إن عالمنا عالم سحري يصل فيه الفن الإلهي والجمال الطبيعي في هذا الفن إلى ذرى سامقة تدوخ فيها الرؤوس وتدور، وتأخذ فيه الجوانب الديناميكية التي تشكل أساس وجودنا المادي والمعنوي إيقاعات متناغمة وساحرة من التناسب. عالم يحتضن فيه الجمالُ الكمالَ، ويحتضن الكمالُ فيه الجمالَ. هذا العالم البالغ ذروة الجمال… الذي يذهل العارفين بالجمال، وينتشي فيه المدمنون على الجمال ويثملون… هذا العالم يصل بمعابده وتكاياه وزواياه إلى أبعاد عميقة من السحر.
لقد كان بلدنا على الدوام مثل مراصد على سـطح الأرض موجهة إلى اللانهاية، وهو بهذه البيوت المباركة يكتسب هيبة كهيبة البحر المتلاطم الأمواج، ثم تتماوج وتتسع سعة السماء بعقيدة الأبدية، وتسيل إلى قلوبنا. ومن منائر ومآذن جوامعنا الضاربة تواريخها في أعماق التاريخ القديم تسيل عقيدة العبودية وفلسفتها بأصوات الأذان من فوق هذه المآذن فترتجف القلوب وتلتمع العيون. أما عندما كانت المشاعر نقية، والأفكار مرتبطة بالآخرة، والشوارع والدروب آمنة، والأسواق والتجارة نـزيهة وبعيدة عن الغش، فإن جمال هذا البلد لم يكن له نظير… كان كأنه قطعة من الجنة، أو زاوية من زوايا السماء.
لقد ألفنا في هذا البلد منذ الأمس إلى اليوم أن ننتظر ساعات العبادة وأن نستمع إلى أصوات الأذان كأنها صرير أبـواب السـماء. وأن نهرع إلى المعابـد -وكأنها منافذ ترصد اللانهاية وترنو إليها- ونمتلئ بدفء العبادة التي تفتح أمامنـا عوالم سـحرية وراء الآفـاق تتماوج فيها الخيالات.
أجل!.. ففي معظم ساعات الأذان وأوقات العبادة نحس كأن ألوان العالم الآخر، وأنفاس الملائكة -التي تسمو بأرواحنا وتطير بها- تملأ جوانحنا، فينقلب الوجود آنذاك إلى حال تنتشي فيها الأرواح، وينقلب الزمن إلى زمن سحري يحمل لنا جمالا غامضا مليئا بالأسرار. ولم أر مثل بلدي موضعا آخر فيه كل هذا الجمال والسحر الذي يبعث حزنا أخرويا رقيقا في قلوبنا، ولا أعتقد أنني سأجد. ويأخذ هذا الجمال مداه في الأيام الملتحفة بالأسرار التي تنـزل فيها السماء إلى الأرض، وتنهمر فيها الأضواء من المعابد، ويبلغ الجمال حالا فوق الخيال حيث نعيش سحر الأرض والسماء.
في مثل تلك الأيام الساحرة تنمحي البيوت المبعثرة حول المعابد، وتنمحي الأزقة والمحلات، ولا يبقى هناك سوى المآذن وسوى الكتابات الضوئية -التي تشكل كرنفالا من الأضواء- المعلقة بين هذه المآذن المهيبة التي تبدو وكأن رؤوسها قد بلغت النجوم. وتنهمر من هذه المآذن أصوات لاهوتية عدة مرات في اليوم، وتحيط بكل الأجواء وتنساب فيها، وتدق أبواب الصدور ومنافذها، وتحتضن الجميع وكل شيء، وتتجول به في الآفاق المجهولة والنيرة لأعماق السماوات، بحيث يحس الجميع أنه محاط بأنوار من عالم آخر، ويتعرف كل آن بإقليم آخر للمعرفة الإلهية، ويصل كل آن إلى عتبة أذواق لدنية أخرى. ولو كان على وعي بهذه السياحة الفكرية لعاش في كل آنٍ في جو آخر من أجواء العرفان وبجو آخر من الشعور لم يألفه من قبل.
إن الصوت الحقيقي والموسيقى الحقيقية لهذا البلد التي لا تصمت في أي ساعة من اليوم، والتي تعبر عن نفسها في كل وقت بأبعاد مختلفة، تأتي من هذه المعابد ومن أنوار العبادات التي تسحر دوما روح الإنسان، وتلهمه العشق والوجد، وتزيد من وجد القلوب ونبضها.
تهمس المعابد أحياناً في أعماقنا همسات معان عميقة وخفية تشرح بها صدورنا، وتشبع حاجات أرواحنا وخيالاتنا، وتقدم للكل حسب عالم فكره ودنياه ما يغني نفسه ويجلب انتباهه.
أحياناً نستمع إلى المعابد بلذة ووجد عميقين كأنها في جوها النوراني تحثنا على رحلة أبدية، فيلفنا قلق من يهمّ برحلة غامضة في طريق سرّي لا نعرف عنه شيئا، فتتصاعد انفعالاتنا وتزداد، وقد نضطرب ويتم فقدُ بعض الترتيب والنظام عندنا، ويظهر بعض الفوضى هنا وهناك. وأحياناً يزداد الجد فنحس بالامتلاء عقب دعاء حار، أو تصفرّ منا الوجوه بخشية دعاء آخر… أحياناً نحس وكأننا نطوي المسافات في الأرض وكأننا في سجال معها، وأحياناً كأننا نذرع السماء ونصل إلى أحوال خارج الزمان وخارج المسافات. ولكن تفكيرنا في جميع هذه الحالات يتركز عليه تعالى في يقظتنا ومنامنا… ندعوه على الدوام ونبحث عن طرق الوصول إليه والاقتراب منه.
يُصدر المعبد على الدوام أصواتا ونغمات مختلفة، ولا يلفه الصمت أبدا… ففي جوّه المضيء هناك على الدوام تمتمة أو همس ما، قد يكون علنيا أو سريا، ولكن لا يستطيع الجميع فهمه. أحياناً يكون هذا الهمس بصورة نغمات مئذنة أو قبة فخمة تلف أفقنا، وتطنّ في كل مكان، ويئنّ كل جانب بصداها المنعكس. وأحياناً تتصاعد من شرفات المآذن أو من منابر المساجد، وتتماوج بلطف في الهواء، وتصل إلى المكان المراد الوصول إليه. وكما ينهمر المطر بعد الوصول إلى درجة معينة من الرطوبة وينـزل إلى الأرض، كذلك تتحول هذه الهمسات والنغمات وتتضاعف وتنهمر على رؤوسنا كقطرات من الرحمة الإلهية.
أحياناً يلف الغموض والخفاء هذه الأصوات، وتطعم أرواحنا برقة عميقة إلى درجة يخيل إلى الإنسان أنه يسـتمع بهذه الأصوات إلى دار العقبى، ويتحاور ويتسامر مع ما وراء الآفـاق. وبين فينة وأخرى قد يشعر بالرجفة تسـري في أوصاله، أو يحس برغبة في إطلاق صيحة فـرح ونشـوة.
نمر في اليوم الواحد بجوار المعبد عدة مرات، ونتملى منظره، ونتمعن فيه، ونملأ أعيننا منه، ويبدو لنا منظره العام كإنسان رفع يديه إلى السماء بضراعة. أما أروقته فكأنها عباد وصلوا إلى السكينة ووضعوا رؤوسهم على الأرض بخشوع. نافورات الوضوء فيه كأنها رجال يحاسبون أنفسهم ويبكون على الدوام. وطيوره كأنها تئن وعلى أهبة الاستعداد للطيران والهجرة والرحلة إلى بعيد. هذه معانٍ عميقة ذات محتويات مهمة بالنسبة إلينا، بحيث لا نستطيع سماع هذا من أكبر فيلسوف أو أي حكيم يبحث عن حقيقة الأشياء وراء الأستار.
لكي تتم معرفة كيف تنساب هذه المعاني وهذا الجمال الموجود في المعبد وتملأ العيون والأفئدة وتشبعها، وكيف تنفذ إلى أرواحنا مثل موسيقى حالمة، فمن الضروري وصول القلب إلى ساحل الإيمان، والتعود على لغة المعبد الخاصة وفهمها والتعود عليها. عند ذلك يمتزج معنى هذا البناء المبارك إلى قلب الإنسان، ويؤثر فيه إلى درجة بحيث تكون أرواحنا لسان حال جوّه وإقليمه، فتردد وتغمغم بالشيء نفسه من عالم المعاني، وصرح صور الجمال في أي حلقة من حلقات السلسلة الذهبية المرتبطة بها.
المعابد أماكن مباركة ومملوءة بأحاسيس ومعانٍٍ أكثر من معاني أفضل لوحات عباقرة الرسم. وإذا استطاع الإنسان مشاهدتها وهي مرتبطة مع المعاني التي تحملها يخيل إليه أنه يتجول ويتنـزه في ردهات سحرية لعالم كعالم الأحلام، ويخطو إلى الأمام وكأنه سيصل إلى الوصال الأبدي بعد خطوات، ثم يكون قيامه وقعوده في ظل الشوق إلى ليلة الوصال ويومه الحبيب.
لقد أصبح المعبد بكل جوانبه بالنسبة لأرواحنا شيئا مؤنسا ومألوفا، وعامرا بالأحاسيس الجياشة والمشاعر الرقيقة. ففي حريمه نسـمع كل مرة شيئا مختلفا، ونحس أحاسيس مختلفة، ونحاول بعبادتنا وأذكارنا التعبير عن هذه الأحاسيس.
في جو المعبد الفوّاح بعطر الحياة الروحية تلتمع أضواء أعماق عوالم كافة السماوات وما وراءها من عوالم الضياء. فهناك مهرجان من أنوار عالم العقبى تبرق على الدوام من شرفاتها وكانها نـزلت من السماء إلى الأرض، ومن شرفاتها هذه تنعكس على القناديل حواليها، وعلى زينة الكتابات بين المآذن، وتنعكس على ثريات الجامع ثم تسيل إلى قلوبنا. وكلما سالت تعمقت أحاسيسنا واغتنت. ولا تنفكّ الأنوار من الهطول على هذه القلوب المهتدية إلى الحق والتي تملك أحلاما وآمالا وأماني بعدد نجوم السماء.
في هذا العالم الذي صيغت جميع محتوياته ومعانيه من الإيمان ومن الفكر ومن العواطف والأحاسيس والشعر، يحس الإنسان من الصمت العميق في أوقات مراجعة النفس ومراقبتها أصواتا شبيهة بأصوات الجنة… ومن الأضواء التي تلتمع فوق العيون وتنعكس على المشاعر، ومن المعاني الدافئة التي تحيط بالأرواح وتحتضنها، لذة خيالية في ليله ونهاره، وفي صيفه وشتائه.
وحتى في الأوقات التي ينغمس فيها البلد في ظلام دامس نجد أن المعبد يستمر-بأسلوبه الخاص وبلهجته الخفية والسرية وببعده اللاهوتي- بتلاوة شعره الخاص. وبينما يغط كل شيء ويغط الجميع في السبات وفي النوم، وبينما يتصارع الظلام مع الظلام في هذه العهود، يقوم المعبد وهو يلتحف بمزايا العهد الراشد وخصائصه، بأداء وظيفته في إبلاغ معانيه بأبلغ لسان وبأوسع المشاعر.
وهو بعد كل هذا يستمر في كل حال من أحواله… بِصَمْته أو كلامه… بظلاله أو نوره… بمعناه ومادته… في سكب إلهامه -بصمت وهدوء- في صدورنا. ونحن نعتقد أن هذا الروح وهذا الشعر وهذا المعنى الممتزج في جميع القلوب المخلصة سيتجدد على الدوام حتى أفول أعمارنا وغروبها بكل الألوان والأنوار الخاصة به.