سؤال: يُذكر في كتاب “المثنوي العربي النوري” للأستاذ النورسي رحمه الله أن سلطنة النبي صلى الله عليه وسلم وما تتميز به من العظمة والرحابة ليست سلطنته على الظاهر فقط، بل له سلطنة باطنية أرحبُ وأعمق من ذلك تجذب القلوب وتجلب العقول له[1]، فماذا تعني هذه السلطنة الباطنية؟
الجواب: استطاع النبي صلى الله عليه وسلم بأمرِ الله تعالى له وتكليفِه إياه وما عهد إليه من رسالةٍ أن يضع نظامًا يحقِّق التوازن على الأرض ويلبي كلّ متطلبات الإنسان الفردية والأسرية والاقتصادية والإدارية، وهذا مظهرٌ لتجلّي سلطنته الظاهرية صلوات ربي وسلامه عليه، وأما سلطنته المعنوية -التي أُسستْ عليها سلطنته الظاهرية المذكورة- فلقد خصّ الله بها صاحب مقام الجمع سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، وأرسله إلى العالم مزوَّدًا بهذه التجهيزات، ووضع على يديه في الأرض نظامًا تنشده الطوبيا ولا تتصوّره العقولُ.
تجلّي اسم الله الباطن
وإن هذه الأعمال الظاهرية للمرشد الأكرم صلى الله عليه وسلم تتجلّى من اسم الله الظاهر.. وما إن يُطلق اسمُ “الظاهر” حتى يرد اسم “الباطن”، والحقُّ أن أسماء الله تعالى الأربعة (الأول والآخر، والظاهر والباطن) بمثابة خلاصة الأسماء الحسنى كلها؛ بمعنى آخر: إن جميع أسماء الله الحسنى ترجع إلى هذه الأسماء الأربعة.
وإن للنظام الذي وضعه مفخرةُ الإنسانية صلى الله عليه وسلم على الأرض ويغبطه عليه الجميع حتى الملائكة أبعادًا وأسسًا معنوية تُعدّ تجلّيًا لاسم الله “الباطن”، غير أن الحفاظ على وجود هذا النظام ودوام حيويته ووظيفته منوطٌ بمتانة الأركان الإيمانية والإسلامية، وشعورِ الإحسان، وإن أيّ نظامٍ حقوقي وإداري يُهمل هذه الأسسَ، ويغفل عن الأبعاد المعنوية للإنسان، ويتناوله من النواحي الجسمية فحسب لا يمكنه أن يحقق النجاح بما وضعه من قوانين، ولا أن يحول دون وقوع الجرائم التي تهدّد أمنَ المجتمع وسكينتَه مثل السرقة واللصوصية، ولا أن يلبي متطلّبات الإنسان الفردية والأسرية والاجتماعية.
أجل، لا يمكن للبشر الوصولُ إلى الطمأنينة الحقيقية في ظلِّ نظامٍ يُنكَر فيه الله تعالى، ولا يُؤمَن فيه بالملائكة، ولا يُعترَف فيه بالبعث والنشور؛ لأن للإيمان معاني خاصة يبثّها في الأفئدة ويخاطب بها قلوب وعقول الأطفال الذين يتميّزون بالحساسية المرهفة والرقّة البالغة، وأذهانِ الشبابِ الذين يعيشون عهدًا تفور فيه نوازعُهم البشرية، والمرضى المصابين بعلل متنوّعة، والشيوخِ الذين ينتظرون على حافة القبر.. فكما نستطيع بإيماننا أن نكبح أطماعنا وأحقادنا وضغائننا يمكننا أن نسير آمنين مطمئنين في طريق الخلود دون أن نتردّى في مستنقع اليأس إزاء الفناء والزوال.. وهكذا فإن جعل كل الأركان الإيمانية روحًا للحياة وتحقيقها في إطار أفق الإحسان؛ من الأمور التي تشكّل الجانب الباطني لهذا النظام المبارك الذي جاء به ووضعه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما حاولتُ أن أوضح في بداية حديثي فإن سلطنة فخر الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم ترتكز على التأييد الإلهي؛ بمعنى أن الله تعالى قد وجّه القلوب إلى سيد السادات صلوات ربي وسلامه عليه لعدة أسباب نعلمُ بعضَها ونجهلُ بعضها الآخر، ثم شاءت إرادته سبحانه أن يستمر ويمتد هذا التوجه له صلى الله عليه وسلم.. وإن هذه المحبة المفرطة وتلك التبعية المطلقة من سادتنا الصحابة رضوان الله عليهم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر السعادة النبوي وتوجُّهَ المؤمنين له حتى الآن رغم كل هذه التجاوزات والاعتداءات الوحشية الغاشمة ما كان لها أن تدوم إلا بذلك التوجه والتأييد الإلهي.. بل إن معظمَنا في هذا العصر؛ عصر الكوارث والنوازل ما زالَ يحبّه ويعشقه صلى الله عليه وسلم بفطرته حتى قبل أن يبلغَ راشدًا.
حبيب القلوب
وأريد هنا أن أنقل لكم هذه الحادثة الحيّة على سبيل الاستطراد: “قال لي أبي رحمه الله ذات يومٍ وأنا حينذاك ابن السابعة أو الثامنة من عمري: “إن قرأتَ سورة الإخلاص ألف مرة يوم الخميس استطعت أن ترى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام”.. وقد فعلت، ولا أعلم بناءً على أي فكرة أو شعور أو تصرُّف فعلتُ هذا، ولكنني أذكر أنني ظللت أقرأ حتى الصباح سورة الإخلاص حرصًا على رؤية جمال نور سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظللتُ محافظًا على قراءتها على أساس أنني إن لم أره اليوم رأيته غدًا وهكذا.
نعم، لم يستطع البعض أن يتعرف عليه وعلى سماحته أو يقدِّر آثاره حقّ التقدير، لكن ورغم أنه نشأ في بيئة فاسدة جدًّا، فإنه ما زال يحمل حبًّا وانفعالًا في قلبه تجاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبب هذا لا يمكن أن يكون إلا امتدادًا لسلطنته صلى الله عليه وسلم حتى اليوم. أجل، لقد جعله الله تعالى حبيبًا للأفئدة وسلطانًا للقلوب، وحبّبه إلى الأمة المحمدية كلها، وهذا أمرٌ لن يتسنى لبشر آخر، ولن يحظى به غيره.
ومن ثمّ فإن سيد الكونين صلى الله عليه وسلم ليس “حبيبَ الله” فحسب بل “حبيب عباد الله” أيضًا.. فالناس بوعيٍ منهم وبغير وعيٍ يشعرون بالحبّ والعشق تجاهه صلى الله عليه وسلم، بل إن التجاوزات المحتملة التي قد تُعكِّر صفوَ الذهن والقلب بسبب ما يطرحه شياطينُ الجن والإنس من كلماتٍ نابية مستهجنة في حقه صلى الله عليه وسلم لا يمكنها أن تقف حجر عثرة أمام ذلك السيل الجارف من الحبّ لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زالت القلوب المؤمنة تشعر بحبٍّ عميق له دون مبالاة لكل ما يُقال؛ لأن فريد الكون والزمان صلى الله عليه وسلم قد مثّل الإيمان والعمل الصالح على أكمل وجه، وعاش حياته كلها في أفق الإحسان كبطلٍ كامل للإحسان، ووضع الله تعالى له وُدًّا تامًّا في الأرض والسماء، فليست هناك سلطنة أخرى تعادل هذه السلطنة على وجه الأرض؛ وعلى ذلك يجب أن نعلم أن هذا الوضع وذلك الحال ما كان له أن يكون إلا بتأييدٍ خاص من رب الأرض والسماء سبحانه وتعالى.
وكل السلطنات التي أقامها المحرومون من التأييد الإلهي زالتْ وانهارتْ بزوالهم، فسلطنةُ يوليوس قيصر (100-44ق.م) وهتلر (1889-1945م) ونابليون الأول (1769-1821م) وغيرهم قد انهارت بانهيارهم، كما أن سلطنات المنافقين وإن دامت فترةً من الزمن فإنها ذبلت في النهاية كالشمعة وانمحت، غير أن نور فخر الكائنات صلى الله عليه وسلم ما زال يُضيء كل الأنحاء منذ الزمن الغابر.
أجل، إن محبتنا له صلى الله عليه وسلم ستظلّ دائمًا ولن تُطفئها بإذن الله وعنايته أيُّ ريحٍ معاكسة.
[1] بديع الزمان سعيد النورسي: المثنوي العربي النوري، الرشحات، الرشحة السابعة، ص 75.