سؤال: تتملّك الإنسانَ سعادةٌ عارمةٌ بسبب ما حققه وأنجزه، وتجنح نفسُه إلى توجيه أنظار الغير إلى هذه النجاحات التي حقّقها وأحرزها، فما السلوكُ الإيمانيُّ الذي ينبغي اتخاذه إزاء هذه الرغبات والنزعات؟
الجواب: قد يُحرز الإنسانُ بعض الجماليات أحيانًا بفضلٍ من الله تعالى وعنايته، ولكنه لا يضمن ما إذا كانت هذه الجماليات قد جاء بها على الوجه المطلوب أم لا، فمن يدري فلربما كان بمقدوره القيام بعملٍ أجمل وأسلم مما قام به في إطار الإمكانيات المتاحة له، ومن ثمّ فعلى الإنسان أن يُخضع الأعمال التي قام بها للتحليل والنقد، ويتساءل أمام أيِّ نجاح وإن بدا عظيمًا قائلًا: “هل أنا استغللتُ الإمكانيات المتاحة لي على الوجه الأكمل؟ وهل كان بوسعي القيام بأداءٍ أعلى للوصول إلى نتيجة أفضل؟” فإن تحقّق هذا ففي اعتقادي أن ذلك الإنسان سيقف حتى إزاء أعظم النجاحات ويقول في نفسه: “يبدو أنني لم أفلح تمامًا في القيام بهذا العمل، ولم أؤدّه على الوجه الذي يرتضيه ربي وأرضى به عن نفسي”، سيقول هذا، ويظلّ يلوم نفسه ويحاسبها باستمرار.
هل أداء الصلاة أم إقامة الصلاة؟
ولنوضح هذا الأمر بمثال: إن الناس في زماننا يُعبرون عن إقامة الصلاة بقولهم: “أداء الصلاة”، والحال أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد عبرا عن أداء هذه العبادة أكثر من مرّة بلفظ: “إقامة الصلاة”؛ بمعنى: الانسلاخ فيها مما سوى الله تعالى، وأدائها بأركانها الظاهرية والباطنية، ومراعاة الحساسية البالغة إزاء الأمانة التي حمّلها الله لنا، وبناء هذا الصرح بإتقانٍ ودون قصور، وتحليته بألوانه ونقوشه وخطوطه الخاصة به.. وعلى ذلك فقد يُسأل من يقول: “إنني أقمت الصلاة”، “هل أقمتَها في الحقيقة بأركانها الظاهرية والباطنية”، إذ إن الأداء هو محاولةٌ لإسقاط الفرض فقط، والتخلّص من ثقله.
وإنني أرى أن تعبير “أداء الصلاة” ينمّ عن حسن التربية والأدب مع الله سبحانه وتعالى، ومن المحتمل أن الإنسان اليوم قد استخدم هذا التعبير بعدما وقف مع نفسه متسائلًا: “كيف يليق بي أن أقول إنني أقمت الصلاة مع ما شابَهَا من قصورٍ في بنيتها الداخلية والخارجية؟ فلقد أدَّيتها ظاهريًّا قدر استطاعتي، غير أنني ألجأ إلى سعة رحمة ربي سبحانه وتعالى وأرجوه أن يعفو عن إنسان مثلي أدى صلاته دون إتقان”.
ويمكنني القول إنني أعشق هذا التعبير الذي أعتقد أنه ينبئ عن كثير من المحو والحياء والتواضع.
نستخلص مما سبق أن اعتماد الإنسان على أعماله وإنجازاته فيه ما فيه من الخطورة، فبدلًا من هذا يجب على الإنسان أن يسعى وراء الكمال قائلًا: “لم أستطعْ أن أؤدي عملي على الوجه الأكمل”، وأن يكون لديه إيمانٌ بأن الله تعالى قد يعفو عن عباده بما يؤدّونه حتى من أعمال صورية، ويَقبلهم في حضرته الإلهية، ومن المحتمل أن مَن يشغل نفسه بهذه الأفكار يَجبُر الحقّ سبحانه وتعالى القصور الحاصل في أعماله بناءً على نيته الخالصة ويعامله وفقًا لها.
وليس من الحكمة أن يُفكّر الإنسان فيما حقّقه من جماليّات ويحاول أن يبرز ذاته من خلالها حتى يجلب أنظار الناس للحديث عنها، كما أنه ليس من الصواب أن يدعي الإنسان بأنه أهلٌ لكلِّ هذه الثناءات التي يوجهها الآخرون له، قد يقول بعضُ الناس عنه: “لقد فعل فلان كذا، وحقق كذا”، ولكن يجب على الإنسان أن يعزوَ هذا كله إلى حسنِ ظنِّ الناس به، وأن يعتبر حسن الظن هذا خطأً اجتهاديًّا، والواقع أننا لا يمكننا أن نعتبر الخطأ في حسن الظن ذنبًا؛ إذ إن إحسان الظنّ والخطأ فيه أهون من إساءة الظن والصواب فيه.. من هنا كان تفضيلُ حسنِ الظن أولى، بشرط ألا يخرج عن حد التوازن والاعتدال، ولا يتعدى الإطار المسموح به، ولا يتجاوز حدّ التقدير، وإلا كان المدح والثناء سببًا في قطع عنق الممدوح[1].
حبس جزاء الأعمال على دائرتنا الضيقة
من الأهمية بمكان أن يحرص الإنسان كلّ الحرص على تحبيب الناس في ربهم ورسولهم صلى الله عليه وسلم، ولكن حتى ولو كان ذلك الإنسان وسيلةً لأن تخفق الروح المحمدية على القلوب في كل أرجاء الأرض فعليه ألا يقنع بذلك، ولا يحبس هذه الجماليات على دائرته الضيقة بأن ينسبها إلى نفسه، بل يجب ألا يتسبّبَ تقديرُ الآخرين لأعماله إلى تبديل فكره أو شعوره في هذا الموضوع؛ إذ إن الإنسان الذي يقتنص الفرصَ للحديث عن أعماله وينفعل بهذه المشاعر على الدوام، قد لا يجد وقتًا وإمكانية للحديث عن الأمور التي عليه أن يحدِّث الآخرين عنها.. والحال أن الله تعالى والحبيب صلى الله عليه وسلم هما دعوتُنا وقضيتُنا، علينا أن نجلس ونقوم بهما، وأن نعتبر تحبيب الآخرين فيهما أعظم غاية، وكما أن من حقّه سبحانه وتعالى تحبيب الناس فيه، فمسؤوليّتنا نحن هي أن نقوم بهذه الوظيفة.
وإن من أعظم المخاطر التي تمنع الإنسانَ من الخدمة في مثل هذه الوظيفة السامية هو محاولة الفرد إثبات نفسه وإبرازها بما يقوم به من أعمال.. قد يلتفّ الكثيرون حول شخصٍ بسبب قلمه أو فكره أو اقتراحاته أو قدراته التنظيمية أو تأثيره القوي على الناس، غير أن هؤلاء المحيطين به إن أغدقوا عليه المدح والثناء دون اعتبارٍ بأنهم يقطعون بذلك رقبة صاحبهم فهذا يعني أن الوضع قد بات أشدّ خطرًا، إن كنا نأمل في أن يُشار إلينا بالبنان فلربما نصل إلى هذا الأمل في الحياة الدنيا، غير أننا إن ربطنا الأمر بمثل هذه الأهداف البسيطة للغاية فيا لَلْخسارة التي سنُمنى بها في الدار الآخرة! والحال أن القلب المؤمن ينظر إلى المسألة بسعة رحمة الله، وينشد الرضا والرضوان، ولا يحبط أعماله بربطِها بحسابات صغيرة للغاية.
وليس من المهارة أن يحتفظ الإنسان بما قدمه من إحسان في ذاكرته، وما أجمل المثل القائل: “اعمل الخير وارمه بالبحر، فإن لفظه السمك احتفظَ به ربّ السمك”.. قد يلهج الإنسان بالحمد والثناء على الله تعالى شكرًا وامتنانًا لخالقه الذي أتاح له الفرصة للقيام بهذا المعروف، هذه مسألة أخرى، ولكن تعديد الإنسان للمعروف الذي قام به قائلًا: “لقد أنجزت هذا العمل، ومددت يد العون إلى هذا الشخص”، قد يؤدي إلى أن يذهب معروفُه هباءً وهو ما يزال في الدنيا.. وفي هذا الصدد على الإنسان أن يتصرف بحساسيةٍ بالغة، فإن جاءه أحدهم وحدّثه عن معروفه الذي قام به من قبل، فينبغي له أن يقول: “لقد نسيت”، وألا يشغل ذاكرته بالإحسان الذي قام به، بل عليه عند اللزوم أن يمحو من ذاكرته كل ذلك، وإن كلّفه هذا الأمر عناءً وجهدًا.
أعظمُ العيب ألا يرى الإنسانُ عيبَ نفسه
ينبغي للقلب المؤمن أن يشعر في وجدانه بثقل الذنب الذي ارتكبه قبل سبعين سنة، وحتى وإن كان قد استغفر الله عليه سبعين ألف مرة في حياته؛ فينبغي له أن يتلوّى وكأنه قد اقترفه أمس، وأن يتضعضع خجلًا وانكسارًا، ويواظبَ على استغفاره لله جل جلاله.. وربما تنتاب الإنسانَ بعضُ الأفكار التعقلية والتصورية والتخيلية التي لا تُقيَّد في دفتر أعماله، ولكن مع ذلك يجب على الإنسان أن يتلوّى دائمًا بسبب هذه الأفكار السلبية ويقول في نفسه: “ربي، كيف يليق بي أن أفكر هكذا إزاءك؟ كيف أقوم بهذه الوقاحة والصفاقة في عالمي التخيلي، كم أنا إنسانٌ وقح عديم الاحترام!”، فإن فعل الإنسان هذا ما خسر شيئًا ألبتة، بالعكس إن من يقضي حياته سائرًا على هذا المنهج سينال جزاءَ كثرة توبته واستغفاره، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا“[2]، كما ورد في حديث آخر أن الرسول الأكمل صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، قال صلوات الله عليه: “وَالله إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً“[3]، وفي رواية مائة مرة، قال عليه أكمل التحايا والسلام: “إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ“[4]، وهذا كلُّه يحدث مع أنه لا يعزب عن علمنا أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ارتكب ذنبًا في حياته قط، فلقد وُلد معصومًا وعاش معصومًا. أجل، ظل طوال حياته مؤيدًا بالوحي، ورغم هذا كله كان يستغفر الله بهذا القدر كل يوم.
خلاصة القول: إنه لمكسبٌ كبيرٌ أن ينهض الإنسانُ ليلًا بسبب ذنبٍ اقترفه، ويفترش سجادةَ الصلاة، وتسيل عبراته، ويستغفر الله ألف ألف مرة.. أما الذي يعتبر نفسه وكأنه ما أخطأ في شيء، ويعيش في إقليم فضائله الساحر، مغمورًا بنجاحاته، مَعْمِيًّا بإنجازاته، فمن الصعب للغاية أن يتوجّه إلى ربه بمثل هذا المحو والخجل، أما مَن يتعامل مع أي ذنب ولو كان صغيرًا وكأنه ارتكب جرمًا عظيمًا فمن شأنه أن يتوجه إلى الله تعالى بصدق وإخلاص، ويبثه همومه، ويتوسل إليه ويتضرع بالدعاء.. وعلى ذلك فإذا كانت رغبة الإنسان في امتداح الآخرين له أمرًا مذمومًا، فإن محاسبة الإنسان نفسه على ما اقترفت يداه لهو أمر محمود، اللهم اجعلنا من عبادك المحظوظين بمحاسبة أنفسهم بحق! آمين.
[1] صحيح البخاري، الشهادات، 16؛ صحيح مسلم، الزهد والرقاق، 65. [“عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: “وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ” مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: “مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلَانًا، وَاللهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ”].
[2] سنن ابن ماجه، الأدب، 57؛ النسائي: السنن الكبرى، 6/118.
[3] صحيح البخاري، الدعوات، 3؛ سنن الترمذي، تفسير السورة، 47.
[4] صحيح مسلم، الذكر، 41؛ سنن الترمذي، تفسير السورة، 47.