سؤال: ذكرتم فيما سبق أن ثمة أهميةً كبيرةً تصل إلى حدّ الضرورة في تحديدِ نقاطِ الاتفاق بين الأحداث التي حفلت بها السيرة النبوية والأحداث الراهنة؟ فما الذي يشير إليه صلح الحديبية في يومنا الحالي؟
الجواب: السيرة النبوية مصدرٌ مهمٌّ لا بدّ من الرجوع إليه دائمًا؛ فهي الدليلُ لفهم القرآن الكريم، والتفسيرُ الحيُّ للنصوص القرآنية، وقد كشف لنا النبي صلى الله عليه وسلم بحياته المباركة وبأقواله وأفعاله وتقريراته عن ماهية الحياة التي تتوافق مع الوحي الإلهي، كما كان الصحابةُ رضوان الله عليهم فصحاءَ بلغاء؛ فأحسنوا قراءة هذين المصدرين القدسيّين الكتاب والسنة، وفهمهما، وتفسيرهما، والتعبير عنهما، وخلّفوا لنا طريقًا تسير عليه الأجيال اللاحقة بهم، وأحسبُ أن خلاصَنا يكمن في الاقتداء بهؤلاء الصحابة الكرام الذين تشرّفوا بقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ مَثَلَ أَصْحَابِي كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ؛ مَنْ أَخَذَ بِنَجْمٍ مِنْهَا اهْتَدَى“[1].
الزمن: مفسرٌ كبيرٌ
إن الأحداث التي وقعتْ في عصر السعادة النبوي وإن كانت وقائع جزئية فإنها تحفل بإشاراتٍ للأحداث الكلية التي يمكن
أن تقع حتى يوم القيامة، وكأن بكلِّ حادثة وقعت في هذه الأزمنة قرائنَ من شأنها حلّ جميع المشاكل التي قد تحدُث في الفترات اللاحقة.. وهكذا فمن راعى ظروف زمانه والمستوى الثقافي لمن يعيشون في عهده واستعان بهذه القرائن فمن الممكن أن يتوصّل إلى حلٍّ لمشاكل عصره، كما أن الإنسان اليوم في هذا العالم الذي أصبح كالقرية الصغيرة -بعد التطوّر السريع لوسائل الاتصال والمعلومات- يمكنه التوصل إلى حلولٍ بديلةٍ للمشاكل التي تعترضه إذا ما استطاع الأخذ بهذه القرائن التي كشفتْ عنها الأحداث التي أوردتها السيرة النبوية، ولكن حتى يمكنه القيامُ بهذا الأمر على الوجه الأكمل ينبغي له قراءة السيرة النبوية والتعرّف عليها وتقييمُ العصر الذي يعيش فيه وتحليله.. فلو شئتم ضعوا أمامكم ما تصل إليه أيديكم من كتب السيرة واقرؤوها من بدايتها إلى نهايتها، وانقلوا للآخرين ما قرأتموه، فقد تستطيعون سبر أغوار الحوادث التي جاءت بالسيرة بما حصّلتموه من معلومات، حتى إنكم قد تشعرون في وجدانكم عند حديثكم عن هذا العهد النبوي وكأنكم من أبطاله، وقد تنفعلون بما وقع فيه من أحداثٍ مفجعة، أو تغرقون في سعادةٍ عارمة بما صادفكم من أحداث مُفرحة، ولكن إن اكتفيتم بهذا فقط، ولم تستعينوا بالقرائن التي كشفت عنها أحداثُ السيرة في حلِّ مشكلات عصركم فهذا يعني أن حديثكم لا يخرج عن كونه حكاية ورواية للأحداث التاريخيّة بشكلٍ جميل.
ولا ريب أن هناك مَنْ سبَقَنَا في الوقوف على بعض المسائل المتعلّقة بفقهِ السيرة في فتراتٍ مختلفة من تاريخ الإسلام، وحاول تحليلَ بعضِ الأحداث التي وقعتْ في عصرِ السعادة النبوي من وجهة التاريخ الاجتماعي، ولكن مِن المسلّم به أن هناك فروقًا جذرية من الناحية الاجتماعية بين ظروف ذلك العصر وظروف عصرنا؛ فقد أُهملتْ المفاهيمُ الفلسفيةُ التي ظهرتْ في الماضي وعلى فتراتٍ مختلفة مع مرورِ الوقت، وبَلِي بعضُها، وحلّ محلَّها أنماطٌ فكريةٌ جديدة؛ ولذا لا يمكننا أن نقول إنّ ما وقع من أحداثٍ في الماضي يتوافق تمامًا مع أحداث اليوم وإن كنا استفدنا من تحليل هذه الأحداث الماضية؛ ومن ثمّ فلا يفقه السيرةَ وفقًا للظروف الحالية إلا أبناءُ الزمان أو أبناء الوقت الذين يراعون تفسير الزمان وهو أكبر مفسِّر، ويضعون حسابًا للتأويلات والتفسيرات التي أتى بها.
وهكذا فإذا ما نظرنا إلى السيرة بهذا المنظور لألفيناها منهلًا عذبًا مورودًا لا بدّ من الرجوع إليه.
أجل، السيرة هي مَعينٌ لا ينفد ولا ينضب بالنسبة لحياتنا الفكرية، ومن يستطيع الاستفادة منها يحصل على الشيء الكثير، فإذا ما نظرنا أيضًا إلى مسألة صلح الحديبية الواردة في السؤال لوجدنا هذه الواقعة تزخر بالعديد من الحِكم الصالحة ليومنا الحالي.
شمس الحِلْم تُذيب جليدَ الكُرْه
في العام السادس من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين إلى مكة بقصد العمرة؛ حتى يعلّمهم كيف تُؤدَّى العمرة وفقًا لأسسِ الإسلام وروحه، غير أن قريشًا استخدمت كلَّ قوّتها وشدتها للحيلولة دون إتمام هذا الأمر، فلما اقترب النبي صلى الله عليه وسلم من مكة أرسل إليهم سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ليخبرهم بأن المسلمين ما جاؤوا للقتال بل لأداء العمرة، فاحتبس المشركون عثمان رضي الله عنه في مكة[2]، حتى أُشيع أنه قد قُتل، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا المسلمين إلى البيعة[3]، وإثر هذه الأحداث ارتفعت حدّة التوتر، وبلغ السيلُ الزُّبَى، ووضعَ الصحابة أياديهم على مقابضِ سيوفهم استعدادًا للمواجهة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد وعدهم بأداء العمرة والطواف حول الكعبة، كما أنهم قطعوا على صهوة جيادِهم طريقًا يبلغ أربعمائة كيلومتر، وكابدوا مشقّات ذلك الزمان، ووصلوا إلى مكانٍ قريبٍ من جدة، غير أنهم فوجئوا باعتراض المشركين لهم، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يفكر في نفسه وكرامته وأعطى صحابته إشارةً بالاقتحام فما كان بوسع خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص أو جيش المشركين كله الذي يبلغ قوامه عشرةَ آلافِ شخصٍ أن يقف أو يعترض طريق هؤلاء الصحابة المغاوير؛ إذ كانوا قادرين على دحرِ المشركين والوصول إلى مكة، ولكنّ تصرُّفًا كهذا ما كان ليفيد شيئًا بالنسبة لغاياتهم العليا وأهدافهم السامية؛ لأن الطرف المقابل كان مليئًا بأولئك الذين سيكتب اللهُ لهم الهداية لاحقًا.
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم؛ رجلُ الحيطةِ والحذرِ يعلم جيّدًا ما يمكن أن يؤول إليه أيُّ تصرفٍ يقوم به، ولذا عقد مع المشركين صلحَ الحديبية، بعد أن بايعه الصحابة الكرام على الحرب معه حتى الموت وعلى عدم الفرار؛ وبهذا كان من الأيسر على المسلمين قبولُ الرجوع مرة أخرى إلى المدينة، وهم الذين بايعوه على أمرٍ أصعب من هذا الأمر بكثير.. وهذا التعامل الفريد من النبي صلى الله عليه وسلم الناشئ عن فطنته وبصيرته، مصدرُه الوحي غير المتْلوّ، أو هو نتيجةٌ فاضت بها فطرته.
قد تبدو للمسلمين مواد الصلح جائرة بحقّهم في الظاهر[4]؛ فهؤلاء الصحابة الذين كان يُناهزُ عددهم ألفًا وخمسمائة[5] كانت قلوبهم تتحّرق شوقًا واشتياقًا إلى الكعبة المشرفة، ومع ذلك اضطروا إلى الرجوع من حيث أتوا دون أن يطوفوا بالكعبة، كان هذا الأمر في الظاهر خسارة كبيرة للمسلمين، ولكن هؤلاء الصحابة الذين أَمِنوا على أنفسهم في الجزيرة العربية استطاعوا بفضل صلح الحديبية الانتشار بين العشائر والقبائل المختلفة في كلِّ مكان، وتهيَّأت لهم الفرصة لتحديث الناس عن جماليات الإسلام، وآيات القرآن، كما أن هذا الجو السلمي قد ألان قلوب المشركين الجامدة القاسية، فلم تكد تمرّ سنتان على صلح الحديبية حتى شعر بعضُ وجهاء مكة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة بفجوةٍ كبيرة في صفوف جبهتهم وتنامي قوة المسلمين، فجاؤوا إلى المدينة المنورة وأعلنوا إسلامهم عن طيبِ نفسٍ منهم طوعًا لا كرهًا.
ولا يقتصر الأمرُ على الثلاثة الذين ذكرناهم فحسب، بل يتجاوز المئات، وربما الآلاف وفقًا لظروف هذا العصر، فبفضل حلمه صلى الله عليه وسلم ولينه تفكّكت الجبهاتُ المعارضة على اختلاف أنواعها في هذا الجوّ السلمي المخْمَلِيّ اللطيف الذي انبثق عن صلح الحديبية، وجاءت إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته؛ جاءت بلا إكراه، ودخلت في دين الله أفواجًا.. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشرف كلَّ هذه الأحداث بنظرةٍ أفقيّة ويقيّمها برؤيته الإجمالية؛ ولذا لم يكن مقصده الذهاب إلى مكة، والطواف بالكعبة، وفتح مكة فحسب، بل كان ينشد أكثر من ذلك؛ فتحَ القلوب، وكسبَ الناس، ورغم أن شروط الصلح كانت جائرة في الظاهر على المسلمين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بصنيعه هذا قد فوّت الفرصة على القبائل في الجزيرة العربية بأن يقولوا: “لقد دخل محمدٌ وأصحابُه مكة وسفكوا الدماء في البيت الحرام”، كما أن مكة قد فُتحت بعد وقت يسير دون إراقة دماء، وحُفظت هيبة الحرم الشريف، والواقع أن بعض الأشخاص ممن لم يستوعبوا دقّة الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم قد دخلوا في نِزاعٍ وشجار مع بعض المشركين، ولكن هذا الأمر يشكّل حالة استثنائيّة.
القلوب التي انفتحتْ بفضلِ هذا المناخ السلمي
ولنقف الآن عند بعض الأمور التي من الممكن أن يستلهمها إنسانُ هذا العصر من تلك الواقعة التي تعرضنا لها بإيجاز: فمع تطور وسائل المعرفة والاتصالات تقلّصت المسافات، واختلطت وتشابكت شتى المفاهيم والثقافات، وصار أصحاب الديانات والثقافات المختلفة يتقاسمون نفس المكان، ويعيشون معًا؛ فمثلًا إن ذهبتم إلى بلدة إفريقية لألفيتم هنالك أناسًا ما زالوا يدينون بعقائد قومهم، ومنهم من تنصّر، بل إن بعضهم يكاد يكون أكثر تعصّبًا من النصارى في الغرب.. ومن بين هؤلاء أيضًا أناسٌ لديهم أحكامٌ مسبقة وأفكار سلبية عن الإسلام؛ فإذا ما كنا نريد أن نقيم علاقةً بين هؤلاء الناس فلا بدّ من تدبّر الأمور وتأملها؛ لأن الأمر لا يحتمل أي فظاظة أو غلظة؛ كما أنه من المتعذر إقامة أي علاقة وطيدة مع الناس بالإكراه والإلزام؛ وإنما يحدث ذلك بالحوار والتسامح وإنزال الناس منازلهم والنظر إليهم على أن الله تعالى خلقهم في أحسن تقويم، واعتبارهم من حيث فطرتهم واستعدادهم مرآةً لتجلي الألطاف الإلهية.
وبعد دراسة كلِّ هذه الأمور، وإدراكِ الإنسان أنه ابنُ هذا الزمان ويعيش في هذا المجتمع لا بدّ من تحديد الأسلوب وتطويره، وإنّني أظنّ أنّ عدم استطاعتنا تطوير مثل هذا الخطاب الشامل الذي يسع الجميع ويحتضنهم لَمن أعظم عيوبنا في هذا العصر، فيا ليتنا نجدُ هناك -إن جاز التعبير- مراكز لتطوير الخطاب على غرار مراكز الحوار؛ يمكنها أن تُكسبَ إنسانَ هذا العصر مثل هذا المستوى الرفيع؛ وليت هذه المؤسسات تضطلع بتوضيح كيفية التعامل مع أصحاب المفاهيم والثقافات المختلفة وإقامة حوارٍ معهم دون أن يؤدي ذلك إلى وقوع أيّ ردٍّ سلبي، والحقُّ أن لدينا مرجعَين فسيحَين قادرين على حلِّ مشكلات كلّ العصور؛ وهما الكتاب والسنة، ولكنني أرى أن ثمة حاجةً ماسة إلى لغةٍ خطابيةٍ مشتركةٍ من أجل تقديم هذين المرجعين بشكلٍ يتناسب مع أبناء الثقافات والمجتمعات المختلفة.
ونظرًا لأنّ لغةَ المجتمعاتِ وثقافاتِها وغيرها من الأمور تتّسم بحساسيةٍ مفرطةٍ فعلينا أن نتعرّف على مخاطبنا وأن نراعي مشاعره العامة، أما إن غضضنا الطرف عن كل هذا، وحملنا غيرنا على اعتناق أفكارنا فقط؛ فقد ضللنا وأخطأنا السبيل، إذ إنّ مَن يُركّز في قيادة سياراته فقط، ولا يضع في حسبانه الطرفَ المقابل أثناء السير؛
لا يمكن له أن يكون سائقًا ماهرًا، لأن السائق الماهرَ هو مَنْ يجلس على عجلة القيادة، ويضع في حسبانه مَنْ يأتون عن اليمين أو اليسار أو الأمام، أو ينحرفون فيغيّرون الحارة المرورية، وقد يخطِئُ الإنسان أخطاءً جسامًا عندما يتحدّث من غير روية، أو يتكلم بارتجالٍ عن المسألة، ولا يراعي ما يمكن أن يفضي إليه فورانُ أحاسيسه ومشاعره من أفكارٍ سلبية في ذهن المخاطب.
ولنرجع إلى موضوعنا الأصلي ونقول: علينا أن نستفيد مما وقع في صلح الحديبية، ونهتدي به في عصرنا الراهن، ولنبحث عن سبلٍ للتصالح مع الناس على اختلاف دياناتهم في هذا العالم الذي أصبح كالقرية الصغيرة.. وفي هذا الإطار يمكن لمؤسّسات المجتمع المدني أن توقِّع عددًا من الاتفاقيات بين المجتمعات؛ فإن فعلتم ذلك تلاشت الأفكار المسبقة والهجمات التي قد تعترضكم في طريقكم، وهيأتم الفرصة للآخرين ليقولوا: لا يمكن أن ينالنا ضررٌ من هؤلاء الناس”؛ لأن الواقع يقرر أنه ليس من شيمكم إلحاق السوء بأحدٍ أبدًا، ولكن لا بد أن تهيئووا الأجواء للكشف عن ماهيتكم، وإنصات الآخرين لكم؛ وأن تعلموا أنه بقدر تعرّفِ الآخرين على عالمكم الداخلي وأفقكم المعنوي بقدر ما يشعرون بالثقة فيكم.
والحاصل أنكم لو شئتم أن ينظر الآخرون إليكم نظرةً إيجابيةً في ظل الظروف الحالية فلا بدّ من تهيئة جوٍّ للتأييد والصداقة والودّ، فلو أنكم تقابلتم بأصحاب الثقافات والمفاهيم المختلفة فصافحتموهم وآكلتموهم وشاربتموهم فقد أتحْتُم لأنفسكم فرصة التعارف، كما أن تعرّف الآخرين بالعمق الروحيّ والثقافي لديكم لا يتحقق إلا في ظلِّ هذا الأمر، كما لا يمكنكم أن تتخلّصوا من الأحكام والأفكار المسبقة التي يحملها الآخرون أصحابُ الثقافات والمناطق المختلفة إلا بهذا الأمر أيضًا.
[1] البيهقي: الاعتقاد والهداية، 1/318؛ ابن عبد البرّ: جامع بيان العلم وفضله، 2/923.
[2] مسند الإمام أحمد، 5/46-47.
[3] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/315-318.
[4] صحيح البخاري، الشروط، 15؛ صحيح مسلم، الجهاد، 90-92.
[5] صحيح البخاري، المغازي، 35؛ صحيح مسلم، الإمارة، 67-72.