سؤال: يتشوف البعض حتى في بعض المؤسّسات القائمة على روح الخدمة والتفاني إلى زيادة رواتبهم ورفع مستوى معيشتهم بناء على طبيعة الأعمال التي يقومون بها وساعات العمل التي يضحون بها، فما رأيكم في هذا؟
الجواب: بادئ ذي بدءٍ أريد أن أنوه بأن الجميع ليسوا على مستوى واحدٍ في روح الخدمة والتفاني كما هو الحال في سائر الصفات الأخلاقية الأخرى، بل إن أكثر المرشدين تأثيرًا في أقسى القلوب لم يسعه أن يصل بجميع مخاطبيه إلى مستوى معين، فكما لا بدّ للمرسل أن يتحرى الدقة والكمال في إرساله فكذلك يجب أن يكون لدى المتلقِّي استعدادٌ وقابلية لاستقبال المعلومات المرسَلة إليه.. لنفرض أنكم هرولتم لإغاثة ملهوفٍ بصهريجٍ كبير من الماء رغم أنه لا يملك إلّا دلوًا فقط؛ فمن الطبيعي أن ينسكب ما فاض عن الصهريج على الأرض، وما أعذب ما عبر به أحدُ الشعراء
عن هذا الحال قائلًا: تأتي الفيوضات حسب القابليات والقدرات
بمعنى أن الأخذ والعطاء والإرسال والاستقبال ينبني على القابليات والقدرات.
وإذا ما نظرنا إلى عصر السعادة “صدر الإسلام” لرأينا تنوّعًا في المستوى حتى بين سادتنا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم رغم أنهم كانوا يتحلقون حول المصباح المنير صلوات ربي وسلامه عليه، الذي تبوأ القمة في عملية التأثير على الآخرين، والحق أنه ليس بوسع الناس العاديين من أمثالنا أن نضع في درجة معينة أو مستوى معين هؤلاء الذوات النورانيين الذين قيل فيهم: “إِنَّ مَثَلَ أَصْحَابِي كَمَثَلِ النُّجُومِ، هَهُنَا وَهَهُنَا، مَنْ أَخَذَ بِنَجْمٍ مِنْهَا اهْتَدَى، وَبِأَيِّ قَوْلِ أَصْحَابِي أَخَذْتُمْ، فَقَدِ اهْتَدَيْتُمْ“[1]، فلا جرم أن شخصًا مثل سيدنا أبي بكر أو سيدنا عمر رضي الله عنه لا يمكن أن يتساوى في مرتبة واحدة مع صحابي آخر، وعلى ذلك يمكن القول إن هؤلاء الصحابة الكرام رضوان الله عليهم قد استفادوا من الحبيب الأعظم، النقطة المركزية للتجليات الإلهية سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، كلٌّ على قدر قابلياته واستعداداته.
ومثل هذا التنوع في المستوى يسري على هذه الأرواح التي وهبت نفسها للخدمة في سبيل الله في يومنا هذا.. فمثلًا مع أن بعضهم لا يملك إلا ما يُقيم أَوَدَه، وحتى إن عضّه الجوعُ والعطشُ بِنابه فإنه لا يسأل الناس شيئًا، وفي المقابل هناك بعضٌ من الناس لا يستطيع أن يتحمل هذا المستوى من التضحية، وربما يخضع لنقاط ضعفه مثل الطعام والشراب والراحة، وتسيطر عليه الآمال والتطلّعات التي تخلّ بدستور الاستغناء.. وبينما يهيمن على البعض شعورٌ برابطة الموت يتحكّم في الآخرين طول الأمل وتوهّم الخلود.. ذُكر لي مرة أن رجلًا اشتعل الرأس منه شيبًا وأصبح على حافة القبر، غير أنه لم يعبأ بهذا كله، وذهب إلى أحد الأطباء قائلًا له: “سمعت من يقول إن هناك ما يسمى بإكسير الحياة، فهل هذا صحيح؟”.. والحقّ أن تشوّف هذا الإنسان الذي بلغ هذا السن إلى الخلود وطلبه أن يعيش مدة أطول يعني في قناعتي طلبًا للبؤس والرذالة .. من المسلّم به أن المرء قد جُبل على الآمال والتطلعات التي لا تنتهي، وتستولي عليه رغبة طول العمر، غير أنه لا بد ألا ننسى أن هذا الشعور قد وُهب للإنسان من أجل الدار الآخرة.
والحال هكذا في مسألة الخدمة والتفاني؛ إذ إن هناك بعضًا من الناس لا يقدرون على مشاركتكم عوالمكم الروحية رغم مخالطتهم ومعاشرتهم لكم، ويتطلّعون دائمًا إلى المنافع الدنيوية، ولذا لا يقنعون برواتبهم ومناصبهم ومقاماتهم، ويرغبون في زيادة مرتّباتهم ورقي مناصبهم، واتساع إمكانياتهم وارتفاعها مع مرور الزمن، فإذا ما وصلوا إلى المنصب الذي كانوا يأملون شرعوا في البحث عن منصبٍ أعلى، ولعدم قناعتهم تراهم يشتكون دائمًا من حالهم، ومن ثمّ فعلينا أن نوقن بدايةً بحقيقة وجود مثل هذه النوعية من الناس، وإن كانوا يعملون في دائرة الخدمة والتفاني.
يجب أن توسَّد الأمانةُ إلى أهلها
أما بالنسبة للأمور التي يجب القيام بها إزاء هذه الحقيقة فكما يلي: يجب على المسؤولين عن توظيف الناس في وظائف معينة بمكانٍ ما أن يدرسوا جيدًا شخصية وطبيعة الأشخاص الذين سيقعون تحت مسؤوليتهم.. وفي هذا الصدد يجب الرجوع إلى العقل الجماعي بقدر الإمكان، وهذا أمرٌ يتطلب من العقل الجماعي أن يتحرك على بصيرة، فيُراقب هؤلاء الذين يرتقون في مدارج الحياة العامة ويختبرهم في كلّ مرحلة من مراحل الحياة، حتى يقول: “أجل، هذا الشخص أهلٌ لهذا المستوى”.. فإن حدث ذلك فقد تمّت الحيلولة دون وصول البعض إلى مقامات معينة مع عدم أهليّتهم، إلى جانب منعهم من الوصولِ إلى تطلعاتهم المفرطة، وتصرفاتهم المنافية لدستور الاستغناء.
والواقع أنكم قد تحتاجون أحيانًا إلى من يقوم بالعملِ في مكان ما، وقد لا تجدون ذلك الشخص الذي يتماشى مع معاييركم الأساسية.. يوجد حولكم شخص أو اثنان هما من يستطيعان القيام بهذه الوظيفة، ولكن تسيطر عليهما بعض نقاط الضعف كالطمع والحسد، ومع ذلك لا يوجد أحد آخر يملأ هذا المكان الشاغر، وعند ذلك يمكنكم أن تعهدوا إلى ذلك الشخص الذي يفتقر -وفقًا لمعاييركم الخاصة- إلى العفة والاستغناء والتضحية؛ من باب ارتكاب أخفّ الضررين واختيار أهون الشرّين، ولكن إن وجدتم مَن هو أهلٌ لهذا العمل فعليكم أن تعهدوا للآخر بوظيفة أخرى تتناسب معه، وتسلموا الأمانة إلى صاحبها الحقيقي؛ لأن الأمانة لا تُعطى لمن ليس بأهلها، فإن حدث خلاف ذلك فهي الخيانة للأمانة.
ولمّا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال: “إذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ“، فلما سئل عن كيفية إضاعة الأمانة قال: “إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَة“[2].
وعلى ذلك فإذا وسِّد الأمر إلى غير أهله فقد قامت قيامته، فلو ظلّ الأمر هكذا، وعُهد بالأمانة لغير أهلها قامت حينذاك القيامة العامة، وربما إذا انقضى عمر الدنيا اتخذت خيانة الأمانة أبعادًا أخرى، وشملت كل العالم.
توفّر الإمكانيات والاقتصاد الحقيقي
ثمة أمر آخر يمكن القيام به فيما يتعلّق بمن لا يقنعون بما في أيديهم ويتطلّعون إلى أعلى؛ وهو إعلامهم بأن التضحية والقناعة بالموجود ليسا من الأسس التي لا بد من مراعاتها عند الاضطرار فقط، بل لا بد أن يكون دستورُ الاقتصاد والاستغناء جزءًا من طبيعة حياتهم.
أجل، يجب ألا تُغيّر وفرةُ الإمكانيات وكثرةُ الثروات من مبادئنا العامة؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم حذر مَن يتوضأ على نهر جارٍ من الإسراف في المياه[3]، وعلى ذلك فكما أن وضْعَ الإنسانِ ذراعه في الماء وهو يتوضأ لمدة دقيقتين أو ثلاث يعد من قبيل الإسراف حتى وإن كان يتوضأ على نهر جارٍ، فمن الإسراف أيضًا غسل الأعضاء أكثر من ثلاث مرات.. وإن دينًا كهذا يتحرى هذا القدر من الاقتصاد في حياة الأفراد فإنه يتطلب الحساسية عينها في المسائل الأخرى.. بمعنى إذا كان من الضروري أن يتصرف الإنسان باقتصادٍ ولو على حافة النهر فهذا يعني أنه يجب على الإنسان أن يقتصد حتى على حافة الثروة، وأن يعيش باستغناء، ولا يغير نمط حياته قط.. فمثلًا على الإنسان أن يراعي الضوابط التي وضعها الإسلام في مسألة الطعام والشراب في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (سورة الأَعْرَافِ: 7/31) فلا يسرف أبدًا، وكما تعلمون فقد أشار الأستاذ النورسي رحمه الله إلى أنَّ تنوُّع الأطعمة يشكّل شهيّة مصطنعة لدى الفرد، فرغم أن الإنسان يمكنه أن يشبع بطعام واحد، إلا أن تنوُّع الأطعمة أمامه واقتطاعه ملعقة من هذا الطعام أو ذاك يثير في الإنسان شهوة مصطنعة، وهذا الوضع يشكل حالة حرجة، ولذا يجب الاقتصاد في الثروة، وأن يكون الطعام والشراب على قدر الحاجة دون إفراط.
ورغم أن بعض سادتنا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا يمتلكون ثروات طائلةً فإنهم كانوا يعيشون حياة بسيطة جدًّا، فهذا سيدنا عثمان رضي الله عنه يهبُ جيش العسرة ثلاثمائة بعير، وكان يقدر في الوقت ذاته على تجهيز عشرة آلاف جندي من الجيش[4]، ومع ذلك لم يغيّر من معايير مستوى معيشته، فكثيرًا ما كان يتوسّد الرمال ويرقد عليها في المسجد النبوي، كما كان يُطْعِمُ النَّاسَ طعامَ الإِمارَةِ، ويدخُلُ بَيْتَهُ فَيَأْكُلُ الْخَلَّ وَالزَّيْتَ[5]..
وكذلك كانت حياة سيدنا علي رضي الله عنه تتميز بالبساطة نفسها، في شتى أموره لا سيما ملبسه، رغم أنه كان يحكم دولةً تزيدُ عن حجم تركيا اليوم بعشرة أضعاف، وكانت الغنائم تتوافد على هذه الدولة من أصقاع الأرض، ومع هذا لم يغير رضي الله عنه ولا غيره من الصحابة العظام من حياتهم، وأصرّوا على بساطتهم، وآثروا منوالَ الحياة الذي كان يعيشه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا نِعْم القدوة لنا في حياتنا.
ولكن إذا ما اختلف نمطُ حياتنا عند تعدّد إمكانياتنا فهذا يعني -حَفِظَنا الله- أننا سقطْنا ضمن دائرة فاسدة تمتدّ لأمدٍ بعيد.
لا حدّ للحياة البوهيمية
وهذا أمرٌ يدعونا إلى الثبات وعلوّ الهمة؛ فحتى وإن انهالت علينا الأموال من السماء مدرارًا، وتجمعتْ أمامنا تلالًا وأنهارًا فعلينا أن نقول: “هبّي أيتها الأموال من حيث شئتِ، فلا حاجة لي فيكِ، فلن يمكنك أن تنالي مني أو تنفذي إلى قلبي”.
كان بعض أهل الله يُنفقون أموالهم، ولا يُبقون مما يأتيهم من المالِ ولو درهمًا واحدًا لليوم التالي، وقدوةُ هؤلاء هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ سَرِيعًا حَتَّى تَعَجَّبَ النَّاسُ لِسُرْعَتِهِ، فَتَبِعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلَ عَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: “إِنِّي ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي الْعَصْرِ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَنَا فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِه“[6].. لقد كان طهره صلوات ربي وسلامه عليه ونورانيته يؤثران فيمن حوله إلى حدِّ أن الثراء لم يغيّر قط من أفعال وسلوكيات سادتنا الصحابة رضوان الله عليهم.
ورسالة الاقتصاد لبديع الزمان سعيد النورسي[7] مصدرٌ مهمّ في هذا الموضوع، فمن المفيد جدًّا قراءتها بين الحين والآخر حتى نعتاد العيش في أُطُرِ القناعة والاقتصاد؛ لأنه لا حدّ للعيش في رفاهية ونشوة وبوهيمية، فلو أسلم الإنسانُ نفسَه لمثل هذه الحياة فقد قضى عمره -حفظنا الله- تحت أسارة الجسمانية، ولذا كان الاقتصاد والقناعة قيمتين عظيمتين للغاية بالنسبة للجميع فقيرًا كان أو غنيًّا.
والقناعة لها أهمية أعظم بالنسبة لمن وهبوا أنفسهم لخدمة الإيمان والقرآن، فعلى مستخدمي هؤلاء الرجال أن يُقدروا لهم راتبًا يستعينون به على إعاشة أنفسهم وذويهم، وفي المقابل ينبغي لمن سلكوا طريق الخدمة أن يتحلوا بالقناعة والاقتصاد طوال حياتهم، وألا يعقدوا مقارنة بين حياتهم وحياة غيرهم، وأن يعوِّدوا أنفسهم على العيش بمرتب زهيد سواء كانوا داخل الوطن أو خارجه، فحصول غيرهم على مرتبات عالية لا يشكل مثالًا لهؤلاء الذين يحلّقون في أفق الخدمة والتفاني؛ لأن هؤلاء لا يفكرون في امتلاك منزل أو غيره، بل يكفيهم بيتٌ للإيجار يؤويهم هم وذويهم، ويتعيشون بما أفاء الله تعالى عليهم.
هذا هو أساس التفاني، وما يُفسد هذا الأساسَ هو غبطةُ أصحاب المنصب، والتطلّع إلى مثل حالهم، فبعض الناس قد يستهويهم المأكل والمشرب والدعة والخمول، ويقضون حياتَهم في غفلة.. وقد يوسّع الله سبحانه وتعالى على البعض من دائرة مشروعة، فهذا أمرٌ آخر، لكن يجب على المستفيدين من إمكانيات الخدمة أن يتحرّوا الدقة والحساسية البالغة في هذا الأمر، فلا ينبغي لأحد أن يأخذ شيئًا ليس من حقّه.. فلقد ظلّ سيدنا أبو بكر الصديق رضوان الله عليه مدة خلافته لا يأخذ من راتبه إلا قدر الحاجة فقط، وما زاد عن ذلك كان يضعه في جرة، وحين الوفاة أوصى بتسليم هذه الجرة إلى الخليفة من بعده، فلما رأى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك
لم يتمالكْ عبراته، وقال معبرًا عن عظمة سيدنا أبي بكر: “رَضِيَ اللهُ عَنْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكَ”[8]، فَلِزامٌ على الأرواح المتفانية في زماننا أن تكون على هذا المنوال.
فلا ينظرنّ إلى الإمكانيات التي حازها الآخرون أو الراتب الذي يتقاضونه، ولا تذهبنّ بهم الظنون أن يقولوا: “يبدو أن هذا هو حق هذا المقام وتلك المنزلة”، عليهم أن يعرفوا أن مثل هذه الظنون تأكل النعم الأخروية وتلتهمها وإن كان يلهث أصحابها حتى تتقطع أنفاسُهم في سبيل الله.
المحاسبة الدائمة
وثمة أمرٌ آخر لا بدّ من مراعاته فيما يتعلق بهذا الموضوع وهو: على الإنسان أن يحاسب نفسه قائلًا: “يا ترى! هل أنا أستحقّ بالفعل ما أتقاضاه من راتب؟”.. بل علينا أن نحاسب أنفسنا عن مدى أحقّيتنا لهذا الشيء حتى وإن كنا نصلي في مكان مفتوح للعامة، ونأكل من طعام هذه المؤسسة، ونشرب من شرابها.. والحق أننا إن كنا أوقفنا أنفسنا للخدمة حقًّا فيجب أن نتضوّر ونتلوّى بهذه الأفكار في عالمنا الداخلي، ونتعجّب من حالنا.
فحتى غنيمة الحرب التي شُرعتْ لتعريف الناس بعظمة وجلال اسم الله تعالى ترتكز في مشروعيتها وإباحتها على أسسٍ معينة، فمثلًا قال النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى غزواته: “مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ“[9]، ولكن لما أمر بإعطاء أحد الصحابة نصيبًا من الغنيمة
قال له ذلك الصحابي الجليل الذي لا نعرف اسمه: “مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ”[10].. وهكذا يجب أن تدور الخدمة على هذه الفكرة، وأن يعيش رجالها في استغناءٍ عن الناس دائمًا، حتى يحظوا بالقبول لدى الناس أيضًا، وتكون أفعالهم وتصرفاتهم ذات صدى في قلوبهم، فـ”إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ الله عَزَّ وَجَلَّ“[11]، فلا حاجة لهم إلى قول المزيد؛ لأن أفعالهم بمثابة اللسان الفصيح والخطيب البليغ، أما هؤلاء الذين لم يستطيعوا أن يبلغوا هذا المستوى فإن صياحهم وصراخهم لا يجدي كثيرًا مع الناس، وإن شغلوا بالهم مؤقتًا فلن يستطيعوا أن يقرّبوهم حتمًا من السير في طريق الله سبحانه وتعالى.
ربما يرى البعضُ صعوبةً بالغةً في الحياة على هذا المستوى، ولكننا طالِبُو الصعاب، وعلينا ألا ننسى قول ربنا سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى﴾ (سورة الضُّحَى: 93/4)، فهذا الخطاب ينطبق علينا أيضًا، كما وبّخ القرآن الكريم الذين يرون خلاف ذلك بقوله: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ﴾ (سورة القِيامَةِ: 75/20-21).
ويقول فضيلة الأستاذ النورسي: “نعم! إن هذا العصر قد جعل حتى المسلمين يستحبون الحياة الدنيا ويفضّلونها على الآخرة على علمٍ ورغبةٍ منهم، كما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/3)”[12]؛ وقد أشار فضيلة الأستاذ النورسي بهذا إلى أن حبّ الدنيا التي هي أعظم بليّة في آخر الزمان تحول دون الآخرة، والآيةُ تُنبِئ عن عصرنا الحالي، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الفعل “يَسْتَحِبُّونَ” قد جاء بصيغة المضارع فيمكننا أن ندرك أن هذا الوضع سيستمر فترة طويلة، بل يمكن أن يُقال إن مفهوم تفضيل الحياة الدنيوية على الحياة الأخروية سيستمر بعلمٍ وقصدٍ حتى في السنوات اللاحقة.. والواقع أن الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان قد ذكر في كتابه “الفقه الأكبر” أن مثل هذا التردّد قد يوقع الإنسان في الكفر والعياذ بالله، والأولى أن نقول: “كيف إسلامنا؟”، أو “أين الإسلام وأين نحن؟!”.. وقد أشار شاعر الإسلام التركي “محمد عاكف أرصوي” إلى هذا الهمّ بقوله:
أينَ الإسلام؟ بل أين الإنسانية؟ لقد افتقدناهما بالتمام
فإذا كانت الغاية خداع العالم فلا مخدوع والسلام
وكم من مسلم حقيقيّ عرفتُ! إلا أنهم في القبر يرقدون تحتَ الركام
لستُ أدري أين أجِدُ الإسلام! كأنّه في السماوات العُلا فوقَ الغمام!
أجل، من المسلّم به أن هذا العصر هو عصرٌ مارد؛ إذ يميل الناس فيه إلى البذخ، والطعام والشراب، والدعة والخمول، وقُتل شعور الآخرة عندهم، ودُفن في قاع الأرض حتى لا تقوم له قائمة من بعد؛ وعلى ذلك يجب ألا ننسى أن تأثيرنا في الآخرين في مثل هذا الوقت يرتبط بظلّنا على الأرض، فإن استقمنا استقام ظلُّنا، وأثّر حالنا في قلوب الناس بنفس القدر.
[1] البيهقي: المدخل إلى السنن الكبرى، 1/163.
[2] صحيح البخاري، العلم، 2، الرقاق، 35؛ مسند الإمام أحمد، 2/361.
[3] انظر: سنن ابن ماجه، الطهارة، 45؛ مسند الإمام أحمد، 2/221.
[4] انظر: سنن الترمذي، المناقب، 18؛ مسند الإمام أحمد، 4/75.
[5] أبو نعيم: حلية الأولياء، 1/60.
[6] سنن النسائي، السهو، 104.
[7] انظر: بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة التاسعة عشر، ص 191-203.
[8] الطبراني: المعجم الكبير، 1/60.
[9] صحيح البخاري، الخمس، 13؛ صحيح مسلم، الجهاد، 41.
[10] سنن النسائي، الجنائز، 61.
[11] سنن ابن ماجه، الزهد، 4.
[12] بديع الزمان سعيد النورسي: الملاحق، ملحق قسطموني، ص 132.