتلفظ بالنية عند الصلاة، فقد يكتفي الإنسان في نيته بالتلفظ باللسان، فلا يحصل له التركيز القلبي تمامًا؛ لأنه لم يستطع بدايةً أن يتوجه بلطائفه الظاهرة والباطنة إليه سبحانه وتعالى، وقد لا تُقَرّر أصوات قلبه وأنفاسه ما يخرج من فمه، والحال أن ما يصدر عن الفم لا قيمة له في النية ما لم تؤكده أنفاسُ القلب.
بيد أن إكراه الجميع على مستوى معين يعني الرغبة في أن يكون جميع الناس على أفقٍ قلبي وروحي واحد، وهذا ليس بطلبٍ موضوعي؛ والأوْلَى أن نعتقد بأن الإنسان إذا أقبل على الله تعالى بنيةٍ خالصة قبِلَ اللهُ تعالى منه صلاتَه وزكاتَه وصيامَه وحجَّه، ومثل هذا الاعتقاد فيه دلالةٌ على اليقين في سعة رحمة الله، وسماحة دين الإسلام، وحسن الظن بالحق جل جلاله، ولا ننسى أن حسن الظن من شعب الإيمان.
ارتباط النية الخالصة بالعمل
وحتى نفهم مسألة “قصد القلب” التي جاءت في تعريف النية فإننا في حاجة إلى مزيد من الإيضاح؛ فمسألة قصد القلب لا تعني مجرد إمرار الشيء على العقل والقلب، بل ثبات الإنسان وعزمه على القيام بما ينويه، وبذل الجهد في تحويل نيته إلى عمل على الفور؛ بمعنى آخر: كما أن الإقبال على الله يمثل البعد النظري للنية فإن تفعيل هذه النية يشكّل البعد العملي منها، ومن ثمّ يجب الثبات والعزم على تحقيق النية وتفعيلها، وإذا كانت النية من الممكن دراستها نظريًّا ضمن مبادئ الدين فتحقيقها لا يتأتى إلا عن طريق التدين، ولا تُفهم الجدّية في التدين إلا بمدارسة ومذاكرة الجانب النظري والعملي للأمر الذي ينوي المرء القيام به؛ بناءً على ذلك على الإنسان ألا يقتصر على نية القيام بعملٍ ما، بل لا بدّ من الجهد والعزم على تحقيق هذا العمل الذي ينوي القيام به، وهذا الأمر لا يسري على العبادات من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ فحسب، بل يتعدّاه إلى سائر الأعمال التي تندرج ضمن دائرة الأعمال الصالحة.
ويوضح الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله أن النية لا قيمة لها إلا بالعمل بقوله: “إن نية التواضع بتصنّعٍ وبشعورٍ ثانوي تُفسد التواضع الفطري، وكذا نية التكبّر بشعورٍ ثانوي تُزيل عِزّة النفس والوقار الفطري” ، فخفض أجنحة التواضع خاصية مهمة معترف بها من بين الأخلاق العالية الإسلامية، لكن فكرة التظاهر بالتواضع يجعل التواضع لا قيمة له؛ لأنه يُفهم من هذا الوضع أن ذلك الإنسان يقصد شيئًا غير التواضع، وأنه ينساق وراء شهواته وأمانيه مثل تقدير الناس له، وتصفيقهم إليه، وإشارتهم إليه بالبنان، كما أن نية التكبّر تزيل عزة النفس ووقارها الفطري، فمثلًا ليس من الكبر التكبّر على متكبر؛ لاختلاف المقصود هنا، وبما أن النية لا يكون لها قيمة إلا بتفعيلها فالقصد الأساسي لا يظهر إلا بتفعيل ما بعدها من الجانب العملي.
الثواب المترتب على النية
وفي سياق الحديث عن أهمية النية يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِه” ، ويقول صلوات ربي وسلامه عليه في حديث آخر: “مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَهَا قَلْبَهُ وَحَرَصَ عَلَيْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَلَمْ يُضَاعَفْ شَيْءٌ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، وَمَنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ وَاحِدَةً وَلَمْ يُضَاعَفْ عَلَيْهِ” .
ومثالًا على ذلك؛ رجال الخدمة الذين يسعون بصدقٍ وإخلاصٍ وعزيمة قوية للانفتاح على كل أنحاء العالم، ونشرِ اسم الله تعالى في كل مكان، ورفرفةِ الاسم الجليل المحمدي في كل أصقاع الأرض، وتبليغ الدنيا كلها جميعَ القيم التي ترشحت وانبثقتْ عن جذورنا الروحية والمعنوية؛ فإذا ما تبادر إلى ذهنهم أيٌّ من هذه الغايات تجد أعينهم تفيض من الدمع حزنًا وقلوبهم تكاد أن تتمزق، فإذا ما سنحت لهم أيُّ فرصةٍ اقتنصوها لتحقيق هذه الغاية السامية، ولكن قد لا تسمح لهم الظروف بتحقيق نواياهم، وعندئذ يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلّ مؤمن على هذه الشاكلة إن نيّةَ المؤمنِ خيرٌ من عمله، وبفضلها يحصل على الثواب وكأنه قام بهذا العمل.
النية التامة التي تُكمل العمل
النية لها أهميةٌ بالغة في سعادة الإنسان الأبدية، غير أن النيّة المنجّية هي التي تدفع إلى العمل؛ بعبارةٍ أخرى: النية التامة هي عنصرٌ مكمِّل للعمل، وعلى ذلك فهي كمفتاحٍ سرّي يفتح الأبواب على اللامحدودية في عالم الدنيا المحدود؛ فمثلًا إذا ما حاول الإنسانُ أداء العبادات التي كلّف اللهُ تعالى بها عبادَه المؤمنين من صلاة وصوم وغيرهما، وبذل وسعه بإذن الله وعنايته في الإتيان بها فلن يعادل ما أداه من عبادات عُشر النعم التي أنعم الله بها عليه
في الجنة، وإن ضاعف هذه العبادات في الدنيا إلى عشرة أو عشرين بل وإلى مائة ضعف؛ لأن في الجنة مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، يقول الأستاذ النورسي رحمه الله: “إن قضاء ألف سنة من حياة الدنيا وفي سعادة مرفهة، لا يساوي ساعة واحدة من حياة الجنة” ؛ لأن نعيم الجنة الذي حدثنا القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة عنه هو بمثابة وحدة قياسية لتقريبِ هذا النعيم للأذهان ومن ثم تصوُّرِه نوعًا ما، وإلا فهو يتجاوز كلّ حدود التصوُّر والخيال.
وهكذا فمن المتعذر على العبد أن يفوز بمثل هذه الجنة أو ينالَ حقًّا فيها بما يقوم به من عبادات، ولكن قد يحاول الإنسان طوال حياته أن يأتي بأوامر ربه ويتجنّب نواهيه، ويصلي ويصوم ويقوم ويصدُق ويستقيم ويزكِّي ويحجّ، ويبذل كل ما في وسعه لإعلاء راية دين الإسلام المبين، ومع ذلك إذا ما نظرنا إلى نعيم الجنة فسنجد أن كل هذه الأعمال هي أعمال صغيرة لا ترقى بالإنسان كي يفوز بالجنة، ولكن قد يقول الإنسان بنواياه وتصرفاته: “يا رب، إن السلطنة تليق بالسلطان، والفقر يليق بالفقير، وهذا كل ما بيدي أنا العبد الفقير”، وحينذاك يقول الله تعالى له بناءً على صدق نيته: “لقد عاش عبدي ستين سنة قضاها في طاعتي، ولو عاش ألف سنة أو مليون سنة لقضاها في ذات السبيل، وأنا اليوم أعامله وكأنه عبدني كلَّ هذه الفترة”؛ بمعنى أن الحق سبحانه وتعالى يستعيض بالنية عن العمل، ويعتبر نية العبد خيرًا من عمله.
الحفاظ على النية الخالصة منذ البداية
ثمة سببٌ آخر لكون النية خيرًا من العمل وهو: قد يكون الإنسان مخلصًا صادقًا في نيّته منذ البداية، ولكن عند تحقق النية قد يشوب العملَ أحيانًا الرياءُ والعجبُ والكبرُ، غير أن الخطر في النية لا يكون على نفس القدر الذي يحيط بالعمل؛ لأن النية محلّها القلب، ولا قِبلَ لأحدٍ بالاطلاع عليها؛ فمثلًا قد يقول إنسانٌ: “اللهم إني راض بأن تقبض روحي ألف مرة على أن يحلِّق الاسم الجليل المحمدي في هذه البلاد”، يقول هذا، والحال أن أقرب المقربين إليه لا يعلمون تمامًا مدى صدق هذه المشاعر والانفعالات في هذا القلب.
أجل، قد يؤمن المرءُ بأن الدنيا تُظلِم من دونه صلى الله عليه وسلم، وتُنار به، ويظلّ يتلوّى من الهم والألم وكأنّ خنجرًا انغرز في صدره، ثم يتأوّه قائلًا: “لم أستطع أن أوفي بعهدي معك يا رسول الله!”، ويأخذه القلق والاضطراب دائمًا؛ فمثل هذه المشاعر والنوايا التي يغلّفها الإخلاصُ لها قدرٌ عظيمٌ عند الله سبحانه وتعالى لأنه من المتعذّر أن يشوبها الرياءُ والسمعة والعجب والفخر والكبر.. وعلى ذلك يمكن القول إن الله تعالى سيتعاملُ مع هذه المشاعر والنوايا الخالصة على أنها أعمالٌ قد أتى بها العبدُ شريطة أن يتجنّب العبد الملاحظات السلبية التي تحطِّم وتمزِّق وتدمّر هذا المشاعر الإيجابية المخلصة، ليس هذا فقط بل إن الله تعالى سيملأ بهذه المشاعر المخلصة الثغرات التي لم يستطع العمل أن يسدّها، ويُنعم على العبد في النهاية بالسعادة الأبدية.
قد يمحو الإنسانُ أخطاءه وذنوبه بتوبته وإنابته، ولكن حتى وإن محاها فقد تظلّ بعضُ الثغرات في دفتر أعماله، أما رأس المال السرّي الذي يسدّ هذه الثغرات فهو النوايا الخالصة للإنسان، وتوجهه وعزمه واجتهاده التي ينوي تحويلها إلى عمل.
أجل، ندعو الله تعالى أن يتقبّل هذه النوايا ويسجّلها أعمالًا، ويسدّ بها ما كان من ثغرات في دفتر أعمالنا، حتى لا نشعر في الآخرة بالخزي والعار.
النيّة هي أبلغُ دعوة تستجلب العناية الإلهية
ولما كانت النية دعوةً وطلبًا يستجلب توجّهَ الله تعالى ومشيئته لتحقيق الأمر الذي يُنوَى القيام به فعلى الإنسان أن يلتزمها
ولا يُفارقها أبدًا.
أجل، إن النية دعوةٌ يُقصد بها ألا ينزوي الإنسان في ناحيةٍ ما يائسًا مسكينًا بسبب كثرة أشغاله، بل عليه بدلًا من ذلك أن يستحضر النية ويشرع في عمله، ويأتي بما استطاع منه، حتى يتجلى الله تعالى بقدرته ومشيئته اللتين لا حد لهما، ويحقق أعماله التي يرغب في تحقّقها.
إذًا فليس من الصواب إهمال هذا الأمر البسيط إلى هذا الحد رغم أن المرء يمكنه القيام به على مستوى الشرط العادي.
أجل، يجب على الإنسان أن يكون عظيمًا في نيته، وأن يبتغي بها أعلى المستويات، فإذا لم يتحقق له كل ما يريد دفعة واحدة فلا ينكسر أو يمتعض، بل يحترم جريان الأمور على السنن الإلهية، ويأخذ بالأسباب، وبعد ذلك ينتظر الوقت المعين لتحقق ما يريد.
النوايا التي تتجاوز الإمكانيات
أما مَن منعتهم بعضُ الأعذار الشرعية عن القيام بما عزموا عليه سيَلقون معاملةً تناسبُ عمقَ نيّتهم؛ فمثلًا عندما تحدث القرآن الكريم عن موقف بعض سادتنا الصحابة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك لأنهم لا يجدون ما ينفقون، ويتحمّلون به للجهاد في سبيل الله أثنى عليهم بما يستحقون من التبجيل والتقدير فقال: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ (سورة التَّوْبِةِ: 9/92)، فمن ناحيةٍ أثنت الآية على المنفِقين لإنفاقهم، ومن ناحيةٍ أخرى تناولت مَن لا يجدون ما ينفقون بالثناء لِصفاء نواياهم وعمقِ مشاعرهم وسعة صدورهم؛ ولذا قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقّ مَن تخلّفوا بسبب عذرٍ أصابهم أو لعدم وجود مطيّةٍ تحملهم أو لأنهم لو ذهبوا لَخلّفوا وراءهم أقرباء يحتاجون لرعايتهم: “إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ” ، في هذا الحديث بشرّهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم رغم تخلُّفهم فقد شاركوا إخوانهم المحاربين في الثواب والعطاء والتوجه الإلهي، ويمكن القول بعبارة أخرى: لو أن هؤلاء كان لديهم من الإمكانيات ما لكم، وشاركوكم الظروف نفسها لخرجوا معكم، وحصلوا على ما حصلتم عليه بعملكم.
ولقد حدث مثل هذا الموقف في عصر السعادة (صدر الإسلام): فهذا سيدنا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ تَخَلَّفَ عن غزوة بدر من أجل امْرَأَتِهِ رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ وَجِعَةً، حَتَّى إنّها تُوُفِّيَتْ يَوْمَ قَدِمَ أَهْلُ بَدْرٍ الْمَدِينَةَ، فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَهْم .
فكما رأينا فإن من ينوي أن يفعل شيئًا ثم يُفاجَأ بعذرٍ أو مشكلة تمنعه من تنفيذِ ذلك الفعل فهو معذورٌ في نظر الكتاب والسنة، ويُعامل وكأنه أوفى بما كان ينوي القيام به.
وفي يومنا هذا ثمة أناسٌ يغشاهم الحماس من رأسهم حتى أخمص قدميهم، ولا يفارقهم في قعودهم أو قيامهم، متأهّبين في كل لحظة للقيام بالوظيفة المنوطة بهم، فهؤلاء يُثابون بإذن الله تعالى وكأنهم يجاهدون كل يوم، بل وتتمثّل نيتهم وعزمهم وجهدهم وثباتهم نعمًا في الآخرة يغبطهم الكثيرون عليها؛ ومن ثمّ فلا بدّ من إعلاء الهمة، وألا ننسى أبدًا أن مَنْ كان همه أمته؛ فهو بحد ذاته أمة صغيرة قائمة ، وفوق ذلك مَنْ كانت همه الإنسانيةَ كلَّها فهو إنسانيةٌ عظيمةٌ بحدِّ ذاته.