السؤال: ما السبب في انتشار الإلحاد كل هذا الانتشار؟
الجواب: لكون الإلحاد يعني الإنكار، فإن انتشاره متعلق بانهدام الحياة القلبية وسقوطها. طبعاً يمكن الإشارة إلى أسباب أخرى كذلك. الإلحاد من الناحية الفكرية هو إنكار الله وعدم قبوله. وفي مستوى التصور هو حالة الحرية بلا حدود. أما في مستوى العمل والسلوك فيتبنّى الإباحية ويدافع عنها. انتشر الإلحاد فكرياً نتيجة إهمال الأجيال الشابة ونتيجة سوء التطبيق في دور العلم ومعاهده، إضافة إلى اكتسابه السرعة والقوة بتلقيه المساعدات من جهات كثيرة.
إن أوّل بيئة ينمو فيها الإلحاد هي البيئة التي يسود فيها الجهل ويغيب عنها القلب. فكتل الجماهير التي لا تتلقى تربية وتغذية روحية وقلبية ستقع إن عاجلاً أم آجلاً في براثن الإلحاد. وإذا لم تتدخل العناية الإلهية فإنها لن تستطيع إنقاذ نفسها. إذا لم تبذل الأمة عناية خاصة في تعليم أفرادها ضرورات الإيمان ولم تظهر الحساسية اللازمة في هذا الأمر وتركت أفرادها في ظلام الجهل، فإن هؤلاء الأفراد يكونون قد دفعوا لتقبل كل إيحاء معروض عليهم.
يتجلى الإلحاد في بادئ الأمر باللاَّمُبالاة تجاه أُسس الإيمان وعدم الاهتمام بها. ومثل هذا السلوك الذي يتسم بحرية التفكير ما أن يجد أي أمارة صغيرة تعين على الإنكار وعلى الإلحاد حتى ينمو هذا الإلحاد ويزداد، مع أن الإلحاد لا يستند إلى أي سبب علمي. ولكن إهمال معين أو غفلة معينة أو تقييم خاطئ قد يولد الإلحاد.
في أيامنا الحالية هناك الكثير ممن هلك تحت ضغط هذه الأسباب، غير أننا سنقف هنا فقط على أهم هذه الأسباب وأكثرها تخريباً وتدميراً. ودَعني أقُلْ من البداية بأننا لسنا في مجال التعرض هنا إلى الأدلة التي تهدم الإلحاد وتزيله. ومن الطبيعي أن القارئ لا يتوقع منا هنا في هذا الحيز القليل التعرض إلى موضوع يحتاج إلى مجلدات، فزاوية الأسئلة والأجوبة في الكتب أو الصحف لا تستطيع استيعاب هذا ولا أن توفيه حقه. فمن الطبيعي أن مواضيع معقدة وعميقة بهذا المستوى لا يمكن تناولها وإيضاحها حق الإيضاح في مثل هذه الزوايا، ثم إن هناك كتبا ثمينة جداً وممتازة جداً في هذا الموضوع، ولن يكون كلامنا إلاّ تكرار ما ورد فيها.
لنرجع إلى الصدد. إن الحوادث التي انبثقت كل منها من يد القدرة الإلهية والتي كل منها رسالة إلهية.. هذه الحوادث أو بتعبير آخر قوانين الطبيعة هذه أصبحت في يد الإلحاد وسيلة لاستغفال الأجيال وساحة لبذر بذور الإلحاد. مع أنه سبق وأن كتب آلاف المرات في الشرق والغرب وذكر أن قوانين الطبيعة هذه ليست إلاّ آلية تعمل بدقة واتساق واطراد ومعملا ذا إنتاج وفير. ولكن من أين أتت هذه القدرة على الإنتاج ومن أين أتى هذا النظام؟ أيمكن أن تكون هذه الطبيعة الجميلة التي تسحر النفوس والأرواح مثل شعر منظم ونغم موسيقى نتيجة مصادفات عمياء؟
إن كانت الطبيعة تملك -كما يُتوهم- قوة قادرة على الإنشاء والخلق، فهل نستطيع إيضاح كيف استطاعت الطبيعة الحصول على مثل هذه القدرة؟ أنستطيع أن نقول إنها خلقت نفسها بنفسها؟ أيمكن تصديق مثل هذه المغالطة المرعبة؟ الوجه الحقيقي لخلاف الحقيقة هذه هو “الشجرة خلقت الشجرة، والجبل خلق الجبل، والسماء خلقت السماء…” لا أعتقد أن هناك شخصاً واحداً يستطيع أن يؤيد مثل هذه المغالطة والبعد عن المنطق.
أما إن كان القصد من ذكر “الطبيعة” هو الإشارة إلى القوانين الفطرية، فهذا أيضاً خداع آخر. ذلك لأن القانون -بتعبير القدماء- عرض من الأعراض. والعرض لا يقوم إلا بوجود الجوهر، أي أنه إن لم يتم تصور جميع الأعضاء والقطع التي تكوّن شيئاً مركباً أو جهازاً حيوياً ما، فلا يمكن تصور مفهوم القانون المتعلق بهذا الجهاز. وبتعبير آخر فإن القوانين قائمة بالموجودات. فقانون النمو يظهر في البذرة، وقانون الجاذبية يظهر في الكتل وفي الحيز (المكان)… الخ، إذ يمكن زيادة هذه الأمثلة. إذن فإن التفكير في القوانين قبل التفكير في الموجودات والزعم بأن هذه القوانين هي منشأ الوجود ليس إلا خداعا وبهْلَوانية.
وليس النظر إلى الأسباب واعتبارها أساساً وقاعدة للوجود أقل خداعاً وتضليلاً. والحقيقة أن محاولة القيام بتفسير وإيضاح هذا العالم المملوء بآلاف الحكم والنظم الدقيقة بالأسباب أو بالصدف محاولة خالية من أي قيمة علمية، بل هي محاولة مضحكة بل هي هذيان وتناقض، لأنه إعلان عن بطلان العلم.
وبينما أعلنت تجارب “ميللر” (Müller) قصور الأسباب والصدف وعجزها، تكلمت العلوم وأعطت أحكامها. فقد أعلن مثلاً معهد الكيمياء في الاتحاد السوفيتي تحت رئاسة “اوبرين” (Oparin) بعد بحث دام 22 سنة أن قوانين الكيمياء والتفاعلات الكيمياوية بعيدة عن تسليط الضوء على الوجود. هذا ما يقوله العلم وما يقوله العلماء.
ونظرية “التطور والتكامل” التي درست في مدارسنا سنوات عديدة وكأنها حقيقة علمية ثابتة.. هذه النظرية أصبحت مجرد خيال علمي وقصة من قصص التاريخ بعد الإكتشافات العلمية الحديثة وتطور علم الجينات ولم يعد لها أي قيمة علمية. ولكن كم يؤلمنا أن مثل هذه المسائل الواهية لا تزال من أسباب الإلحاد لأجيالنا الشابة التي لا تزال معلقة في الفراغ لا تملك مع الأسف حتى الآن قاعدة ثقافية متينة.
ولكن من جانب آخر توجد هناك لحسن الحظ بعض الكتب التي ظهرت إلى الأسواق والتي تزيل مثل هذه الاستفهامات التي تجرح مشاعرنا وأفكارنا، وتعالج أمراضنا الروحية. فمن الممكن الآن الحصول على مئات من الكتب التي كتبت في الشرق وفي الغرب بمختلف اللغات والتي أوضحت الوجه الحقيقي للطبيعة وللأسباب.
ومع أننا نستغرب الكتب المنحرفة التي كتبها بعض “المستغربين” عندنا، إلاّ أن كتباً عديدة كتبت في الغرب أمثال “لماذا نؤمن بالله” الذي اشترك في كتابته العديد من علماء الغرب تشكل جواباً لأمثال هؤلاء المستغربين.
وبعد كل هذا الوضوح الموجود في الوسط العلمي حول هذا الموضوع، فإن الإلحاد لا يعد الآن إلا انحرافاً نفسياً وعناداً وفكراً جاهزاً من غير تفكير ومزاجاً طفولياً. ولكن لا يزال بعض شبابنا رغم كل هذا غير متخلصين تماماً من تأثير هذه الأفكار التي أكل عليها الدهر وشرب، إذ يتوهمون أنها تحمل حقائق علمية، لأنهم لم يتلقوا التربية العلمية والروحية الكافية.
لذا كانت التعبئة العلمية والتربوية لنشر المعارف الصحيحة ضرورة فوق كل الضرورات الأخرى. أما عدم إيفاء مثل هذه الوظيفة المقدسة حقها من الاهتمام فسيؤدي إلى جروح غائرة لا يمكن اندمالها في المجتمع. ولعل هذا هو أساس كثير من الآلام التي عانى منها المجتمع مدة سنوات طويلة، لأننا كنا محرومين من المرشدين الممتلئين بعشق التعليم الذين جمعوا بين العلم والروح وبين العقل والقلب وبرزوا وتعمقوا فيهما. لذا نأمل من هؤلاء المرشدين الحقيقيين التصدي لحمل هذه المهمة البشرية الأساسية وأن ينقذونا من هذه الآلام التي قاسينا منها طوال عصر. عند ذاك ستصل الأجيال في أفكارها ومشاعرها وخيالها إلى الاستقرار، وتتخلص من الانجراف في تيار الأفكار الخاطئة، ومن التذبذب -كرقاص الساعة- ذات اليمين وذات الشمال، وتكون لها مناعة معينة ضد الإلحاد.
ونستطيع أن نقول كخلاصة إن الإلحاد الفكري هو نتيجة للجهل وعدم امتلاك قابلية التحليل والتركيب وعن فقر الغذاء الروحي والقلبي، لأن الإنسان يحب ما يعرف وهو عدو لما يجهل.
والآن لنلق نظرة على الكتب الموجودة في الرفوف وواجهات المكتبات، ونتفحص الأفكار التي تروج لها هذه الكتب والشخصيات التي تقدمها لنا؛ عند ذلك ندرك لماذا يحاول الصبيان في الأزقة التشبه في ملابسهم بـ”الهنود الحمر” (Apachi) أو بـ”زورو” (Zoor) أو الشباب بـ”دون جوان” (Don Juan). ما ذكرته ليس إلاّ مثالا أو مثالين على الحقيقة التي نحاول إيضاحها. وعندما تقومون بإضافة عناصر التخريب الاجتماعية والاقتصادية الأخرى فليس في وسعنا إلاّ أن نرتجف حتى النخاع من المنظر المتشكل أمامنا.
لقد سار مواطننا من قبل وما يزال خلف من أحبه وقُدّم له على أنه شخص جيد، وأصبح عدواً أو غريباً عمن لم يعرفه. ووظيفتنا الآن هي القيام بالتفكير بالشيء الذي يجب علينا تقديمه له من الآن فصاعداً وإرشاده إلى طريق النور وعدم تركه في حالة تسيب وفراغ.
العامل الثاني في انجراف الجيل[1] إلى الإلحاد وفي انتشار الإنكار هو طبيعة الشباب. فرغبات الشباب التي لا تعرف الشبع، ورغباتهم في حرية مطلقة لا قيد عليها.. هذه الميول غير المتوازنة تكون قريبة من الإلحاد. فمثل هذه النفوس تقول “من أجل درهم من اللذة العاجلة “فإني أتقبل أطناناً من الألم في المستقبل”. وهكذا يهيئون عاقبتهم الأليمة، وينخدعون باللذة الموهومة التي يقدمها لهم الشيطان ويقعون في شرك الإلحاد مثلما تقع الفراشات التي تحوم حول النار في النار.
وكلما زاد الجهل وزاد فقر الروح والقلب تيسرت غلبة الشهوات الجسدية على المشاعر العلوية. وكما سلم فاوست (Faust)[2] روحه للشيطان، فالشباب يسلمون قلوبهم للشيطان. أجل! عندما تكون الأرواح ميتة والقلوب فقيرة والعقول في هذيان، فهناك طريق واحد وهو طريق الإلحاد. بينما تشكل العقيدة والشعور بالمسؤولية والقلب والروح الغنيان بالتربية والتهذيب أكبر ضمان ليقظة الشباب؛ وإلاّ فإن مجتمعاً تسلط فيه الشيطان على النفوس يتقلب من هذيان إلى آخر ويغير على الدوام محرابه وقبلته، ويسير خلف كل فلسفة جديدة ويعدها منقذة له ويرمي نفسه في أحضانها ليشرب من لبنها.
عندما يستيقظ صباحاً يصفق للفوضوية، وفي الظهر يقف احتراماً للنظام الماركسي/اللينيني، وفي العصر يحيي “الوجودية”، وفي العشاء قد ينشد نشيداً هتلرياً (Hitler)، ولكنه لن يلتفت أبداً إلى جذور روحه ولا إلى شجرة أمته ولا إلى ثمار هذه الشجرة وثقافة أمته وروحها ومدنيتها.
يصعب على هذا الجيل الذي تشوهت نظرته كل هذا التشوه، التخلص من الأهواء والرغبات، ويصعب -وربما يستحيل- إعطاء وجهة صحيحة لذهنه وتفكيره. لذا كان من الضروري تقديم مصطلحات الأفكار التي كانت أساس وجودنا وكياننا حتى الآن، وإيصالها -بأسلوب منظم ومدروس- إلى جيلنا ليصل إلى مستوى القدرة على التفكير السليم والصائب، لأننا مع هذه الشهوات الفردية نكون كما قال الشاعر محمد عاكف:[3]
لا تُصدِّق! إن قالوا لك إن المجتمع،
يمكن أن يعيش… بمشاعر ميتة…
أرني مجتمعاً.. استطاع العيش بمعنويات ميتة!
هناك عامل وسبب آخر للإلحاد، وهو اعتبار كل شيء مباحاً، أي النظرة الإباحية التي ترى الاستفادة من كل شيء موجود مهما كان ذلك الشيء، أي النظرة التي تستند إلى الفائدة والتلذذ من جميع النعم. وتبذل المحاولات اليوم لصب هذه النظرة في قالب فلسفي وفكري منهجي. وعندما أقبل هذا الفكر إلينا جاءنا أوّل مرة في شكل فلسفة فرويدية (Freud) تحت مصطلح “اللبيدو” (Libido) الذي جرح مفهوم الحياء لدينا، ثم طغت عندنا الفلسفة الوجودية لـ”جان بول سارتر” (Jan Poul Sartre) و”كامو” (Albert Camus) فهدمت حصون الحياء عندنا وجعلتها أثراً بعد عين.
هذه الفلسفة التي تجعل الإنسان يشمئز من إنسانيته، والتي ترمي هذه الإنسانية إلى برميل القاذورات والزبالة قُدمت للأجيال على أنها الفلسفة التي توضح الوجه الحقيقي للإنسان. وقد هرع شباب أوروبا في أوّل الأمر ثم شباب البلدان المقلدة للغرب نحو هذا التيار الفلسفي وكأنهم نوموا تنويماً مغناطيسياً. وقد تصورت الإنسانية أن هذه الفلسفة الوجودية سوف تُرجع قيمة الفرد وأهميته، هذه القيمة الفردية التي تضاءلت نتيجة للفلسفة الشيوعية، وأن رجوع القيمة إلى الفرد ستؤدي إلى نمو شجرة الإنسانية وارتفاعها من جديد. ولكن هيهات! فالإنسانية لم تنتبه إلى أنها خُدعت مرة أخرى.
وهكذا فلأن الإيمان بالله والارتباط بمفاهيم الحلال والحرام لا يتماشى مع فلسفة التهام اللذات لهذا الجيل الذي تشوه بهذه الدرجة، نرى هذا الجيل يرمي بنفسه إلى أحضان الإلحاد، لأنه يريد أن يعيش في الجنة المزيفة لـ”حسَن الصبّاح” زعيم الحشاشين.
لقد عرضنا بعض الملاحظات التي تهم من يملك البصيرة من الإداريين والمرشدين والمعلمين في المستقبل لكي يستطيعوا إيقاف تيار الإلحاد. ولكننا لا نعتقد بأن التسيب والهذيان الفكري محصوران داخل هذه الأسباب، كما أن التدابير التي يجب اتخاذها غير محصورة أيضاً فيما تم ذكره. أتمنى أن تستفيق أمتنا في هذا العهد الجديد وتثوب إلى رشدها وترجع إلى نفسها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] هذا يصح بالنسبة إلى تركيا قبل ثلاثين أو أربعين سنة حيث نشأت أجيال محرومة من التعليم الديني. (المترجم)
[2] فاوست بطل مسرحية مشهورة للشاعر الألماني الكبير “جوته” (المترجم).
[3] محمد عاكف: من أكبر الشعراء الأدب التركي المعاصر، ومنشد النشيد الوطي. (المترجم).