سؤال: ما هي الأسس التي تنبني عليها سلامة خطّ السير بالنسبة للفرد و الشخصية المعنوية ؟
الجواب: نقصد بخطّ السير هنا ذلك الطريق الذي يوصّل الإنسانَ إلى المكان الذي يتوجّب عليه الذهاب إليه أو الهدف الذي ينبغي له الوصول إليه.. وقد يكون هذا الهدف دنيويًّا أو أخرويًّا، غير أن الأهداف الدنيوية لمّا لم تكن غاية وهدفًا للفرد المؤمن فإنه يستغلها لصالح الأهداف الأخروية في سيره إلى عالم الخلود.
الرضا هو الهدف الأوحد
فمثلًا إذا ما عُهد إلى القلب المؤمن بمسؤولية القيام بأمر قريةٍ من القرى فلا يكون أو لا ينبغي أن يكون مقصدُه من هذا العمل بعض الرغبات والأهواء البسيطة كأن يحوز سلطة مادية أو يُشبع رغبة حب المنصب عنده، بل على العكس فهو يسعى ويكدّ حتى يحقق السعادة الدنيوية والأخروية لأهل القرية ابتغاءً لرضا الله تعالى، فمثلًا يواصل ليله بنهاره، وينشئ المدارس والمساجد والمكتبات وغير ذلك من المؤسّسات التي تستفيد منها القرية، ويوجّه أهلها إلى الأهداف العالية السامية، وبذلك يُنشئ أفرادًا نافعين لأمتهم وللإنسانية جمعاء؛ فإذا ما اتسعت صلاحياته أوفى بحقّ منصبه، وسعى إلى إيصال مخاطبيه إلى المُثُل العليا السامية، وإلا فلا أهمية للمقام والمنصب بالنسبة له؛ لأن الدنيا -بمحض دنيويتها- لا تعدل جناح بعوضة؛ يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ“[1]، إلا أن أهمية الدنيا تأتي من كونها مرآة للأسماء الحسنى، وطريقًا إلى الآخرة والجنة ورؤية جمال الله سبحانه وتعالى والسير في أفق الرضا الإلهي.
وعلى ذلك فإن الرضا الإلهي هو الغاية الأساسية بالنسبة للمؤمن، وأعظم الأهداف التي يبتغيها في كلِّ عملٍ أو أمرٍ يقوم به، يلي ذلك الهدفَ بعضُ الوسائل التي تبلغ مستوى الغاية مثل تعريف البشرية بمفخرة الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتحبيبهم في دين الإسلام المبين، وحتى وإن لم نصل إلى الغاية بهذه الوسائل الشبيهة بها والقريبة منها فإن الأساس هو رضا الله.
وهكذا فخطّ السير هنا يعني الطريق الذي يوصّل الإنسان إلى مثل هذا الهدف السامي، فإن أراد الإنسان أن يسير في طريقه دون أن تعترضه عراقيل أو معوِّقات فعليه أن ينظر إلى كل شيء نظرةً شمولية إجمالية، وأن يحدد الأخطار والمهالك مسبقًا؛ وبذلك يؤمِّن طريق الوصول إلى ذلك الهدف، ولا يعترضه شيء.
مشكلة الحقد والحسد التي بدأت مع الشيطان
وعلى الإنسان أن يتوخّى المزيد من الحيطة والحذر إن كان عازمًا على القيام بفعاليات وأعمال خيّرة جادة، تعود بالنفع على الإنسانية، تبهر العيون ويغبطه الناس عليها، وعليه أن يضع في اعتباره أنه لا يوجد وقتٌ يخلو من الحسّاد الحاقدين الذين تفور صدورُهم كصهارة البركان غيظًا وحقدًا، وألا يغيب عن ذهنه أنه من الممكن أن يثير غيرة صاحبٍ له يشاركه الدرب نفسه، فيضطره إلى أن يقول في نفسه: “لماذا هو ولم أكن أنا؟”.
أجل، قد يكون هناك مَن يشاركك المضمار نفسه، ويوسوس له شيطانه أحيانًا أن يحسدك على نجاحاتك، ويرى أنك تنافسه وتزاحمه في دائرته، ومن ثم يعتبر نفسه أليق بالأعمال التي يقدّرك الناس بسببها ويصفقون لك.
ولقد بدأ الحسد الأولُ لأهل الخير والجمال مع الشيطان الذي كشف عن غيظه وحقده وكرهه وغيرته وحسده لسيدنا آدم عليه السلام.. وفي هذا يقول الكاتب المسرحي الألماني “جوته (Goethe) (1749-1832م)” إن مسرحية “فاوست-مفستو” لم تنتهِ بعد؛ بمعنى أن الإنسان والشيطان سيظلان عدوين على الدوام، بل إن من شياطين الإنس مَن يُسلِس قياده لشياطين الجن، وفي هذا السياق استعمل القرآن الكريم تعبير: ﴿شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/112)، ويُقصد بشياطين الإنس الذين يتحركون بناءً على وساوس الشياطين، وينظمون حياتهم وفقًا لها.
والآن يجب على الأرواح التي نذرت نفسها للخدمة أن تراجع طريقها وخطَّ سيرها مرة بعد أخرى لأن الأعين الغادرة تراقبهم وترصد طريقهم؛ وبعبارة أخرى: على الإنسان أن يُعمِل فكره في بعض الأحداث التي من المحتمل أن تعترض طريقه حتى لا يتصادف بأي مشكلة في الطريق الذي يسير فيه، وأن يؤمّن الأعمال الجميلة التي يقوم أو سيقوم بها واضعًا في اعتباره الوسيلة التي سيسير بها والكيفية التي يسير عليها، وهذا يعني تحقيق سلامة الطريق.
أعظم الأمانات
يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ“[2]، والنبي صلى الله عليه وسلم بقوله هذا يكلّف هذه القلوب المؤمنة مسؤولية مهمة، لدرجة أن فتح إسطنبول الذي بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم[3] يظل قطرةً من بحرٍ بالنسبة لِمثل هذا الهدف وتلك المسؤولية، وكما أن مَن يحملون مثل هذه الأمانة إن سلكوا طريقهم دون التفكير في سلامة خط السير يكونون قد خانوا الأمانة، كذلك فإن من يربطون الأمر بمصالحهم ومنافعهم الشخصية، ولا يفكرون إلا في النجاة بأنفسهم يكونون قد ضيعوا الأمانة أيضًا وإن أمّنوا خطّ سيرهم.
أحيانًا قد تثورون وتصرخون بقوة من منطلق إيمانكم أمام ما يقع من ظلم، وقد تكونون صادقين مخلصين فيما تفعلون، ولكن إن أثارت أعمالُكم الضوضاءَ وحرّكت الفتنَ فإنكم بذلك تكونون قد أضررتم بالأمانة دون وعي منكم، ولقد وردَ في الأثر: “الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللهُ مَنْ أَيْقَظَهَا”[4].
من أجل هذا فإن لحقَ الضرر الخدمة الإيمانية والقرآنية من بعض الوجوه فعليكم بدلًا من انتقاد الآخرين واتهامهم بالظلم والجور والإجحاف أن تحاسبوا أنفسكم وتقولوا: “يا ترى ما الخطأ الذي اقترفناه؟ وما الفعل الذي ارتكبناه! أو القول الذي تلفظنا به حتى نبعث في هؤلاء الناس هذه المخاوف التي ليست في محلها؟!”.. ومن هنا يتوجب على عشاق الخدمة أن يقتدوا بالرعيل الأوّل، وهم ساداتنا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وأن يعملوا على تمثيل الإسلام على الوجه الأكمل، وأن يُعبّروا بحقٍّ عن الحقيقة المثلى التي يمثّلونها، وأن يفتحوا قلوبهم على العالم، حتى تنفتح لهم القلوب فيتربعون فيها.
وإلا فإن استعان الإنسان بالشِّدة والغلظة في ابتغاء الحقّ فقد سلك طريق الشر دون وعي منه رغم أنه يحسب أنه يسعى في طريق الخير.. ولذا -بالله عليكم- أفيدوني هل صدر من النبي صلى الله عليه وسلم إشارة آذى بها إنسانًا وهو الذي ذاق من العذاب والهوان ألوانًا!؟ لقد عاش مضطهدًا في مكة ثلاث عشرة سنةً كاملة وتحمل شتى صنوف العذاب والتنكيل، ومع ذلك لا يستطيع أحدٌ أن يقول: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وطِئ بقدمه ولو نملة”.
أجل، لقد بعث الأمن والثقة في نفوس الجميع من أدناهم إلى أقصاهم، ولم يكن عاملًا في إثارة الفتنة ألبتة.
مسؤوليةٌ تصل إلى حدّ الفرض
وهكذا فعلينا مراعاة كلّ ما سبق؛ إذ يخيَّل إليّ أن تأمين خطّ السير من باب فرض العين -وإن كان من الممكن أن يعترض بعضٌ من فقهائنا الكرام في أيامنا على هذا الرأي- بمعنى أن توصيل هذه الأمانة إلى موضعها في أمنٍ وأمانٍ مهمةٌ بالغة الأهمية والخطورة؛ فإن لم نتحرَّ الدقة البالغة في كل شيء، ولم نضع حسابًا للمخاطر المحتمل أن نصادفها في كلِّ مرحلة من خطّ سيرنا، ولم نستشفّ معاني النظرات التي يرسلها إلينا مَن حولنا فهذا يعني أننا لم نقم بمسؤولية الأمانة الملقاة على عاتقنا. أجل، إن هذه المسألة تتطلّب مثل هذا القدر من الحساسية، فلا تستقيم معها الشهرة، ولا التعبير عن النفس، ولا التشوّف لأيّ أجرٍ دنيويّ.
وكما يقول فضيلة الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي: “ففي هذا الموضوع لا وجود لسعيد، ولا وجود لقابلية سعيد وقدرته، فالحقيقة هي التي تتحدث عن نفسها.. نعم، الحقيقة الإيمانية هي التي تتحدث”[5].. ومن ثم فعلى الجميع أن يقول: “لا وجود لي ولا ماهية، فإن كان من المتوقع أن يضر وجودي وأفكاري ورؤيتي العامة وأنانيتي بهذه الغاية ولو مثقال ذرة فليسترد الله أمانته، ولكن إن كانت حياتي ستفيد في خدمة دين الإسلام المبين وتحقيق هذه الغاية السامية؛ فاللهم بارك لي في عمري حتى أحقق هذه الخدمة ولو بقدر ذرّة”.
أجل، لا بد أن تكون لدينا الشجاعة لقول مثل هذا الكلام، ويجب أن يرتبط القلب المتفاني بهذه الفكرة بشكلٍ كامل، وأن يمحو نفسه كليّةً، ويتحرك وهو في غاية التواضع والمحو والخجل.
والحقُّ أنه لا خير يُرجى من إنسانٍ يُعلي من شأن “الأنا”، ويترنّم بها مثل طبلة المسحراتي في رمضان، ويرغب في أن يُشار إليه بالبنان، وأن يتحدّث الناسُ عنه، وأن يعتبروا برؤيته العامة وفلسفته الحياتية.. فلا مناص من أن هؤلاء سيُمنَوْن بالفشل غدًا وإن شرعوا في أعمالهم اليوم بهمّةٍ ونشاط.. ولذا فالذي يُعوّل عليه هنا هو محوُ النفس في كلِّ مرحلةٍ من مراحل هذا الأمر من مبدئه إلى منتهاه، فليس الأمر منوطًا بزمنٍ معين.
فلو أخطأنا في حقِّ هذه الأمانة شعرنا بالخجل والندم في الدنيا والآخرة لأننا قد ضيعناها.
لقد عملتُ قديمًا بالإمامة وأنا ما زلت في ريعان شبابي، وهو أمرٌ يتجاوز حدّي وطاقتي، ثم منّ الله عليّ بوظيفة الوعظ، وإنني دائمًا ما أرجع بذاكرتي إلى الوراء، وأتذكّر خطّ السير الذي كنت أسلكه وما ارتكبتُه فيه من أخطاء، فأقول لنفسي موبِّخًا: “ويلٌ لك! كان الناس ينهالون على كرسي وعظك الذي تجلس عليه، ليستمعوا إليك، فلِمَ لَمْ تتعاطف معهم وتضع اعتبارًا لمشاعرهم؟ ولِمَ لَمْ تفتِّش عن سبلٍ للنفاذ إلى قلوب هؤلاء الناس كما كان يفعل سادتنا؟ لماذا كنتَ تشتدّ على الناس بكلامك وتنزله على رؤوسهم كالمطرقة؟ يا ليتك كنتَ تتحلى بأعلى درجات الرِّقة واللطافة! إلى هذا القدر كنت أوبّخ نفسي وأحاسبها وأدعو عليها بالويل والثبور؛ لأن كل هذا سيحاسبني الله عليه قائلًا: “مننتُ عليك بالإمامة والوعظ، ووجهتُ قلوبَ الناس إليك، فالتفّوا حولك صفوفًا، فلِمَ لم تنفذ إلى قلوبهم، ولم تحبّبهم في دين ربهم؟ ولم تجعلهم مولهين بحب الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؟
أجل، لقد ضربتُ مثالًا بشخصي، ولكن على كل مؤمنٍ يتحمّل مثل هذه الأمانة أن يشعر بقدر المسؤولية الملقاة على عاتقه وقدر الأمانة التي يحملها حتى لا يقول: “لو أني فعلت كان كذا وكذا” غدًا؛ لأن “لو” كما قال مفخرة الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: “تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ“[6].. فـ”لو” ما هي إلا كلمة لغوٍ ولغط يلجأ إليها الضالون المضلِّون يسلّون بها أنفسهم، وعلى ذلك فهي كلمة محظورة،
لا تليق بالمؤمن.
وهناك “لو” الممدوحة، فلا ينبغي أن نخلط بين الأمرين، كقول سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه: “وَوَدِدْتُ أَنِّي حَيْثُ وَجَّهْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الشَّامِ وَجَّهْتُ عُمَرَ إِلَى الْعِرَاقِ فَأَكُونُ قَدْ بَسَطْتُ يَدَيْ يَمِينِي وَشِمَالِي فِي سَبِيلِ اللهِ ”[7]، وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم يقولون: “وددت أنّي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كذا وكذا…”[8]، فـ”لو” هذه يبتغي صاحبها المعالي والغايات السامية، فهي كالنية التي يثيب الله الإنسانَ عليها.
أجل، إنّ “لو” هنا تُعبِّر عن تمني الشخص لكمالٍ وغاية سامية تعذر عليه تحقيقها، غير أن ذكر “لو” من أجل التستر على الأخطاء والدفاع عن النفس من الأمور المذمومة، لأنها من قبيل الكلمات التي يوسوس بها الشيطان لصاحبها بأن يقولها إزاء الأعمال التي أغواه بها.
وهكذا علينا أن نكون على وعيٍ وحذرٍ حتى لا نضاعف الذنبَ؛ ذنبَ الأخطاء التي ارتكبناها اليوم، وذنبَ “لو” التي سنقولها غدًا.. لا بد أن نبدأ عملنا باسم الله، مع أخذ الحيطة والحذر في كلِّ خطوة نخطوها، وأن نعمل على أن نسلك طريقًا يوصّلنا إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى.
[1] سنن الترمذي، الزهذ، 13؛ سنن ابن ماجه، الزهد، 3.
[2] مسند الإمام أحمد، 28/154.
[3] انظر: مسند الإمام أحمد، 31/287؛ الطبراني: المعجم الكبير، 2/38؛ الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 4/468.
[4] السيوطي: الجامع الصغير، 1/8455.
[5] بديع الزمان سعيد النورسي: الملاحق، ملحق أميرداغ-2، ص 337.
[6] صحيح مسلم، القدر، 34؛ سنن ابن ماجه، المقدمة، 10.
[7] الطبراني: المعجم الكبير، 1/62.
[8] أبو يعلى: المسند، 1/20-22؛ الطبراني: المعجم الكبير، 1/62.