سؤال: تجوبُ الأرواحُ المتفانية كلَّ أنحاء البلاد، ويطوفون بمشارقها ومغاربها، ويسافرون إلى كلّ الدول التي تعاني الفقرَ والحرمان لا سيما قارة إفريقيا؛ حتى يجعلوا من الأضحية -التي هي وسيلة للتقرَّب من اللّه سبحانه وتعالى- وسيلة للتقرب إلى الناس والتواصل بين القلوب، فما رأيكم في اتخاذ الأضحية وسيلةً للمعايدة على الناس في أيام العيد، وبم تنصحنا حتى يسير هذا الأمر على نحوٍ أفضل؟
الجواب: بادئ ذي بدء علينا أن نعلم أنه ما من شيء إلا ويبدأ بنواةٍ صغيرة، ثم يقوم الذين يأتون من بعدُ برعايتها وكفالتها، فيبتكرون أساليب ومناهج جديدة لتطويرِها، ويأتون ببدائل مختلفة.. وهكذا الأضحية؛ كانت عبادةً يؤديها الناس على المستوى الفرديّ فقط، ويشرعون في ذبحها وتوزيعها على الأقارب والجيران والمعارف، ومع الوقت أصبحت هذه الشعيرةُ سواء في بلادنا أو البلدان الأخرى وسيلةً مهمّة للوصول إلى القلوب.
الأضحية وخلق الإيثار
يقول تعالى في مستهلّ السورة الثانية من القرآن الكريم: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/3)، وفي هذا إشارةٌ إلى أن الحق سبحانه وتعالى هو صاحب الملك، وما نحن إلا مُستأمَنون على هذا الملك، بمعنى أنّ كلَّ ما ننفقه في الحقيقة إنما هو من النعم التي أسبغها الله سبحانه وتعالى علينا، يقول الحق تعالى: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/31)، وهنا إشارة إلى ضرورة ألا يساورنا الخوفُ والقلق من فوات الرزق، وفي آية أخرى يذكر ربّنا تبارك وتعالى هذا الأمر صراحة فيقول:
﴿إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ (سورة الذَّارِيَاتِ: 51/58).
وفي الواقع إن الإنفاق سواء كان عن طريق الزكاة أو صدقة الفطر أو الأضحية إنما يعبّر عن الحدّ الأدنى للمسألة، أما الحدّ الأقصى للمسألة فيشير إليه الحقُّ تعالى بقوله سبحانه: ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (سورة الْحَشْرِ: 59/9)، والإنسان الذي يتعامل بهذه الروح لا يبخل على الناس بما آتاه الله من وقتٍ وإمكانيات وعلمٍ وعرفانٍ وثروةٍ وأفق فكري… إلخ، ويشاطر الآخرين كلّ ما يملكه.
وهكذا المسلمون في الأعياد يعبرون بالأضحية التي يذبحونها عن عمق مشاعر السماحة عندهم، ويفتحون القلوب بها، ويضربون بسهمٍ من أضاحيهم لمن لم يستطع التضحية منهم، وجاء في الحديث: “اسْتَفْرِهُوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا مَطَايَاكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ” ، وفي هذا الموقف يقف الإنسان مشدوهًا مفعمًا بكل مشاعر الاحترام والتقدير، ويقول: “عجبًا! على أيٍّ من هذه الأضاحي أركب؟!”.
ويقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا” ، ووفقًا لهذا الحديث فإن عدم الذبح مع وجود السعة يحمل تهديدًا كبيرًا من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمّ ذكر فقهاءُ الحنفية أن لفظ الحديث يدلّ على الوجوب ويقولون إن إلحاق الوعيد لا يكون إلا بترك الواجب ، فكما أنّ الزكاة فرضٌ على مَن بلغ مالُه نصابَ الزكاة، فكذلك الأضحية واجبة على كل قادرٍ بوسعه أن يُضحّي، وبما أن الأضحية عبادةٌ واجبةٌ فعلى كلّ مَنْ له سعة أن يضحي؛ لأنه ما مِنْ أحدٍ يريد أن يدخل ضمن وعيد النبي صلى الله عليه وسلم: “فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا”، ويُفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ” أن المجتمع يشمل القادرَ وغير القادر، وعلى ذلك فلا بدّ ألا ينسى القادرُ حقَّ الفقير في النعم التي أنعم الله عليه بها، وأن يرعاه وينظر إليه بعين الشفقة والرحمة؛ يعني أن على المضحّي ألا يضنّ بلحم أضحيته على مَن هم أدنى منه في مستوى المعيشة.
وفي آية أخرى يحضّ ربنا سبحانه وتعالى المؤمنين على الإنفاق ممّا يحبون، فيقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/92)؛ ومن ثمّ فعلى الإنسان أن يختار أضحيته التي ستكون مطيّته في الآخرة من الأضاحي السمينة، وفي الواقع لا بدّ أن تتوافر في الأضحية بعضُ الشروط كألّا تكون الأضحية عمياء أو عوراء أو عرجاء أو كسير ؛ لأن الإنسان سيتمثّل له في الآخرة كلُّ شيءٍ فَعَله بأشكاله الخاصة في عالم المثال، فنحن لا علم لنا بما يجري في العالم الآخر، ولا يمكننا أن نتصوّر ما هنالك، ولا نعرف كيف ستتمثّل لنا هذه الأشياء في الآخرة، ولكن ربّما ستتمثل أمامنا كطائرة أو سفينة أو زورق أو فرس أصيل، ولكن إن نظرنا إلى المسألة من حيث سعة رحمة الله تعالى وصِدْق وعده يمكننا أن نقول إن كلّ هذا سيتمثّل لنا لا محالة ولكن نحن لا نعرف كيفيته.
وقد روت أمنا السيدةُ عائشة أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحّى، ووزّع ثلثي أضحيته، وأبقى ثلثها حتى لا يحرِم منها أهلَ البيت ، فهذا هو المعيار بالنسبة لمَن يريد أن يتّبع السنة في توزيع أضحيته، ولكن إن كانت الأضحية عن كل فردٍ من أفراد الأسرة فالأمر يختلف حينذاك؛ فمثلًا يمكن لربِّ الأسرة أن يَدَع لأهله أضحية من هذه الأضاحي، أو يترك نصفها أو ثلثها، ويوزّع الباقي، وبهذا التقسيم
لا يحرِم الإنسانُ مَنْ حوله من لحم أضحيته، ويؤدي في الوقت ذاته حقّ نظر الآخرين إليها، وبذلك تُمد يدُ العون لمَنْ يعيشون في فقرٍ وعوز، وتُلبَّى احتياجاتهم الرئيسة، وتُقام جسور المحبة والشفقة بين الطبقات والمجتمعات كافة.
أن يصير الكرمُ من طبيعة الإنسان الفطرية
وكما ذكرنا سابقًا كان الناس في فترةٍ ما في بلادنا يذبحون الأضاحي في فناء بيوتهم، ويُبقون على جزءٍ منها في بيوتهم، وما يبقى يوزِّعونه على الجيران والمعارف.. ولكن جاء اليوم الذي أصبحت فيه الأضحية لا تقتصر على المحلّة أو القرية فقط، بل توسَّعَت دائرتها؛ حتى أصبحت تصل إلى العديد من ذوي الفاقة، وتعهّد القادرون بالقيام بهذا الأمر، وأخذ البعض بعد ذلك لا يكتفي بذبح أضحيةٍ واحدة، أو اثنتين أو ثلاثة، حتى وصل العدد إلى عشرة وعشرين وثلاثين أضحية، وهذا في الوقت ذاته يعبّر عن أنّ شعور الكرم قد نما عند الإنسان، وصارت فكرة الإنفاق جزءًا من فطرته، كما أن القيام بهذا الأمر أمام الأعين كان سببًا في تشكيلِ عنصرٍ من التشويق لدى الناس، وهكذا بدأت رعاية الفقراء في كل أرجاء الدولة عن طريق الأضاحي، ولما رأى أصدقاؤنا أن الأمر قد استتبّ في الدائرة القريبة عمدوا هذه المرة بفضلٍ من الله وعنايته إلى توسيع دائرة هذا العمل الذي بدأ لأول وهلة كبذرة صغيرة، امتدت فروعها واتسع نطاقها فشملتْ مساحة عظيمة، حتى كادت هذه الأرواح الفدائية تصل إلى كلّ دول قارة إفريقيا؛ حيث إن الفقر يهيمن بصورةٍ بالغة على دول تلك القارة، ومعظم سكانها لا يذوقون اللحم، ولو مرة في السنة، فلما تعرّف أصدقاؤنا إلى أحوال هؤلاء تعهّدوا بذبح الأضاحي وتوصيلها إليهم وتقديمها لهم بروحِ الإيثار.
ثم بدأ هؤلاء الأشخاص الفدائيون يذبحون الأضاحي في كل بقعة من الأرض وليس في إفريقيا وحدها، ويوزّعونها على أهالي الأماكن التي نزلوا بها؛ حتى راقت مثل هذه الخدمة لهؤلاء الناس الذين تختلف ثقافاتهم ومفاهيمهم عنا، فلقد كان ذبح الأضاحي وطهيها أو توزيعها على الناس دون طهيها شيئًا جديدًا لم يألفه هؤلاء الناس ولم يسمعوا به، فمثل هذا الأمر لا وجود له في حياتهم. أجل، كان هذا الأمر بمثابة صوت ونفَس جديدين في تلك البلاد التي تهيمن عليها مشاعر المصلحة والنفعية، ولكن عن طريق الأضحية أدرك الناس هنالك قِيَمَنا الجميلة، وتعرّفوا على سخاء الإسلام، وسماحة المسلمين وروح الإيثار، وفي النهاية أخذوا يشعرون بألفةٍ ومودةٍ مع مقوماتنا الأساسية.
وإنني أرى أنّ مثل هذه الفعاليات التي تحققت في دنيا العولمة تُعدّ وسيلةً مهمّة لإقامة جسور المحبة والحوار بين الثقافات المختلفة، ولقد وصلت هذه الفعاليات إلى مستوى معين من العلو والارتقاء، ولكنّ الاكتفاءَ بما هو موجود إنما هو من ضعف الهمة، إذ ينبغي أن يكون هدفُنا هو تجاوزَ المستوى القائم دائمًا والارتقاءَ إلى ما هو أعلى وأعلى.
وثمة جانبٌ آخر للمسألة وهو: لا بدّ من تغيير صورة الأعمال التي نقوم بها كلّ عام، بأن نضفي عليه ألوانًا أخرى وزخارف مختلفة؛ حتى نُغري الآخرين ونستهويهم إلى هذا الأمر أيضًا.. فمثلًا علينا مع توزيع الأضاحي أن نقيم مخازن ومستودعات نجمع فيها الألبسة والأشياء الفائضة عن الحاجة، ثم نذهب بها إلى الفقراء والمحتاجين في هذه الدول ونوزّعها عليهم؛ لأن هناك أناسًا بالدول التي نسافر إليها ليس عندهم ما يكفيهم من اللباس، وإذا ما أمعنتم النظر إلى هذه الدول وجدتم في ناحيةٍ منها ناطحات سحاب، وألفيتم في ناحيةٍ أخرى أناسًا يعيشون في حالةٍ أسوأ من سكان العشوائيات عندنا، فالقطرة من المساعدة تمثّل للمحتاجين -الذين يعيشون في البلاد الفقيرة لا سيما القارة السوداء- شيئًا كبيرًا.. ولذا علينا أن نضفي على مساعداتنا ألوانًا أخرى وأبعادًا مختلفة حتى نجعل البسمة تعلو وجوه هؤلاء الناس؛ لأن سعادتهم هي وسيلة لسعادتنا أيضًا.
وليس بوسعنا أن نعرف ما يعدّه الله لنا من جراء هذه الجهود المبذولة، ولا أن نطّلع على أبواب الخير الأخرى التي يمكن أن يفتحها لنا، ولذا علينا أن نُغيّر من نمط مساعداتنا، ونُجري عليها بعض التعديلات، ونقوم ببعض الإسهامات المبتكَرة، وأن نعمل على إحياء وإعمار قلوب هؤلاء الناس على الدوام، ثم الله يفعل ما يشاء، وكما يقول الأستاذ النورسي رحمه الله: “على المرء أن يؤدي واجبه ولا يتدخل بتدبير الله سبحانه وقَدَره” .
مفاجآت تأتي مع الأضحية
في الواقع لا بدّ وأن يكون الأساسُ في العبادات والطاعات استهدافَ القرب من الله سبحانه وتعالى، وأداء العبادة من أجل الله، والإخلاص فيها، فيجب على الإنسان أن يركّز على هذه الغاية في حياته، ولا ينشغل بسواها، ومن ثم فلا بدّ عند أداء شعيرة الأضحية من سلامة النية التي هي قصد القلب، وأن يتحرّى الإخلاص في عمله، ويقول: “اللهم إنك أمرتني أن أنحرَ فأطعتُ، ولو أمرتني أن أضحي بنفسي ما تأخرتُ، ولضحّيت بها عن رضا وطواعية، وإن استدعت الحاجةُ أن أُشكّل جبهةً للدفاع عن ديني وشرفي ونفسي ومالي ودولتي فأنا على استعدادٍ وتلهُّفٍ للقيام بذلك”، بمعنى أن الإنسان عليه أن يتذكَّر ما باستطاعته أن يُنفقه وهو يُخرِج ماله الذي هو بضعةٌ منه، انظروا إلى قول الله تعالى مخبرًا عن حال إبراهيم وإسماعيل : ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ (سورة الصَّافَّاتِ: 37/103)؛ وهو بذلك يشير إلى أنهما أدركا السرّ في عبوديتهما لربهما، واستوعبا دقّة الامتثال والطاعة للأمر الإلهي.
فلو أن الإنسان أخلص النية عند أدائه لشعيرة الأضحية فستصبح كلُّ أعماله التي تتعلق بالأضحية بمثابة العبادة، وسترجع عليه الأعمال الأخرى التي يقوم بها في سبيل هذا العمل الخيّر بثوابٍ يماثل ثواب هذا العمل، وسيُسجّل له في دفتر حسناته كلُّ ما ارتبطَ بهذا العمل من أعمال، مثل: الذهاب إلى السوق، وشراء الأضحية، وإدخال الحبل في عنقها، وربطها بمكانٍ ما، وحملها فوق العربة، وأخذها إلى المذبح، ورعايتها بضعة أيام، وانتظار نحرها، أو الإتيان بها إلى البيت وتقديم العلف لها، ثم ذبحها، وتوزيع لحمها… إلخ.
ومن جانبٍ آخر فرغم ما يحمله الإنسان من رقّةٍ قلبية وشفقة شعورية تجاه نحرِ الذبيحة، وخفقانها، وسيل الدم منها، وغير ذلك… إلا أنه سينال ثوابًا آخر وستُكتب له في دفتر حسناته جميعُ هذه الأعمال التي قام بها رعايةً منه لدقّة الامتثال للأمر.
قد ترون كلّ هذه الأعمال صغيرةً وبسيطة، غير أنها حينما تُعرَضُ أمامكم في الدار الآخرة ستقفون مشدوهين مذهولين قائلين: “ربنا ما أعظم غناك! أخذت هذه الأشياء الصغيرة، ونمّيتها وكبّرتها وعظّمتها وشكّلتها، وجعلتها خالدةً مخلدة، وتقدّمها لنا الآن!”.. ومن ثم يجب على الإنسان أن يؤدي شعيرة الأضحية بغنى نفسٍ وطمأنينة قلب، يقول جل جلاله مشيرًا إلى هذا الأمر: ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ (سورة الْحَجِّ: 22/37).
أجل، لو أن الإنسان أدّى هذه العبادة قاصدًا من وراء ذلك أن تكون وسيلةً للصلة والقرب من الله والتعامل معه فستعود عليه يوم القيامة بالخير الجزيل والمفاجآت التي لا قِبَلَ له بها.