سؤال: كيف نتخلّص من الآثار السيّئة للمكتسبات اللاشعورية السلبية التي استقرتْ من قبل في أذهاننا وقلوبنا؟
الجواب: المكتسبات السلبية هي التي تُلوّث ذهننا وروحنا وعالمنا الشعوري أو تضلِّلُ منطقَنا ومحاكمتَنا العقلية، مما يؤدي إلى آثارٍ سلبيّة تُضرُّ بنا، إذ إن مشاعر الإنسان المعنويّة تَضمُر، وأحاسيسه ولطائفه تتكدّر.. فعلى الإنسان أن يُعطيَ إرادته حقَّها، ساعيًا إلى الانسلاخ والتخلّص من هذه المكتسبات السلبية ما أمكن.
ومثل هذه المكتسبات الضارة القبيحة قد تنشأ عن منظرٍ أو موقفٍ دون قصد أو عمد، ولكن ينبغي ألا ننسى أن هذه المكتسبات اللاشعورية السلبية بمثابة امتحان بالنسبة لنا، ومن ثم فعلينا أن نعتبرها عاملًا لاستحضار الذنب والحثّ عليه وإثارة الشعور للإقبال عليه واقترافه، ولا بدّ من اتخاذ التدابير اللازمة لِدَرءِ ذلك، فمثلًا قد تقع العين على منظرٍ غير لائق، فيسجّل مركز الذاكرة صورةَ هذا المنظر، وبمرور الوقت تنتقلُ هذه الصورة من دائرة اللاوعي إلى دائرة الوعي؛ فيسوق هذا الوضعُ الإنسانَ إلى نسجِ خيالات فاسدة، واستدعاء ذكريات قبيحة، والاندفاع إلى الأراضي اللزجة، ولذا على الإنسان -كما ذكرنا آنفًا- أن يستنفِذ كلّ إرادته أمام هذه المكتسبات السلبية، وأن يسعى إلى بسط سلطانه عليها، وكثيرًا ما أوصانا القرآن الكريم بالبعد عن تلك الأجواء حالَما تتيقَّظُ أو تتداعى للإنسان مثلُ هذه الذكريات القبيحة؛ فقال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (سورة الأَعْرَافِ: 7/200).
الفيروسات الفتّاكة والطب الوقائي
فالواقع أن الصورة التي تشكّلت في الذهن نتيجة التعرُّض لمنظر حرام، أو تلك الكلمة النابية التي تلقتها الأذن فاستقرّت فيها وخلّفت آثارًا لها في الذاكرة قد تدعوان الإنسان في كلّ لحظةٍ إلى ارتكاب الذنب؛ فعلى الإنسان حينذاك أن يتخلّص من هذه التداعيات على الفور ولا يعترف لها مطلقًا بحقِّ الحياة؛ لأن هذه المكتسبات تُريد أن تُعلن عن وجودها مع مرور الوقت، وإن جاز التعبير تلحّ عليه للقيام بأمورٍ معينة؛ مثل الفيروس تمامًا فكما أن الجسد إذا ما ضعُف تأخذ الجراثيم في بسط سيطرتها عليه فكذلك المكتسبات السلبية إذا ما ضعُفت معنويات الإنسان أو ابتعد الإنسان عن معنوياته وجدت الفيروسات الفرصة للتوالد والتكاثر في منطقة اللاشعور؛ فتحركت على الفور، وبدأت في الهجوم؛ لتأخذ الإنسان تحت أسارتها، من أجل ذلك كان بعض رجال المعنويات العظام يُخطّطون لحياتهم حتى يسدوا كلّ المنافذ التي قد يأتي منها الذنب، ولو في غفلة مؤقّتة؛ بتعبيرٍ آخر: لقد اتّخذ هؤلاء تدابير مشدّدة منذ البداية حتى إنهم وإن اعتزموا فعل سيئةٍ في غفلةٍ مؤقّتة عجزوا عن فعلها، فمثلًا فضّلوا “الخَلوة” و”العُزلة” حتى يتجنّبوا مواطن الذنب، واعتبروا الانزواء ثغرًا وسدًّا منيعًا يحميهم من تسلّط الذنوب عليهم، وهكذا حفظوا أنفسَهم من الوقوع في الآثام، ولكن السبيل الأساس الذي يجب اتباعه والكمال الحقيقي بالنسبة للمؤمنين المكلفين بمعايشة الدين وتبليغه، ولا سيّما وارثي دعوى النبوة هو أن تكون مع الحقِّ بين الخلق. أجل، إن معية الحقِّ بين الخلق سلوكٌ نبوي؛ ووظيفة المؤمن الأساسية هي أن يجعل المكان الذي يعيش فيه يحاكي هذه القاعدة بقدر الإمكان، عليه أن يجعل بيئته طاهرة كما يرغب لقلبه
أن يكون كذلك، وأن يحاول إزالة عوامل الشرور بتمامها.
الثقوب المسدودةُ ضدّ الأعداء الأخفياء
يُحكى أن سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما وصل هو والنبي صلى الله عليه وسلم غارَ ثور أثناء الهجرة دخل الغار أوَّلًا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وراح يتفقّد الثقوبَ التي في جدرانه فيسدّها بقميصه الذي مزّقه لهذا الغرض مخافة أن تخرج منها حية أو أي حيوان يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي مكروه، ثم دخل من بعده سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واستراح مدة، ولكن قطعة القماش التي مزقها سيدنا أبو بكر رضي الله عنه لم تكف لسدّ الثقب الأخير، فألقمه كعبه، فجاءت حيّة ولدغت قدمَه.
ومن هذا المنطلق يمكننا أن نستخرج بعض الحقائق التي أشارت إليها هذه الرواية وإن كانت لم ترد بالمصادر المعتبرة؛ أولها: صديقية سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأن سيرته تبين لنا أنه كان مستعدًّا للإقدام على أيّ تضحية فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وإن كان بوضعِ قدمه في فم الحية.
وثمة معنى آخر يمكننا أن نستخرجه من هذه المنقبة؛ وهي أنّ على المؤمن أن يسدّ كلّ المنافذ في المحيط الذي يعيش فيه حتى
لا تتضرّر صلتُه بالله أو حياته الدينية والمعنوية، ويشمل هذا أيضًا كلّ منافذ الخطر المحتملة، فعلى المؤمن أن يسدّ هذا المنفذ بحياته عند اللزوم، وأن يتوسّل إلى الله ويدعوه قائلًا: “اللهم إني أكاد أخسر كل حياتي الدنيوية في هذا الموطن، فاللهم إني أتوسل إليك أن تقيني وتحفظني من كل المخاطر التي من شأنها أن تضرّ بصلتي بك، وبشعوري بالعبودية بين يديك، اللهم أقم صرحَ روحي دائمًا،
ولا تجعله ينحني لأحدٍ سواك”.
وكما بيّنّا آنفًا فقد تكون هذه الواقعة مثارَ نقاش وجدال، ولكنها تعرض لنا مثالًا رائعًا في الصداقة والولاء، وتُلقِّننا هذا الدرس المهم في الحيطة والحذر: وهو أن المؤمنَ مطالَبٌ بأن يجعل المكان
أو البيئة التي يعيش فيها مناسبةً تصطبغ بماهيَّتِه ولونِه، وأن يعملَ على جعلِها متوافقةً مع أفكارِه ومشاعرِه.
صديق السوء والحيّة الرَّقطاء
ولنرجع الآن إلى موضوعنا الأساسي فنقول إنه من الممكن أن نوجز بعض الخصائص التي تعيننا على التخلّص من الخيالات والذكريات القبيحة على الوجه التالي:
1- لقد وضع الرسولُ صلى الله عليه وسلم علاجًا ناجعًا لِوَأْد ذلك الشعور المفسِد المسمّى بالغضب؛ حتى لا يدفعنا إلى الهلاك، فقال: “إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ“[1]، فههنا يحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرورة تغيّر الحال والسلوك، وإذا ما حلّلَ الإنسانُ هذا الأمر
من الناحية النفسية سيجد أن هذا الأمر الذي أوصى به الحديث الشريف هو أنجعُ الأدوية وأعظم الطرق فعاليّةً للتحكّم في الغضب.
وانطلاقًا من هذا الحديث الشريف يمكننا أن نقول: لا بدّ للإنسان أن يغيِّر من حاله وسلوكه ومكانه والوسط الذي يعيش فيه؛ حتى يستطيع التخلّص من جوّ الذنب الذي يسيطر عليه؛ وبذلك يتخلّص بداية من إلحاح الخيالات والذكريات الفاسدة التي تشغل باله، فإذا ما انتقل فيما بعد إلى أجواء وأحوال أخرى، فخامرَتْه أفكارٌ ومشاعر مختلفة استطاع أن يمحو من ذهنه وقلبه آثار كلّ هذه السلبيات.
2- على المؤمن أن يصاحب الصالحين ويخالطهم ويعاشرهم دائمًا، وقد ذكرتُ كثيرًا من قبل أن طالب العلوم الدينية والعربيّة كان قبلَ دراسته يُعلّم هذا البيت المنظوم في الأصل بالفارسية:
صديقُ السوء أعظم شرًّا من الحية الرقطاء ذات السمومِ
إن تمكن منك؛ فاعلم بأنَّه ساقَكَ لا محالةَ إلى الجحيم
أما الصديق الصالحُ فيأخذ بيدك إلى جنات النعيم
أجل، إنّ اتخاذ الأصدقاء الصالحين أمرٌ مهمٌّ جدًّا؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يَثبت بمفرده دائمًا، فهو كالخيمة لا يستطيع أن يكون العمودَ المركزيَّ في خيمة وجوده والقائمَ لها في الوقت ذاته؛ فإذا ما أراد الإنسان أن يحملَ خيمة وجوده كهذا العمود المركزي فعليه أن يتَّخذ له بضعة أصدقاء كالقوائم يساعدونه على حملها؛ فلا يمكن أن تقوم قائمة لهذه البنية إلا بهذا الشكل، فحجارة القبّة مثلًا إن تراصَّت بجوار بعضها ما تعرضت للسقوط، وفي هذا الصدد يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ، وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ“[2]، فعلى المؤمن أن يُحيل الجوَّ الذي يعيش فيه إلى مثل هذا الجوّ الذي أوصانا به النبي صلى الله عليه وسلم، وحينذاك يقعُ على عاتقنا أن نكون دائمًا مع الأصدقاء الصدوقين الصالحين يقول الله : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (سورة التَّوْبِةِ: 9/119)؛ فإذا ما أوشكْنا على اقتراف خطإٍ نبّهونا على الفور، واجتهدوا في تقويمنا، ومن يدري لعلّنا نخجل من هؤلاء الأحبّة؛ فنقمعُ شهواتنا ورغباتنا، وننأى بأنفسِنا عن الأفكارِ والمشاعر السيئة.
واستطرادًا للكلام فإنني أستميحكم عذرًا بإيرادِ شيءٍ خاصّ بعالمي الداخلي: كان أصدقائي الصالحون يُسْدُون إليّ النصحَ إذا ما اقترفتُ خطأً ما، وربما كنت حينذاك أخجلُ قليلًا، ويثقلُ الأمر على نفسي، ولكن عندما كنتُ أنظر إلى المسألة من حيث النتيجة الحاصلة يفيضُ قلبي بمشاعر الحمد لربي والشكر لأصدقائي.
ألم يُحذِّرْنا الأستاذ النورسي رحمه الله إلى هذا الأمر بقوله: “إن نبهني أحدٌ على وجود عقربٍ في أيِّ جزء من جسمي، عليّ أن أرضى عنه، لا أمتعض منه”[3].
إن المؤمن الصالح إن نبّه أخاه المؤمن قائلًا: “ما لك لا تحفظ نظرك وسمعك من الحرام؟!”؛ فلربما اهتز الأخ المؤمن، وتخبّط يمينًا ويسارًا كالسيّارة التي تسير مسرعةً على منحدر سحيق ثمّ أُمسِكَت مكابحُها فجأة، ولكن إذا ما نظر هذا الأخ المؤمن إلى المسألة من الناحية الأخروية سيتبين له أن هذا الأمر لا قيمة له؛ لأنه قد عاد إلى صوابه بسبب هذا التحذير، وخلّص نفسه من الوقوع في دائرة فاسدة؛ وهذا هو جزاء من يكون مع الصادقين الصالحين.
3- على المؤمن أن يشتغل طيلة حياته بالأفكار والمشاعر الخاصة بالقيم التي يؤمن بها، وأن يفيض قلبه بها، فيدرسها ويفكر فيها، ويغذّي روحه دائمًا بما جاء في الكتاب والسنة دون أن يُفسح مجالًا لأي فراغ في حياته، وعليه أيضًا أن يتوجّه إلى ربه سبحانه وتعالى، ويطلب منه الحفظ والعناية والكلاءة والوكالة، ويتضرع إليه قائلًا: “اللهم احفظني من الذنوب والمعاصي، اللهم اكْلأني بحفظك ورعايتك، وخذ بيدي فليس لي غيرك”، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى هذا الأفق الذي لا بد أن نراعيه في هذا الموضوع بقوله: “يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ“[4].
وفي النهاية أريد أن أقول: كما أن الذين يتوجهون إلى الله سبحانه وتعالى بصدقٍ وإخلاص لا يتعثرون ولا ينحرفون، فكذلك مَنْ يُحسنون اختيار أصدقائهم الصالحين لا يتعرّضون أبدًا للضياع والخسران.
[1] سنن أبي داود، الأدب، 4؛ مسند الإمام أحمد، 29/505.
[2] سنن أبي داود، الجهاد، 86؛ سنن الترمذي، الجهاد، 4.
[3] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب السادس عشر، النقطة الثالثة، ص 82.
[4] النسائي: السنن الكبرى، 6/147؛ البزار: المسند، 13/49.