بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأعطران الأزكيان على إمام الأنبياء وقائد المرسلين، سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن استنّ بسنّته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فإنّ للتجديدِ مناهج مختلفة، وطرائق متعدّدة، يتبارى فيها السالكون، ويتسابق في ميادينها المصلِحون، يحملُ كلُّ مجدّدٍ سالكٍ في هذا الطريقِ همومًا معيّنة، ومفاهيم خاصّة، تُساهم في رسمِ ملامحِ التجديد الذي يتبنّاه، وفي توضيحِ الصورة التي يريدها أن تظهرَ.
وإذا أردنا أن نطرقَ أبواب الهمومِ والمفاهيم التي يحملُها الأستاذ فتح الله كولن في عالمه الروحي المتشكّل من عصارة الحضارة الإسلامية بعصورها وأطوارها المختلفة؛ فإننا بذلك نتحمّل على عواتقنا حملًا ثقيلًا، ومهمّة حساسة، وذلك لِما لِمفاهيمِ وهمومِ هذا العَلَمِ من الحساسيّة والدقّة والرقيّ.
لا نستطيعُ في هذه العجالة أن نستعرض فكره ومفاهيمه، ولكننا سنلفتُ الانتباه إلى بعضِ النقاط الدقيقة والمهمّة في جهودِ التجديد من وجهة نظره.
يُحلّق الأستاذُ عاليًا في كتابه الجديد “جهود التجديد“، فيستحثُّ الهمّة ويستنهضُ عزيمة الأمة، ويسكبُ عصارة الحضارة الإسلاميّة في أكوابِ مواعظه العذبة التي جاءت على هيئة أسئلةٍ وأجوبة، يشمّ القارئُ من خلالها رائحة احتراق كبدِ صاحبها في مسيرة التجديد والإحياء، ويستشعرُ أنّاته الحزينة بين السطور، ويجدُ دمعاته تنساب بين معاني التجديدِ وجهوده.
إنّ الأستاذ إذ يتناول الاهتمام بمسألة إحياءِ الآخرين، والشغف بمحاولةِ انتشالهم من رقدتهم؛ يُفرّق بين “التديّن” و”الحساسيّة الدينية”، فينظر إلى الحساسية الدينيّة نظرة أوسع وأعمق، ويرى أن أوّل حدود الحساسيّة الدينية تبدأ عند آخر حدود التديّن..
فيرى التدين على أنه محضُ التطبيق على الصعيد الشخصيّ، والحساسيّةَ الدينية على أنها إبلاغ الجماليّات ومحاولة إيصالها إلى الآخرين بأبهى حلّة.. فيستحث السالكين والمجتهدين إلى هذا المستوى من الجهدِ في مسيرة التجديد.. حتى إنه يطلب منهم ألا ينفكّوا عن هذا الأفق أو يستنكفوا عن هذا المنهج قيد أنملة، فيقول في خاتمة الفِكرة:
“وأصحابُ هذا الأفق مهمومون أكثر من غيرهم، لا ينفكُّ ذهنُهم عن التفكير في هذه الغايات السامية كلما قاموا أو قعدوا، يُجهِدون عقولهم بالتفكير في هذا الأمر، ويمنعون عقولهم من الاستراحة، يطرحون أفكارًا جديدة، ويُسجِّلون كلَّ ما جال بأذهانهم في مكانٍ ما، فإن لم يجدوا فرصة احتفظوا بها في خلايا عقولهم حتى يقيّموها فيما بعد.
إن همّ الدعوة يتملك هذه الأرواح المهمومة لدرجة أن السهوَ قد يعتري صلاتهم أحيانًا، ومن الممكن أن نعزو سهو المقربين إلى هذه الحالة السامية وإن لم يكن لها مصطلحٌ خاص في عِلم المصطلحات”.
ونجده يعزو سهو النبيّ في الصلاة إلى الانشغال بمثل هذا الأفق، وأن الصلاة جاءت في المرتبة الثانية بعد الشغف بمسألةِ إحياءِ الآخرين، فسها صلوات الله عليه عن الثانية انشغالًا بالأولى.
ثم بالانتقال إلى مقاله “الغلول كبيرة من الكبائر” نراه بعد كلّ هذه الهمّة العالية والنظرة الآفاقية الرفيعة يمنع نسبةَ النجاحات والفتوحاتِ إلى مؤسِّسِ الفكرةِ أو صاحبها الأوّل، بل يرى أيَّ نجاحٍ على أنه حقُّ الجميع وجهد الفريق، ويصفُ نسبة النجاحِ إلى الشخص أو الرمزِ بالسرقة، ويسمِّي فاعلي ذلك بـ”لصوص النجاح”.. ويشبّه الأمرَ بالغنائم الماديّة، فكما أن الغنائم المادّية ليست للقائد فحسب، بل تُقسّم بين أفراد الجيش بالتساوي؛ فكذلك الغنائم المعنويّة، لأنّ الشرف والغنيمة المعنويّة التي ترتّبت على هذا النجاح هي ملكٌ للفريق كلّه..
وهكذا يمضي في إحياء الهمّة وإنعاشِ العزيمة ضمن أفق المحو والتواضعِ قائلًا في خاتمة المقال:
“وليس من الصحيح أن ينسب الإنسانُ لنفسه النجاحات التي أُحرزت نتيجة مساعي وجهود الملايين من الناس، ولا أن يعتبر توجّه الناس إليه حقًّا له، وهذا الوضع يُعدّ غلولًا وذنبًا عظيمًا وخيانةً للأمانة”.
ثم نرى الأستاذ يعرّج في معرض حديثه عن “ساعات العمل التطوّعيّة لدى أرباب الخدمة” إلى منهجِ ورثة النبوّة في تنظيمِ الحياة، فيعرضُ منهجَين ويقارن بينهما ويُؤَصِّل لأحدهما كمنهجٍ يجب اتّباعه لا سيما في ظروفِ عصرِنا؛ أما الأوّل فهو منهجُ الاعتزال والانقطاع عن الغير والانغلاق على النفسِ بالعبادة الفرديّة في الخلوة، والتجرّد عن كل الإمكانيات المادّية والدنيويّة لصالح الدعوة، وأما الثاني فالفاعلية والمشاركة والمعاشرة والتبليغ، والموازنة بين الدين والدنيا، -فيحترمُ الأول ويُثني عليه أدبًا كما هو شأنه دائمًا- ويتبنّى الثاني ويحثُّ عليه، فيقول:
“وقد يوجد دائمًا أناسٌ نذروا حياتهم كلَّها في سبيل الحق والحقيقة، وأغلقوا أعينهم عما سوى خدمة الدين، وتجرّدوا تمامًا عن الدنيا.. وإن هذا الاتّجاه لا بأسَ فيه ما دامَ أربابه لا يُكرِهون الآخرين عليه ولا يُكلّفون غيرهم به.
وإنَّ من أربابِ هذا المنهج المتصوفةَ الخلوتيّين الذين اعتزلوا الدنيا، وعاشوا حياتهم في عزلةٍ وانزواء، فأغلقوا أبوابهم على أنفسهم حتى لا ينشغلوا بشيء ولو طرفة عين عن العبادة لربهم سبحانه وتعالى، ولكن علينا ألا ننسى أن هذا ليس سبيلَ ورثة النبوة.. إننا نقدّر هؤلاء الناس، ونتوّج بهم رؤوسنا، ولكن سيد الأنام صلى الله عليه وسلم لمّا كان يبلغ رسالته لأتباعه كان يُخبرهم بأن من يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، وعلى ذلك فتقع على كلِّ فردٍ مسؤوليّات ومهام عليه أن يقوم بها ويؤدّيها بإتقان في سبيل رفعة أمّته، ولا سيما أن رفعة الإنسان منوطةٌ من جهةٍ ما برفعة أمّته والأجيال القادمة، ولذا يجب على الإنسان أن يُطوّر من خططه الكبرى العامة التي يراعي فيها المجتمع ككل، وأن يبذل جهده لتحقيق هذه الخطط، ولكن إلى جانب هذا عليه أن يقوم بتنظيم أعماله، حتى لا يعتري دينَه وديانتَه وقلبه وروحه أيُّ خلل أو قصور، وألا يتخلف عن السعي بقدر الإمكان عن سبيل الله”.
ويقول أيضًا:
“إن السبيل الأساس الذي يجب اتباعه والكمالَ الحقيقي بالنسبة للمؤمنين المكلفين بمعايشة الدين وتبليغه -ولا سيّما وارثي دعوى النبوة- هو أن تكون مع الحقِّ بين الخلق. أجل، إن معية الحقِّ بين الخلق سلوكٌ نبوي؛ ووظيفة المؤمن الأساسية هي أن يجعل المكان الذي يعيش فيه يحاكي هذه القاعدة بقدر الإمكان”.
ثم نراه يصرخُ صرخةَ إخاءٍ نادرة في زمن العداوة، فيدعو إلى تشكيل مناخ سلميّ على مستوى الإنسانيّة، عبرَ إقامة جسور الحوار بين الثقافات والحضارات، وتهيئة مناخ مناسب للتبادل المفيد بين الحضارات، موضّحًا أن هذا هو مقتضى اللحظة قائًلا في الختام:
“علينا أن نُقيم جسورَ سلامٍ بين مختلف الثقافات، وإلى جانب نقلِ بعض الأشياء للآخرين نَستلهِم منهم أيضًا بعضَ الأشياء، وبذلك نبرهن على أن مختلف المجتمعات والثقافات ليست غريبةً عن بعضها أو منافية لها”.
ثمّ يسمو بأدبٍ رفيعٍ يعتبره جوهرًا للمسألة، ألا وهو “احترام الإنسان” حتى لو كان هذا الإنسان متجاوزًا حدوده، ويعتبر ذلك فرصةً لعرضِ وإظهار الأدب المحمّدي الفريد في احترام الآخر كائنًا من كان.. فيقول:
“علينا أن نبدي الاحترام اللائق بماهية الإنسان؛ لأن الإنسان مخلوقٌ كريمٌ لا بدّ من احترامه وتقديره، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (سورة التِّينِ: 95/4)، وهنا يبين ربنا سبحانه وتعالى أن الإنسان مخلوق كريم محظي بقيمةٍ فوق القيم، وهو في طبيعته يعبّر عن مثل هذه القيمة.. ولا يخفى عليكم أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما مُرَّ عَلَيهِ بِجِنَازَةٍ قَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ: “أَلَيْسَتْ نَفْسًا“[1]، ومن ثم فعليكم ألا تتخلوا عن احترامكم لهذا الإنسان الذي خلقه الله مكرَّمًا وإن أساء معاملته معكم، حتى وإن استخفّ البعضُ بقيمكم وأساء الأدب مع الله ورسوله فعليكم أن تحافظوا على أسلوبكم معهم محافظتكم على شرفكم وعرضكم، ويجب ألا تنسوا أنكم مسلمون مزوَّدون بالأدب المحمدي والخلق القرآني؛ بمعنى أن أخلاقكم هي أخلاق القرآن، فكيف لكم أن تتصرفوا مثل الآخرين؟! قد يُفلت لسان الآخرين، وبعضهم يدنّس المكان الذي يمرّ به، ولكنكم لستم مثلهم، إنكم مضطرون إلى أن تعبروا عما تتميزون به وتختلفون فيه عنهم حتى في أسوإ الظروف”.
ثم نراه يُبيّن إكسير النجاحِ وسبيلَ التأثير الإيجابي في القلوب، موضّحًا أن ذلك مرهون بمدى التحلّي بمبادئِ الأنبياءِ وقِيَمِهم، ومدى الاستعداد للتضحية في سبيل ذلك، فيقول:
“على الإنسان أن يربط نيته وسعيه وجهده وخططه ومشاريعه بغايةٍ سامية، وأن يقتفي أثر هذه الغاية على الدوام، وأن يكون على استعدادٍ لأن يضحّي في سبيلها بكل ما يملك إن لزم الأمر، ولكم أن تصفوا هذا الجهد الذي تضطلعون به في هذا السبيل بالجهد النبوي؛ لأن سبيل التأثير الإيجابي في القلوب هو التحلي بالأوصاف العالية للمرشدين الحقيقيين من الأنبياء العظام ، فما يحمله هؤلاء الأنبياء الذين هم نجومُ سماءِ الإنسانية من صفات مثل العصمة والصدق والأمانة والفطنة إنما هي أبعادٌ مختلفة لحياتهم، ولقد اختصهم الله تعالى مع كل هذه الصفات بالأتمية والأكملية؛ لأنه لا يمكن لدينٍ أتمّ وأكمل أن يقوم إلا على يد أناسٍ يحملون هذه الصفات، وبما أن الله تعالى أقام هذا الدين -إن جاز التعبير- على أيدي رسله بمقتضى قوله ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/3) فعلى سالكي طريق هؤلاء الرسل أن ينشدوا الأتمية والأكملية في الإيمان والإسلام والإخلاص والعشق والشوق”.
ثم يتابع الفكرة في مقالٍ آخر، فيعلو بالسالكين في هذا الطريق قممًا فريدة، ويسلك بهم إلى مسالك مجيدة، بحثًا عن هذا الإكسيرِ وما يتطلّبه من شمائل حميدة، فيستحثُّ همّتهم في مقاله “المحاسبة الدائمة” إلى مراقبة النفس ومحاسبتها ومحاكمتها حتى على أبسط التصرّفات، ويسعى إلى تخليص النفس والهوى من التشوّف للأجر حتى وإن كان طبيعيًّا معتادًا، ويطلب من أجيالِ التجديد القادمة ألّا تبني مساعيها على الأجر والأجرة، بل يريدهم أن يدوروا مع الاستغناء حيث دار، فيقول:
“على الإنسان أن يحاسب نفسه قائلًا: “يا ترى! هل أنا أستحقّ بالفعل ما أتقاضاه من راتب؟”.. بل علينا أن نحاسب أنفسنا عن مدى أحقّيتنا لهذا الشيء حتى وإن كنا نصلي في مكان مفتوح للعامة، ونأكل من طعام هذه المؤسسة، ونشرب من شرابها.. والحق أننا إن كنا أوقفنا أنفسنا للخدمة حقًّا فيجب أن نتضوّر ونتلوّى بهذه الأفكار في عالمنا الداخلي، ونتعجّب من حالنا.
فحتى غنيمة الحرب التي شُرعتْ لتعريف الناس بعظمة وجلال اسم الله تعالى ترتكز في مشروعيتها وإباحتها على أسسٍ معينة، فمثلًا قال النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى غزواته: “مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ“[2]، ولكن لما أمر بإعطاء أحد الصحابة نصيبًا من الغنيمة قال له ذلك الصحابي الجليل الذي لا نعرف اسمه: “مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ”[3].. وهكذا يجب أن تدور الخدمة على هذه الفكرة، وأن يعيش رجالها في استغناءٍ عن الناس دائمًا، حتى يحظوا بالقبول لدى الناس أيضًا، وتكون أفعالهم وتصرفاتهم ذات صدى في قلوبهم، فـ”إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ الله عَزَّ وَجَلَّ“[4]، فلا حاجة لهم إلى قول المزيد؛ لأن أفعالهم بمثابة اللسان الفصيح والخطيب البليغ، أما هؤلاء الذين لم يستطيعوا أن يبلغوا هذا المستوى فإن صياحهم وصراخهم لا يجدي كثيرًا مع الناس، وإن شغلوا بالهم مؤقتًا فلن يستطيعوا أن يقرّبوهم حتمًا من السير في طريق الله سبحانه وتعالى.
ربما يرى البعضُ صعوبةً بالغةً في الحياة على هذا المستوى، ولكننا طالِبُو الصعاب، وعلينا ألا ننسى قول ربنا سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى﴾ (سورة الضُّحَى: 93/4)، فهذا الخطاب ينطبق علينا أيضًا. كما وبّخ القرآن الكريم الذين يرون خلاف ذلك بقوله: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ﴾ (سورة القِيامَةِ: 75/21)”.
إننا نؤكّد على أننا لا نستطيعُ في هذه المقدّمة المختصرة سردَ نقاط التجديد لدى الأستاذ كولن، وما سردناه لا يتجاوز الغيض من الفيض، أو القطرة من البحر، علها تكون فاتحةَ خيرٍ وبطاقةَ تعريف..
وإننا إذ نحاول اختصارَ وعرضَ بعض مبادئ التجديد لدى الأستاذ كولن؛ فإننا نتقدّم إليه بأبلغِ معاني الشكر المحفوفة بباقات التقدير، ونطلب منه مزيدًا من الإرشاد والتوجيه، وندعو الله له بمديد العمر ووفرة الصحّة..
مارس/آذار (2017م)
دار النيل للنشر والتوزيع
[1] متفق عليه.
[2] صيح البخاري، الخمس، 13؛ صحيح مسلم، الجهاد، 41.
[3] سنن النسائي، الجنائز، 61.
[4] سنن ابن ماجه، الزهد، 4.