إننا نرى في جميع الكون، في باطن الأشياء والأحداث، وفي ظاهرها، قدرة الله الباهرة بجلاء، كما نرى انتظامًا رياضيًّا محكمًا يمتد من عالم الذرات إلى عالم المجرات ، مثلًا، إذا ألقينا نظرة إلى الذرة وحللنا طريقة عملها، بدءًا من النواة التي تشكل الجزء المركزي منها، ووصولًا إلى البروتونات والإلكترونات التي تتحرك داخل النواة، سنكتشف أن ثمة نظامًا رياضيًّا مذهلًا داخل الذرة، وعلى الرغم من أن الذرات كائنات شبه مستقلّة، إلا أنها تتجمع لتكوّن مستعمرات، ومن هذه المستعمرات تتشكّل الجزيئات.
وإذا درسنا المنظومة الشمسيّة من زاوية الإشعاع وحقل جاذبية الشمس فسنرى أن ثمة تناسبًا قويًّا بين الشمس وكواكبها، ويبلغ هذا التناسب حدًّا لا يمكن تجاهله، إذ في كثير من الأحيان نلمح تأثير التقلبات الخاصة التي تحصل في الشمس على سطح الأرض وتضاريسها، وهذا التأثير يتناسب طرديًّا مع حقل جاذبية الشمس وحالة الإشعاع فيها.
يقول “فورسد” (Forsed): “فكما يوجد انسجام بين خليةٍ وخلية أخرى، فكذلك يوجد انسجام وتناغم بين أجزاء الكون كله”.
مثَل الخلية كمثَل الحكومة شبه المستقلة، تتمتع فيها القيادة باستقلال ذاتي، وتعمل على الحفاظ على بنيتها؛ حيث تقوم بإرسال حاجاتها إلى المركز المسؤول عنها، ثم يقوم هذا المركز بنقل الطلب إلى مركز أعلى، وبعد ذلك يتم توصيل رزق هذه الخلية ونصيبها إلى عتبة بابها وفقًا لقائمة الحاجات التي قدّمتها من قبلُ إلى المركز المسؤول، كل خلية تقوم بالإنفاق باستقلالية تامة، ثم تقوم دُوَيلات الخليات هذه، بالتجمّع والانضمام إلى بعضها البعض لتكّون بذلك دولة اتحاد كبيرة.
هذا الترابط العجيب والانسجام البديع بين الأشياء ما هو إلا أثرُ وعيٍ وإدراك عظيم، وإن ما يقوله هؤلاء الذين لم يدركوا حقيقة المسألة، لا يتعدى عبارات الذهول والحيرة والاندهاش، ظنًّا منهم أن مصدر هذا الوعي والإدراك هو الطبيعة، لذا لا يجدون حيلة سوى الاندهاش والحيرة أمام التدبير العظيم، أمّا نحن فنعبِّر عن حَيرتنا وإعجابنا بهذه العبارات الجميلة التي تقول: “سبحان مَن تَحيَّرت في صُنْعه العقولُ”. أجل، إن الذات الإلهية التي انبهرت العقولُ أمام آثار قدرتها، منزَّهة عن العجز والنقصان.
فكلّ خلية من بين ملايين الخلايا التي تكوّن الجسد، تبدو وكأنها تملك عقلًا جبارًا تدير به العالم.. عقلًا مثل عقل أفلاطون في ذكائه وفطنته، وكأن هذه الخلايا كلها عقدَتْ اتفاقية فيما بينها، لتؤازر بعضها بعضًا في حماية الجسد وإدامة صحته بقوة، ألا تؤكد عملية الخلايا هذه، على وجود قدرةٍ عظيمة يَخضع لها كل شيء في الكون؟
هذا التآزر المحكَم موجود أيضًا في عالم الذرات الذي تعيش فيه الكائنات الصغيرة بانسجام، وموجود كذلك في الكون الذي تجري في فضائه النجوم والكواكب، وبالتالي فإن الموجات الكهرومغناطيسية، والإشعاعات، تتفاعل فيما بينها بوعي عجيب، ولو لم يكن هذا الوعي التفاعلي، لَمَا استطاعت مجرّة من المجرات -التي تنبض كالقلب وتزداد توسعًا نحو غاية محددة- أن تواصل حياتها، من الواضح إذًا أننا إزاء قوة خارقة وقدرة جبارة، وهذا الترابط المنضبط يؤكد على وجود وعي تفاعلي بين جميع الموجودات.
لِنتأمل الآن: هل الذرة العمياء الصماء العاجزة التي لا تملك عقلًا ولا قدرة ولا إرادة، هي التي أسست هذا الانضباط والتدبير والترابط الذي يمتد من أصغر الأكوان إلى أكبرها، أم الله ذو العظمة والجلال المنزَّه عن النقص، والمتّصف بجميع صفات الكمال؟
إن صاحب القدرة اللانهائية سبحانه يَعِد بأن هذا الكون الذي خلقه كتابًا، سيطويه يومًا لينشره في يوم آخر من جديد، وما دام هو القائل، وما دام الأنبياء والصديقون والأولياء المعنيون بهذا الموضوع يشهدون على ذلك، فإن البعث سيتحقق بكل تأكيد، فعلينا أن ننظر إلى البعث على اعتباره واجب الوقوع وليس ممكن الوقوع.
يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ (سُورَةُ النَّبَأِ: 78/18-19)، إنه مشهد رهيب، حيث يجتمع الناس أجمعون والجن أجمعون في ميدان الحشر للإجابة على أسئلة “الأمانة الكبرى” التي تحمّلوها، وتحضر الملائكة والكائنات الأخرى كذلك شاهدة عليهم، وما أكثر الآيات القرآنية التي تلفت الأنظار إلى دهشة مشهد الحشر ذلك.