سؤال: كيف نجعلُ الخدمة التي تقوم على ابتغاء مرضاة اللّه غاية لحياتنا؟
الجواب: يستطيعُ الإنسانُ أن يجعل عمله غايةً لحياته إذا ما عرف بدايةً قدرَ هذا العملِ وقيمتَه الذاتية وأهميته وتبناه؛ فمثلًا لو نظر الإنسانُ إلى مسألة الإيمان على أنها مسألة حياتية بالغة الأهمية للفوز بالحياة الأبدية لَرَبط حياتَه ونسجَها وفقًا لهذه الغاية المثالية.
يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/67)، وهذا التوجيهُ الإلهيّ للنبي صلى الله عليه وسلم يسري على أمّته أيضًا، فكما لا يستطيع النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُعرض عن الوظيفة المنوط بها فكذلك لا يصحّ لأمته أن تتخلّى عن الأمانة التي استودعها اللهُ تعالى إياها.
حسنُ الظنِّ بالله
وبما أن الله سبحانه وتعالى لا يستودع أمانته إلا للأمناء عليها فلا بدّ أن نُرجع هذا إلى حسنِ ظنّ ربِّنا سبحانه بنا.. فكما يكون لدى المؤمن حسنُ ظنٍّ بأخيه فكذلك الله لديه أيضًا حسنُ ظنٍّ مبجّلٍ ومقدّسٍ ومنزّهٍ بالناس جميعهم؛ بمعنى أن الله تعالى قد اعتبرَنا أمناء وأودعنا أمانته، وعلى ذلك لا يجوز لأحدٍ أن يتخلى عن هذه الأمانة بحجة عدم الأهلية، وإلا ماذا نقول عند المثولِ بين يديه سبحانه وتعالى!! ألن يُقال لنا
في الآخرة: “وثقنا بكم وعهدنا إليكم بهذه الوظيفة، وكنا ننتظر منكم أن تكونوا على قدرِ الثقة وتُؤَدّوا المسؤولية على أكمل وجه، ولكنكم ضيّعتم الأمانة التي حمّلناكم إياها”؛ وهكذا فعلى القلب المؤمن أن يضع في اعتباره أن مثل هذه الأسئلة ستُوجّه إليه في الدار الآخرة، فيقوم بوظيفته بناءً على ذلك.
علينا ألا ننسى أيضًا أن وجودنا داخل هذه الدائرة وبلوغنا هذه المنزلة إنما هو محضُ فضلٍ وإحسانٍ من الله تعالى، ولنوضح هذا الأمر بمثال: هب أن هناك بابًا عريضًا في مكانٍ ما، يمرّ من أمامه آلاف الأشخاص، وكان هذا الباب يُوارَى أحيانًا، فمَن صادف عبورُه انفتاحَ هذا الباب دُعي إلى الدخول.
أجل، عندما ينظر الإنسان إلى حياته سيجد أنه قد دُعي للدخول من هذا الباب الموارَى.
ولكن قد يسوءُ حظُّ الإنسان رغم دخوله من هذا الباب.. فمثلًا عندما كنتُ مقيمًا في مدينة “أرضروم” جاءنا الأستاذ “محمد قِرْقِنْجِي”[1] -شكر الله سعيه- وقال لنا: “لقد جاء بلدتنا تلميذٌ من تلامذة الأستاذ النورسي، فهلمّ بنا نذهب إليه ونسمع منه، فربما أعجبكم شيءٌ من حديثه”، فتأثرنا بكلامه وانطلقنا معه إلى ذلك الشخص المبارك.. ولكن عندما غادرتُ “أرضروم” لم يكن فيها سوى بضعة أفراد ممن كانوا مع الأستاذ “قرقنجي” عند زيارته لتلميذ الأستاذ النورسي.. ومن ثمّ فالثبات والديمومة على الخدمة بعد الدخول فيها وصرْفُ الهمة في هذا الاتجاه أمرٌ منوط بفضل الله تعالى وعنايته؛ بمعنى أن هذا الأمر لطفٌ وإحسانٌ خاص تفضّل الحق سبحانه علينا به؛ ولذا ينبغي للإنسان أن يسعى لأن يكون جديرًا وأهلًا لهذا اللطف والإحسان.
من جانب آخر فإن للخدمة في سبيل الله مذاقًا ومتعةً خاصّة بها، غير أنني لستُ ممن أدركوا مثل هذا الذوق وتلك المتعة كليّةً.. ويمكن أن أقول: إن الضجرَ كان يحيط بي من كل جانب؛ وربما راودتني أحيانًا فكرة أن أجدَ وسيلةً وأنصرف عن هذا الأمر؛ لأنني على قناعةٍ -أنا الفقير- بأنني إنسان لا نفع فيّ ولا خير يُرجى من ورائي.. لقد تعرضْتُ طوال حياتي لشتى صنوف الاضطهاد والعنت، وإنني الآن أشعر بضيق ومعاناة بسبب الظروف التي مرّت بي، ولكن رغم هذا كله أقول: مهما كانت المعاناة التي عانيتُها فهي قليلة
إلى جانب هذه الخدمة العظيمة التي منّ الله تعالى علينا بها.
حتى وإن ظللنا وحدنا
وكما تعلمون تحفل الأحاديث النبوية الشريفة بكثيرٍ من مشاهد الشجاعة والبطولة؛ ومنها ذلك المشهد الذي جسده لنا الصحابيُّ الجليل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الذي امتلأ قلبه بالإيمان؛ إنه لما كان في ساحة القتال في ميدان معركة مؤتة نظر يمينًا ويسارًا فوجد أصحابه وهم يتساقطون من حوله صرعى، وقد أرهقه القتال، فاقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها وتقدَّم إلى الأمام وأعمل في العدو سيفه حتى سقط شهيدًا هو الآخر، ولم يُفكّر في التراجع أبدًا[2]..
وهكذا يجب أن ننطلق وفقًا لهذا المفهوم وذلك المنطق؛ بمعنى أننا وإن بقينا وحدنا ووقفت كلُّ قوى العالمِ ضدّنا فعلينا أن نواصل سعينا في ثبات وإصرار، -إذ إنّ علة وجود الإصرار هي الثبات على الحقّ، والإنسان الذي ينظر إلى المسألة من هذا المفهوم عليه أن يقول: “كما أن الإسلام والإيمان حقٌّ فتبليغهما إلى العالم مسألةٌ مهمّةٌ وحياتيّة أيضًا، وإلا فلا قيمة لوجودي”، وأن ينظِّم حياته وفقًا لهذا.
أجل، من الأهمية بمكان أن يتبنّى الإنسانُ هذه المسألة ويجعلها غاية لحياته، بل يجب عليه أن يقول في يقظته ومنامه: “لا معنى لوجودي وحياتي إن لم أقم بهذه الوظيفة، ولا معنى للبقاء في الدنيا إن عجزتُ عن أدائها”.. كرروا هذا الأمر كثيرًا، وصارحوا بهذا العهد زوجاتكم وأبناءكم؛ حتى يكون ملزِمًا لكم في المستقبل.. قولوا لهم: “قبض الله روحي إن عجزتُ عن القيام بهذه الوظيفة”، فإن لم تحفظوا العهد الذي أخذتموه على أنفسكم فسيرتفع من البيت صوتٌ يذكِّركم بعهدكم ويقول لكم: “أما كنتَ تقول كذا وكذا”، لأنكم بهذا العهد قد غلّلتم أنفسكم، واستوردتم الدعم والطاقة من الآخرين لإعانتكم على هذا الطريق الذي لا تستطيعون أن تصمدوا فيه أو تسيروا فيه وحدكم؛ لأن رجوعكم عن قولكم سيُصبح عيبًا وعارًا بالنسبة لكم، فتضطرون إلى مواصلة طريقكم على الأقلّ حفاظًا على كرامتكم.
ومن ثم فعلى المؤمن أن يقيّد نفسه بغايةٍ سامية كالحديث عن الله وتحبيبه إلى النفوس، وأن يتفانى في هذا الأمر حتى نهاية حياته.
أستاء لأنهم لا يقدرونني قدري
علينا ألا ننسى أبدًا أن على المسلم أن يتحمّل المسؤولية، حتى تحتفظ هذه الغاية المثالية بنضارتها وحيويتها في القلوب على الدوام.. والواقع أن الشخص قد يُعهد إليه أحيانًا بعملٍ بسيط لا يوافقه ولا يناسبه، كأن يكون الإنسان جديرًا بأن يكون قائدًا لفوجٍ ثم يُسند إليه قيادة كتيبة صغيرة، وهذا يدعونا إلى أن نقول إن الشخص وإن كان قدره أعلى مستوى من الوظيفة التي تقلّدها فعليه أن يقوم بهذه الوظيفة على أكمل وجهٍ بدلًا من أن يستاء ويمتعض ويقول: “لم يعرفوا قيمتي وقدري وجعلوني قائدًا للكتيبة الصغيرة أو السرية”.
وننوه على الفور بأن على الشخص الذي يكون في موضع الإدارة أن يتخيّر الشخص الذي يعهد إليه بوظيفة ما، ويكتشف
ما لديه من مواهب وقدرات، وأن يساعده على العمل في الساحة التي يتفوّق ويبرع فيها؛ بمعنى أنه يجب أن نحمّل الشخص الوظيفة التي تبعث الشوق في نفسه، فإذا ما أحرز نجاحًا تغشَّاه الحبور وامتلأ قلبُه حمدًا وشكرًا لربه سبحانه وتعالى.. فإن فشل فلا بد لنا من تهيئة جوّ وإمكانيات تساعده على تصحيح أخطائه.
العمل بمنطق “لا بد من الرجوع إليّ”
ومن أسفٍ أن هذه المبادئ لم تترسخ في أمتنا بشكلٍ كامل. أجل، لقد هيمن على أعمالنا وفعالياتنا انحسارُ الفكر، وساد ذلك المنطق الإداري الذي يقول: “كان لا بد من الرجوع إليَّ في هذه المسائل، وسؤالي عنها”، بيد أن على الإداري الناجح أن يختبر مَن حوله بأن يعهد إليهم بمسؤوليات ووظائف معينة من قبل، ويساعدهم على انكشاف قدراتهم في الساحات التي يبرعون فيها.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتشف المواهب المكنونة، ويكلفها ببعض المسؤوليات ويستخدمها بشكلٍ لا يخطر على بال، ومن ذلك أنه عهد إلى سيدنا زيد بن حارثة رضي الله عنه بقيادة جيش يبلغ تعداده ثلاثة أو أربعة آلاف مقاتل في غزوة مؤتة، فأتى زيد بهذه الوظيفة على أكمل وجه، وقد كان هذا الأمر شيئًا غريبًا على المجتمع في ذلك الوقت؛ إذ كيف يُعهد لعتيقٍ من الموالي بقيادة جيش متكامل، لكن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتشف جوهرةً باستطاعتها القيام بهذا الأمر على أكمل وجه، فوظّفها، وألغى بذلك مفهومًا خاطئًا كان سائدًا لدى المجتمع حينذاك، وإذا ما نظرنا إلى كل حياته السنية صلى الله عليه وسلم لألفينا أنه كان يستخدم كلَّ إنسانٍ في الموضع الذي يستطيع أن يكشف فيه استعداداته وقابلياته كلها.
وعلى ذلك يجب أن يُكلّف الإنسانُ بالعمل الذي يناسب مستواه، وبالتالي يُحمَّل المسؤولية التي تتفق مع هذا المستوى.. ويجب ألا ننسى أننا إن لم نعهد بالمسؤوليات لمن هُم جديرون بها فلن تنكشف قابلياتهم أبدًا؛ إذًا إن الأعمال إن خلت من العشق والشوق أصابت صاحبَها بالسأم والضجر مع مرور الوقت، ممّا يفضي إلى التعامل بسوء أدبٍ ووقاحةٍ مع الحق والحقيقة.
وإن من أهم المقومات التي كانت سببًا في قوتنا وازدهارنا في وقت من الأوقات هو أن الجميع كان يعمل في المجال الذي يُتقنه ويبرع فيه، واستيعاب هذه الفكرة الآن مهمٌّ جدًّا في ازدهار مستقبل أمتنا.
[1] “محمد قِرْقِنْجِي (Mehmed Kırkıncı)” (1928-2016م): كاتب وعالم دينيّ تركيّ، وهو من طلاب الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورسي رحمه الله.
[2] ابن كثير: البداية والنهاية، 2/30.